سِتُّ جُثثٍ جديدة عثرَ عليها الاحتلالُ فى واحدٍ من أنفاق غزَّة. لم يعُد أحدٌ فى إسرائيل يتوقَّعُ أن يعودَ الأسرى أحياء؛ بعدما قطع نتنياهو كلَّ الطرق على رجوعهم فى صفقةٍ تُغلِّبُ العقلَ على الجنون، وتضعُ حدًّا للمَقتَلة المفتوحة منذ أحد عشر شهرًا. كما لم يعُد الإفراطُ فى القوَّة، واستعراضُ العضلات على العُزَّل المنكوبين، كافيًا لتحقيق التوازن النفسى للمجتمع العِبرىِّ المأزوم. لقد تشبَّعوا من الدعايات وأعمال الإبادة، وامتلأت أرواحُهم بالوحشيَّة واليأس؛ فلا الولوغ فى مزيدٍ من الدم يُعوِّضُ شُعورَهم بالهشاشة والانكسار، ولا مُراوغة الحكومة اليمينيَّة تُطمئنهم إلى المستقبل الذى صار غامضًا، ليس على مستوى عشرات المحبوسين فى القطاع فحسب؛ بل بالنسبة لملايين يُعاينون تفكُّكَ السرديَّة التى بُنِيَت عليها الدولةُ، وينتقلون جَبرًا من المُواطنة إلى الرَّعَويَّة، على صيغةٍ بدائيَّةٍ لا تنسجمُ مع صِفَة الدولة المدنيَّة الديمقراطية الحديثة.
إذا كان الغزِّيون مخطوفين، بمعنىً أو بآخر، بين هيمنة حماس غير الاختياريَّة، وبَطش الصهاينة النازل عليهم دون سبيلٍ للصَّدِّ أو المُقاومة؛ فإنَّ الإسرائيليين أنفسَهم ليسوا فى حالٍ أفضل، ويعيشون سياقًا يُشبه الاختطافَ أيضًا. صحيحٌ أنَّ أصواتَهم فى صناديق الاقتراع حدَّدت هُويَّة الحكومة الحالية؛ إلَّا أنهم سُلِبوا بعدَها أىَّ حَقٍّ فى الرقابة والتقويم. كانت الأغلبيَّةُ ضدَّ مشروعِ الإصلاح القضائىِّ فى السنة الماضية، وما نجحوا فى ترويض الائتلاف الحاكم أو رَدِّه عن مُغامرة هَضم القانون، وإعادة تكييف المجال العام بما يُمكِّنُ اليمينَ المُتطرِّفَ من مفاصل الدولة ومنظومة عملها. وبينما قادَهم الغضبُ بعد «طوفان الأقصى»، وكانوا ميَّالين جميعًا للتنكيل بالقطاع وإبادة قاطنيه؛ فإنَّ التحوُّلات التى تلت ذلك لم تنعكسْ على توازُنات القُوى فى الداخل، ولا أقامت لهم وزنًا فى ترتيب أولويَّات المرحلة، أو ضَبط خطة الحرب وبَرْمَجة أهدافها. وإذ تميلُ الغالبيّةُ اليومَ للبحث عن مخارج آمنةٍ؛ فإنَّ الأقليَّة تفرضُ رُؤيتَها تحت ستار الديمقراطية التمثيليَّة نفسِه، حتى لو لم تعُد تُمثِّلُ الرأىَ العام وحركيَّةَ الشارع على وجهٍ دقيق.
