للأوطان أقدار مثل البشر، ولمصر قدر ممتد بأن تكون واسطة العقد فى الشرق الأوسط، وبنظرة جيوسياسية سريعة على المنطقة نتأكد من أن الأزمات والحروب تحيط بمصر من كل حدودها، ربما الحدود الشرقية هى الأكثر وضوحا، ونحن نقترب من عام كامل منذ تصاعد الأزمة فى غزة منذ 7 أكتوبر، ولكن بالاتجاه جنوبا، فإن الحرب الأهلية فى السودان على مدار الشهور الأخيرة تتصاعد، ولو توغلنا أكثر فى الجنوب، فإن «التعنت الإثيوبى» فى سد النهضة هو تهديد مباشر للأمن المائى المصرى بجانب تأزم العلاقات بين إثيوبيا من جهة والصومال من جهة أخرى، وهى الدولة التى ترتبط مع مصر باتفاقيات دفاع مشترك.
أما حدودنا الغربية، فإن ليبيا تعانى انقسامات وحروبا وصراعات منذ ما يزيد على 12 عاما فى ظل حضور عسكرى لبعض القوى الإقليمية والدولية، وحتى الحدود المائية الشمالية لا تخلو من صراعات على مصادر الطاقة، وترسيم الحدود البحرية وأزمات غاز المتوسط، كل ذلك لا يخطئه مبصر ولا يتجاوز عن مخاطره إلا مغرض.
وإذا ظن البعض بأن التهديدات فقط بسبب حروب وصراعات المنطقة، فهو ينظر بشكل قاصر، فإن الأزمة الاقتصادية التى تعانيها مصر، صحيح جزء منها يرجع إلى أخطاء داخلية، ولكنه جزء ليس باليسير يعد مصطنعا ومدارا من قوى ومنظمات إقليمية عبر أذرعها ووكلائها الإقليميين والمحليين، ولا أتحدث هنا وفق «نظرية المؤامرة» أو أننى ألعب على وتر «التخويف»، ولكن الحقائق على الأرض تؤكد أن مصر تتعرض لتضييق اقتصادى كعقاب واضح على موقفها الصلب من القضية الفلسطينية، ووقوفها حائط صد منيع أمام «سيناريو التهجير» ومحاولات تذويب القضية.
إن ما تواجهه مصر اقتصاديا وسياسيا يمثل عقابا نتيجة لصمود الدولة المصرية ورفضها القبول بتلك السيناريوهات الكارثية، وتلك القوى التى تدير تلك الضغوطات قد فشل رهانها على أن الشعب المصرى سيتحرك تحت وطأة الضغوطات الاقتصادية أو أن الحكومة المصرية يمكنها أن تقبل «حزمة تشجيعية» من المساعدات الاقتصادية أمام قبولها بتهجير أهل غزة إلى سيناء أو أنها قد تفرط فى أمنها القومى فى مقابل حفنة من الدولارات.
الدرس الأكثر قسوة الذى لقنته الدولة المصرية لكل تلك الأطراف هو ما قامت به الدولة المصرية من الهجوم بدلا من الدفاع، ومن صياغة «سردية الحقيقة» فى مواجهة «الأكاذيب الإسرائيلية»، تلك السردية التى بدأت منذ مؤتمر القاهرة بعد أحداث غزة بأيام، حين كان الصوت المصرى العاقل الحكيم المدافع عن حقوق الفلسطينين وحيدا، ولكن مع مرور الأيام وبمجهودات مضنية من الدبلوماسية المصرية، توالى انتقال الدولة الإقليمية والعالمية من معسكر «حقوق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها» إلى معسكر «حل الدولتين واستعادة الحق الفلسطينى».
تلك الدبلوماسية الحكيمة لا تعنى أن مصر لا تمتلك سوى الأدوات الدبلوماسية، لدى مصر على كل حدودها خطوطا حمراء، فكما كانت «سرت» خطا أحمر، فإن محور فيلادلفيا خط أحمر، و«حقوق مصر فى غاز المتوسط» خط أحمر، و«مياه النيل» خط أحمر، وكما استعادت مصر حق أبنائها فى ليبيا بكل الوسائل، فإنها قادرة على وقف تلك المخططات بكل الحلول الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، لأنه كما فرضت الجغرافيا على مصر تحديات جسيمة، فإن التحديات تأتى على قدر المقدرات والإمكانيات أيضا، والتاريخ ينبؤنا بأن كل من راهن على النيل من مصر، كان رهانه خاسرا على الدوام.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة