عندما ينكر الإنسان وجود رب لهذا الكون، ومتصرف فيه، يدبر أمره بعلمه وحكمته، ويجري أحداثه بإرادته وقدرته، فلا يقتصر الإلحاد على إنكار وجود الإله فقط، بل يمتد أيضًا إلى نقد الأديان وتأثيراتها على المجتمعات، وأيضاً عندما يعتبر أن الكون أو مادته الأولى أزلية، ويصدر للآخرين أن تغيراته قد تمت بالمصادفة، أو بمقتضى طبيعة المادة وقوانينها، واعتبار ظاهرة الحياة وما تستتبع من شعور وفكر وممارسة، حتى قمتها عند الإنسان من أثر التطور الذاتي في المادة؛ فهذا هو الإلحاد بعينه.
هنا يتوجب علينا أن نبصر ونتوقف للبحث عن أسباب الإلحاد المعاصر الذي بدى منتشرًا في ربوع الأرض، وأضحت شروره تطفو على السطح وتتغلغل في وجدانيات الشباب على وجه الخصوص؛ لذا بات أن نعيد النظر في صورة التربية الأسرية التي لا تحض على ممارسة الشعائر الدينية ولا تعضد القيم الخلقية والدينية والمجتمعية ولا تهتم بتطبيق آداب وصحيح العقيدة؛ حيث جل اهتمامها يقوم على مغريات وملذات الحياة دون غيرها.
ووجب علينا إدراك أن العقيدة السمحة السليمة تشكل لبنة الوجدان الصافي، وأن التمسك بضرورياتها أضحى مسار النجاة من فتن يصعب حصرها والسيطرة عليها؛ فمن مسببات الإلحاد المعاصر ضعف التمسك بالشرع الحنيف من قبل المجتمعات التي أضحت لا تقيم للدين وزنًا في ممارساتها وتعاملاتها ولا اعتبار لديها بصريح النصوص الشريعة، مما جعل الباب مواربًا للغزو العلماني الليبرالي وبث الأفكار الإلحادية وما تتضمنه من شبهات فكرية.
وفي هذا الإطار نجد أن هناك ثمة مقومات يتوجب تعضيدها والعمل بصورة ممنهجة من أجل غرسها؛ كي لا يغرق الشباب في موجات الإلحاد المعاصر الذي من أسبابه الرئيسة المناخ المجتمعي الذي لا يعبأ بالقيم والخلق القويم ويشجع على ممارسة النفعية في صورتها البحتة، بما يجعل المناخ العام مهيأ الفرد والجماعة للأفكار المشبوهة التي تؤدي في نهاية المآل للإلحاد.
ونوقن أن التواصل بين بني البشر صار أمرًا بسيطًا ومطلبا رئيس؛ لكن قد يحمل أصحاب الغايات ما يؤمنون به من شرور ومضار لشباب مجتمعات أخرى افتقرت لدعائم الإيمان وطرائقه المحمودة؛ فكان من مسببات الإلحاد المعاصر سرعة تفشي فكر الملحدين ومن ينوبون عنهم بطرائق شتى، إلي جانب انتشار كتاباتهم التي تتضمن غايات الإلحاد والتأثر بما جاء فيها من فكر منحرف وتوجهات مشبوهة تحض على الإلحاد في صورته المباشرة.
ومن المؤسف أن هنالك من يقوم طواعية أو بمقابل على عرض واستعراض شروحات ما تتضمنه مناهج الملحدين بصورة متعددة وبأفكار مبتكرة كي يستقبلها عموم وخصوص البشر ممن يفتقدون الوعي العقدي الصحيح، وهذا ما يحدث بسهوله عبر الفضاء المنفلت الذي يصعب مراقبته وضبطه والسيطرة عليه.
وعطفًا على ما تقدم نؤكد على أن هناك العديد من الطرائق والاستراتيجيات التي يستخدمها الملحدون والتي تقوم على التشكيك في الغيبيات بصورة محضة كالقضاء والقدر والإيمان باليوم الآخر وسائر الشبهات التي تثير فتنًا لدى من يفتقد الإيمان في صورته العميقة والمتجذرة، ومن ثم يقع فريسة لهذه الخبائث الفكرية المتجددة من حقبة لأخرى.
ومن أسباب الإلحاد المعاصر افتقاد الوعي السليم المسؤول والحصانة الفكرية التي تتأتى من وعي صحيح يرتبط بالعقيدة وما يوجهها من تحديات ومعوقات، ومنها تعرضها للشبهات الفكرية المتلونة والتي لا يتمكن الفرد مشوه الفكر من تفنيدها أو نقدها أو مراجعتها بمعيارية التعقل، كما أن صعوبة عقد مناقشات متوازنة أو متكافئة مع الملحدين ومنتقدي الأديان، ومن ثم استغلال أصحاب الوعي المزيف والفكر المشوه وبث الشك في نفوسهم وأوهامهم بالتعارض بين النقل الذي جاءت به العقيدة الوسطية والعقل الذي يستند على أباطيل مادية وفكرية.
ومن أسباب الإلحاد المعاصر إيهام أصحاب الفكر المشوه بأن هناك تعارض بين التقدم العلمي والحياتي والحضاري في مجالات الحياة المختلفة وما جاءت به العقائد من تعليمات سماوية سمحة، كما أن هناك بعض الأفراد يتعرضون لتجارب سلبية، مثل التعصب أو العنف، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في المؤسسات الدينية، وأيضاً لا يمكن إغفال دور بعض وسائل الإعلام والثقافات الشعبية في نشر أفكار الإلحاد وتعزيزها.
ومن الأسباب أيضا تزايد الاختلاط بين الثقافات والأديان قد يؤدي إلى الشك والتغيب عند ضعف الوعي والعقيدة، كما أن بعض الأزمات الاقتصادية والسياسية وعدم المساهمة في العمل والإنتاج الجاد ومساعدة الدولة لتخطي هذه الأزمات ومواجهتها ووضع حلول لها، كل هذا وغيره قد تدفع الأفراد إلى البحث عن إجابات خارج الأطر الدينية؛ ومن ثم يقع في نفوسهم الشك والتشكيك فيقعون في المحظور؛ فالإلحاد المعاصر يمثل ظاهرة معقدة تتفاعل فيها العوامل الثقافية، العلمية، والاجتماعية وفهم هذه الظاهرة يتطلب دراسة عميقة للسياقات التي نشأت فيها، بالإضافة إلى تأثيرها على المجتمعات الحديثة... حفظ الله أبنائنا وشبابنا من شرور الملحدين والإلحاد ومسبباته.