لا خلافَ على أنَّ الحشدَ الكاسحَ فى إسرائيل يُؤمنون بالصهيونية إيمانًا عميقًا، ويرفضون الآخرَ الفلسطينىَّ رفضًا مُطلَقًا، لا على صِيغَة التعايش والمُساكنة الوديعة فحسب؛ بل فيما يخصُّ الحقَّ فى الوجود أصلاً. والتغيُّر الحادثُ فى البيئة العِبريَّة لا ينبعُ من إنسانيَّةٍ طارئة، ولا إشفاقًا على النساء والأطفال المذبوحين بآلة القتل أو بالحصار والتجويع؛ لكنّه استجابةٌ اضطراريَّة لتبدُّلات الأحوال على جبهة الحرب، واستشعار الخطر بشأن الميثاقيَّة التى التأم عليها اليهودُ من شتات الأرض، وجوهرها أنْ تكونَ فلسطينُ وطنًا نهائيًّا وآمنًا لهم جميعًا. والحادث أنَّ عملية «الطوفان» بما تلاها أسقطت الشعورَ بالأمن، وتُذوِّبُ الفكرةَ الإطلاقيَّة كُلّما استعر النزاعُ أو أفصح الوجود الفلسطينى عن نفسِه بصورةٍ خشنة، فى الصلابة أو الكُلفة الأخلاقيّة، بينما ينسفُ غيابُ الأسرى فى سراديب القطاع طوالَ تلك الشهور، كلَّ ما يُمكن أن يُقالَ عن قُدسيَّة العلاقة بين إسرائيل ومُواطنيها، وأنهم الأولويَّةُ الأعلى للدولة طالما كانوا واحدًا بين خيارين مَعروضين عليها. والمعنى أنَّ الصهيونىَّ لو تقبَّل الحوادثَ الطارئة، وتغاضى عن مسألة السلامة المُطلقة؛ فإنه لا يتقبَّلُ أن يكونَ رهينةً من دون صاحب، ولا أن يتأخَّر لصالح الحسابات التكتيكية؛ ناهيك عن أن تكون شخصيَّةً أصلاً، لا وطنيَّةً ولا تتَّصلُ بمصالح الدولة العليا.
لم تكُن الدولةُ الجديدةُ مُغريةً لليهود من جانب الانسجام العقائدىِّ فقط، أو تحقيق السيادة الروحيَّة تحت غطاءٍ سياسىٍّ بعد قرونٍ من الضياع والتشريد. لقد تأسَّست الأُمثولة الطوباوية للمُجتمع التوراتىِّ على منفعةٍ ماديّة مُباشرة، قُوامها الوعدُ بالفُرصة دون المُنغّصات، وحجّية الجنسية ومزاياها فى الحياة والموت؛ وبهذا يصيرُ الفردُ مشمولاً بالحماية الدائمة. وفى تجاربَ عديدةٍ سابقة ابتلعت إسرائيلُ مرارةَ الهزيمة أو التفاوض المُذلّ؛ لأجل أسيرٍ حَىٍّ أو رفاتٍ مُتحلِّلة. وإذ يشهدون اليومَ على عجزٍ كامل عن استعادة الأسرى؛ بل وتهاونٍ مُزرٍ يتسبَّب فى إماتتهم، فإنَّ القيمةَ الأسمى التى كانت تُقدّمُها إسرائيلُ لمُواطنيها باتت محلَّ شَكٍّ، وتحوَّلت الدولةُ من وسيلةٍ لخدمة الغاية العِرقيَّة المُمثَّلة فى الدين، إلى غايةٍ قائمة بذاتها، يُوظِّفُ الدينَ والعِرق وخزَّان الأرواح فى خدمتها. وإن صحَّ هذا لدى الفلسطينيين؛ فإنه لا يُناسبُ أعداءهم، ويخلُّ بالشروط التى تعاقدوا عليها مع الوطن البديل.
إنَّ آلافَ الغاضبين اليومَ لا يطلبون الأسرى لرباطٍ عضوىٍّ مُباشر. قليلُهم من ذوى المخطوفين، والأكثريَّةُ يُدافعون عن أنفسهم بصورةٍ استباقيّة. ما يعنى أنهم باتوا يخشون على ذواتهم من إسرائيل، ربما بأكثر ممَّا يخافون على الدولة من أعدائها. ربما تَصلُحُ الديمقراطيّةُ هُنا لتفسير موجة الغضب الشعبيَّة من حكومة نتنياهو، وافتتاح موسم النقد والمُساءلة قبل أن تضع الحربُ أوزارَها. فى الظَّرف شىءٌ من الديناميكية ورغبة التصويب، وما يُمكن أن يُحمَلَ على فضيلة المُراجعة والاعتراف بالخطأ؛ لكنّه فى الوجه العميق يُعبِّرُ عن شكوكٍ حقيقية فى صِفَة المُواطنة التى قدَّمتها الصهيونيَّةُ لجمهورها، وأنهم فى النهاية لا يتفوَّقون على الفلسطينيين كما يتوهَّمون، أو كما قِيْلَ لهم لعقودٍ سابقة؛ إذ فى النظرة الأخيرة تتعاملُ معهم الدولةُ بوَصفهم حَطَبًا فى المَجمرة المُقدَّسة. وإذا سُوِّقَ لهم قَتلُ الآخر باعتباره تحصينًا للذات، ودفاعًا عن الوجود الآمن المُستقرّ بالأظفار والأنياب؛ فعلى أيَّة صورةٍ يُمكن تصوير التضحية بهم، أو رضاهم بتلك المُعادلة فيما يُشبه الانتحار الرخيص وغير المُبرَّر؟! إنهم لم يُبدِّلوا أفكارَهم عن الصراع، ولا دخلت الإنسانية صدورهم العامرة بالتوحُّش وفتنة الدم؛ لكنهم قلقون من النيران الصديقة، ويرفضون الاستتباع الذى يفرضونه على الخصوم، وقد اكتشفوا أنهم غير آمنين من حلقة النار؛ بل يُمكن أن يُزَجُّوا فيها بأيدى إخوتهم فى الميثاق والاعتقاد، وأن تقوم الدولةُ على عظامهم بقدر ما تعتملُ تُروسُها فى أشلاء الغزِّيين.
لنكن صُرحاءَ وأقل تسليمًا للشعبويّة وتأثيرات العداوة على العقل. إسرائيلُ ليست بلدًا خفيفًا، وعناصرُ قُوَّتِها الشاملة مُتعدَّدةٌ وعاليةُ القيمة. مَعرفةُ العدوِّ أوَّلُ الطريق لمُواجهته، والوعىُ الجادُّ وغيرُ المُزيَّف بالذاتِ ضمانةُ أن تكون المُواجهةُ فعّالةً ومُثمرةً. والحال أنَّ الحديث عن هزيمتها فى الميدان، وفقَ الظروف الراهنة على الأقلّ، من قَبيل الرومانسيَّة الساذجة أو تجارة العواطف الرديئة. ميزانُ القوَّة مائلٌ لصالحها، والدعمُ الغربىُّ كاسحٌ ولن يُخلِفَ معها مواعيدَه؛ ولو وصلت إلى الحرب الإقليمية الشاملة، والمنطقةُ بين دُوَلٍ جَرَّبت الصراعَ وتوصَّلت إلى ما يُناسبها فى إدارتها، وأُخرى تخلَّت عن التجربة أصلاً، وتُلاقى الولاياتَ المُتّحدةَ على تُصوُّرِها لهندسة الإقليم. ويتبقَّى «محور المُمانعة» بمزيجه غير المُتجانس؛ إذ تتصارع فيه الأُصوليَّاتُ بين رجعيَّةٍ سُنّيةٍ لها أهدافٌ حركيَّة «فوق وطنية»، وشيعيَّةٍ مُسلَّحة تُغطِّى أجندتَها الصَّفَويّة بعباءة الاعتقاد وهالة القضيَّة اللامعة، وقد تكشَّفت على مدى الأسابيع الطويلة الماضية حقيقةُ البؤس الذى يُسيطر على وَعيها بذاتها، وأنَّ حناجرها تسبقُ كثيرًا قُدراتها الحربيَّةَ واللوجستيّة. ولا سبيلَ فى هكذا سياقٍ إلَّا اللعب على طُول النَّفَس، والرهان على أن تُؤتِى المُناورةُ ما لم يتحقَّقْ بالمُكاسَرة، مع انتظار أنْ تتضخَّمَ التناقضاتُ البينيَّةُ وتتعاظمَ شُقوقها؛ لتُلقِى على أكتاف إسرائيل من داخلها أضعافَ ما أُلقِىَ عليها من الخارج، وأشدّ منه أثرًا وفاعليَّةً بالضرورة؛ لا سيَّما أنها تنبعُ من الحظيرة نفسِها، ولا تنفعُ معها سرديَّاتُ الخطر الوجودى ودعائيَّاتُ الاحتباس فى مُحيطٍ معادٍ.
القَصدُ هُنا ليس أن تتخلَّى الفصائلُ عن المُقاومة، ولا أن تعتصمَ بالسلاح دون السياسة أيضًا. المهمَّةُ واضحةٌ لا لَبسَ فيها، ولا تقبلُ التصحيفَ والمُفاضَلة؛ وهى أن تلتئمَ الجبهةُ الفلسطينية على أجندةٍ وطنيَّةٍ جامعة، وألَّا تُفرِّطَ فى عناصر قُوَّتِها المُتاحة، من الرصاص إلى الدبلوماسية وما تبقَّى من شرعيَّة أوسلو. ثمَّ أن يكونَ توظيفُ الأدوات كُلِّها، والتبديلُ بينها، ناشئًا عن حساباتٍ ميدانيَّةٍ وسياسيَّةٍ ناضجة، لا تُهدرُ الثوابتَ قَطعًا؛ إنما لا تتّخذها عِجلاً مُقدَّسًا يُخفى أغراضًا دَنيّة، ولا تضعُها فى وجه العاصفة بخِفّةٍ عاطفيَّةٍ أو استخفافٍ سُلطَوىّ. ورغم أننى شخصيًّا لستُ من المُغرمين بالحديث عن اليسار الإسرائيلى، ولا المُراهنة على المُنظَّمات الحقوقية وما تُوصَفُ منها بأنها حركاتٌ داعمة للسلام. لا أُزايدُ على الذاهبين فى هذا المسار بحُسْنِ نِيَّةٍ، ولا أقصدُ القَولبةَ والتنميط إطلاقًا؛ إلَّا أنَّ فكرةَ إسرائيل فى جوهرها يمينيَّةٌ مُتوحِّشةٌ ومُعاديةٌ لركائز الأخلاق والإنسانية وقيم الماركسية وكل الشعارات الشريفة، إذ لا يسار ولا خطابات حقوقية تنسجم مع مُمارسات الاستيطان الإحلالى، وإلغاء الآخرين واقتلاعهم من أرضهم. والصورة هكذا؛ فإننى لا أدعو إلى تناقُضٍ كما قد يُخَيَّلُ للبعض؛ إنما المُرادُ أن تُدارَ العمليّةُ النضالية بمنطقٍ وسيطٍ بين الذاتية والموضوعية، لا يكون الكيانُ الصهيونىُّ فيه كُتلةً مُصمَتةً على صِفة العداوة الراديكالية؛ إلَّا بقدر ما تتجمَّعُ عليه عناصرُه من سلوكيات عدائية واستفزازية، أمَّا ما يقعُ بينهم من شِقاقٍ ونزاعاتٍ فإنَّه من حِصَّةِ المُقاومة فى التركة، ويجبُ العملُ على استثماره وتنميته بكُلِّ السُّبل المُمكنة، أكان بالشِّدَّة وقتما يتطلَّب الظرف، أم باللين عندما تكون المُلاينةُ عاملاً فاعلاً لإبراز العِلَل وتضخيمها.
والرجوع البصير على خطِّ الزمن؛ إنما يكشفُ عن انتفاع اليمين الصهيونى، توراتيًّا كان أم قوميًّا، من خشونة خطاب الأُصوليَّة الإسلامية الذى فاقَ قُدراتها العمليَّة فى أغلب الأحيان. وعلى قَول اللبنانيين؛ فإنَّ «الذبح بالقُطنة» قد يكون خيارًا فاعلاً فى إدارة الاشتباك مع العدوِّ، وانتظار أن تُنتجَ التفاعُلات تغييرًا فى تركيبته السياسية، أو تعميقًا لنزاعات مُكوّناته الاجتماعية؛ لا سيما أنه ما يزالُ لليوم بعيدًا عن التجانُسِ الكامل، وعن رواسب الانتماءات الثقافية والعرقية التى حملها المهاجرون معهم من بيئاتهم الأُولى. وذبحُ القُطنة المقصود ليس ما قاله حسن نصر الله، وكان يُبرِّر به التراخى عن سداد ما ألزموا أنفسهم به حينما تحدّثوا عن «وحدة الساحات» أو إسناد غزّة؛ إنما أن تكون المسألة محسوبة على مازورة فلسطينية خالصة، لا تمتصُّ فيه القُطنة من الخارج أوساخه فحسب، بينما يُذبَح زارعوها فى الداخل فى حماية المشاغلة الشيعية، والغبار الذى يُثيره المُمانعون فى الميدان دون فاعليّة حقيقية، أو كفاية القضية شُرورَهم.
أُنفِق كلامٌ كثيرٌ منذ الطوفان عن «اليوم التالى». دفعت الولاياتُ المُتّحدة العنوانَ المُستقبلىَّ إلى الواجهة؛ ليتقدَّمَ على الراهن ويصرفَ الأنظار عن الالتزامات العاجلة. وبعيدًا من باعث التعمية والتضليل وتزييف الوقائع؛ فإنَّ سُؤال ما بعد الحرب يبدو غائبًا عن أذهان الفصائل من ناحيتين: البرنامج السياسى لغزَّة ثم للقضية بكاملها، والنظر إلى «اليوم التالى» فى إسرائيل نفسها. إنَّ إسكات البنادق الآن؛ على أولويَّته وإلحاحه، سيضعُ الجميعَ أمام امتحانٍ قاسٍ لم يتحضَّروا له. الانقسامُ ما زال حاكمًا، ولا تصوُّرَ عن طبيعة إدارة القطاع فى المرحلة المُقبلة، بعدما صار كومةً من الطَّلَل والأشلاء، وحشدًا هادرًا من المنكوبين والمعطوبين نفسيًّا. فضلاً على أنَّ تل أبيب ستدخلُ فى زمن المُحاسبة وتصفية تركة الإخفاق، وإذا كان مُواطنوها على موعدٍ مع باقةٍ واسعة من الخيارات، فى ضوء ما تكشَّف عن أشهُر الانحلال وافتضاح هشاشة الدولة ومُقامرتها بسلامتهم؛ فأهلُ القضية مُلزَمون بالتفكير فى الأمرين معًا، أى اليوم التالى هُنا وهناك، بمعنى تجفيف برِكَة الدم ورواسبها المادية والمعنوية؛ بما يفتحُ الطريق لبدء فترة التشافى والنقاهة، والضغط بكلِّ الأدوات المُتاحة على عَصَب الدولة العِبريَّة، وبيئتها الاجتماعية، للتأثير فى القرارات المُرتَقَبة على المدى القريب، أو تعميق الشكوك والمخاوف بشأن ميثاقية الوطن اليهودى، مع ما يُحدثه ذلك من أثرٍ على انتهاج مسالك مُغايرة، أو تطويق التيَّارات والأفكار الدافعة لإعادة إنتاج التجربة نفسِها. وإذا كانت إسرائيلُ تربحُ فى الخارج دائمًا؛ فلا مناصَ من اختصامها فى الداخل، واللعب بغرض أن تنهَزِمَ ذاتيًّا، أو على الأقلِّ يتكفَّلُ بعضُها الخائف بإضعاف البعض المجنون.
الموقفُ المطلوبُ يبدأ من ترميم البيت الفلسطينى، ومن بدءِ الاشتغال على البرنامج السياسى منذ الآن؛ وقبل أن يتوقَّف دوىُّ الرصاص وتجفَّ نافورةُ الدم. فِقهُ الأزمة ومَنطقُ ألَّا يعلو صوتٌ على صوتِ الميدان لا يصلحُ للتبرير، ولا تضييعُ الوقت بعيدًا من الحلول التى لا بديلَ عنها. وإذا كان نتنياهو يُبرِّر جُمودَه بشبح «حماس» الماثل فى المشهد؛ فإنَّ رجوعَ الحركة خُطوةً للوراء، وتقديمَ السُّلطة فى صورةٍ مُحسَّنة، لا يُعيدُ بناءَ المُتهدِّم الوطنىِّ فحسب؛ بل يضغطُ على زعيم الليكود وعصابته فى بيئته، ويُعزِّز أصواتَ رافضيه والمُعترضين على إدارته للمواجهة. كانت العمليَّاتُ الانتحارية فى التسعينيَّات حِصّةَ الأُصوليَّة الإسلامية فى إفساد أوسلو، بينما تكفّلت الأُصوليَّةُ الصهيونيَّةُ بالبَقيَّة مع اغتيال رابين وما بعده، والعودةُ للآليَّة نفسِها الآنَ قد لا يضرُّ العدوَّ ولا يفيد القضية، بل على العكس يُعزِّز سرديَّةَ الحكومة المُتطرّفة ويُضاعِفُ الانحياز الغربىَّ فى سياقٍ مُزدحمٍ بالوَصْم والتشويه. والمُبالغة فى استهلاك فكرة الذُّعر والاغتباط بها، وهى حقيقية قطعًا؛ تُغامر بالجوهرىِّ المُستدام لنشوةٍ ظرفية عابرة. الهلعُ يُربك الخصم؛ لكنه لن يهدمَ دولتَه؛ بل قد يُنتجُ مزيدًا من الوحشية والجنون. الضمانةُ الوحيدة لصَرفه فى حساب القضية، أن تُفتحَ مساراتٌ مُوازية له تُبرز التغيُّرَ فى البيئة الفلسطينية، لتُشجِّعَ البحثَ عن تغييرٍ على الطرف المُقابل. كلُّ ما يُضيف لحصّالة التوراتيِّين والقوميين لا يُمكن أن يكون لصالح القضية، وتخادُم الأُصوليَّات من الطرفين يكتمُ بقيّة الأصوات ويسدّ المنافذَ البديلة. عِلّة الصهيونية كامنةٌ فى داخلها، ويجب اللعب عليها؛ أمَّا مصادمتها على طريقة المُمانعة فإنها أقرب إلى المُداوة والترميم، ويتعيّن ألا تأخذهم العِزّة بالإثم بعدما ثبت الخطأ بالتجارب المتكررة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة