عندما ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطابه أمام الكونجرس الأمريكي، بدت حالة من الجدل حول حجم الانقسام الذي تعاني منه واشنطن، جراء احتشاد الجمهوريين، مصحوبا بتصفيق متواتر مع كل جملة يطلقها رئيس حكومة الدولة العبرية، يقابله من الجانب الآخر مقاطعة ديمقراطية، دفعت إلى غياب أبرز عناصر الحزب، وعلى رأسهم نائب الرئيس كامالا هاريس، والتي تترأس جلسات مجلس الشيوخ، ضمن صلاحياتها، بالإضافة إلى كونها المرشحة للانتخابات الرئاسية المقبلة أمام الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو ما دفع إلى الحديث عن حالة الانقسام السياسي في الولايات المتحدة، حول سلوك أحد أقرب حلفائها، بينما في الوقت نفسه، أثار التساؤلات حول نطاق الخلاف بين رؤى الحزبين تجاه الوضع في غزة، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والمرتقبة في نوفمبر المقبل.
ولكن بعيدا عن حالة الانقسام في الداخل الأمريكي، والتي تتجاوز في جوهرها أزمة غزة، فيدور التساؤل الأكثر أهمية بالنسبة لدول الإقليم، حول الكيفية التي تتعامل بها مع الإدارة المقبلة، سواء فاز ترامب، أو انتصرت هاريس، في ضوء المعطيات التي عكست قدرا من الاختلاف في الداخل، ليس حول المبدأ القائم على دعم إسرائيل، والذي يعد أحد ثوابت الدبلوماسية الأمريكية، وإنما في الكيفية التي يمكن بها ترويضها، في ضوء تمرد اليمين الحاكم على الحليف الداعم لها منذ قيام الدولة العبرية في الأربعينات من القرن الماضي، إلى حد كشف عورات الانقسام غير المسبوق، والذي بدا في مقاطعة أحد قطبي السياسة الأمريكية لخطاب نتنياهو، بينما استزاد القطب الأخر في التصفيق والإشادة والدعم.
وفي الواقع، يحمل مشهد التصفيق المتكرر، من قبل الجمهوريين، لكل كلمة يطلقها نتنياهو، قدرا كبيرا من المكايدة السياسية، للمنافسين في الداخل، خاصة وأن المشهد تكرر قبل 9 سنوات، قبيل التوقيع على اتفاق إيران النووي، عندما حاول نتنياهو استمالة الجمهوريين، لمنع الاتفاق، وهو الأمر الذي فشل فيه نظريا، ولكن نجح عمليا بعد صعود ترامب إلى السلطة بعدها بأقل من عامين، ليعلن انسحاب واشنطن من الاتفاقية، وهو ما ساهم إلى جانب قرارات أخرى، في ترويض الحليف العبري، الذي بدا داعما لإدارة الرئيس السابق، والمرشح الرئاسي الحالي، خلال سنواته في البيت الأبيض.
ولكن تبقى الحالة الإيرانية مختلفة تماما عن الوضع في غزة، على خلفية العديد من المعطيات، أبرزها أن الاتفاق مع طهران جاء دون توافق إقليمي، في منطقة الشرق الأوسط، في ذلك الوقت، على عكس الأمور في القطاع، والذي يشهد انتهاكات إنسانية صارخة، وتداعيات إقليمية كبيرة، قد تأكل الأخضر واليابس حال الفشل في احتوائها، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط، وإنما في العالم بأسره، وفي القلب منه دول المعسكر الغربي، والتي تعاني جراء أزمات متفاقمة، على خلفية الأزمة الأوكرانية، ناهيك عن اتساع نطاق الحرب التي تخوضها إسرائيل، لتمثل تهديدا صريحا للتجارة الدولية والاقتصاد العالمي.
وهنا ينبغي النظر إلى السياسة الأمريكية خلال المرحلة الحالية، عبر مسارين متوازيين، أولهما يتجلى في رؤى الإدارة الحالية برئاسة جو بايدن، والذي يجد امتداداه في نائبته هاريس، حال فوزها في انتخابات نوفمبر، من جانب، بينما يقوم المسار الآخر، على الدبلوماسية البرلمانية، والتي يتبناها الكونجرس، والذي يحظى بأغلبية جمهورية، بعيدا عن المشهد الهزلي، الذي صاحب خطاب نتنياهو، من جانب آخر حتى يتسنى لنا تقييم المستقبل، فيما يتعلق بأزمة غزة أو غيرها من القضايا الإقليمية.
فلو نظرنا إلى الزيارة التي قام بها وفد الكونجرس، برئاسة السيناتور الجمهورية جوني إرنست، إلى مصر، يمكننا استلهام العديد من الحقائق، أبرزها هزلية مشاهد التصفيق المتكررة، للرفض الإسرائيلي المطلق لوقف إطلاق النار، خلال خطاب نتنياهو، والتي طغى عليها مكايدة الخصوم الديمقراطيين، قبل انتخابات نوفمبر، وهو ما بدا في تأكيد الوفد على الحاجة الملحة لوقف إطلاق النار، وإنجاز صفقة تبادل الأسرى، بينما يعكس في اللحظة نفسها إدراك مختلف ألوان الطيف السياسي في الولايات المتحدة، سواء المتواجدين حاليا في الإدارة أو منافسيهم بالكونجرس، ليس فقط أهمية الدور المصري ومركزيته، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وإنما أيضا مرونة الدبلوماسية التي تتبناها القاهرة، وقدرتها على التعامل مع مختلف الإدارات.
ولعل الحديث عن مرونة الدبلوماسية المصرية، في التعامل مع الإدارات الأمريكية بمختلف توجهاتها، يبدو واضحا في السنوات العشر الماضية، والتي تعاقبت خلالها 3 إدارات تحمل توجهات مختلفة، بدءً من إدارة أوباما، ثم ترامب، وحتى الإدارة الحالية برئاسة بايدن، وهو الأمر الذي يرجع في الأساس إلى التحول من نهج التبعية المطلقة، نحو سياسة الشراكة القائمة على التوافق، من أجل تحقيق المصالح المشتركة، والتي عكست برجماتية مصرية، نجحت باقتدار في تحقيق طفرة كبيرة في الدور المصري، ربما بدا واضحا مع اندلاع أزمة غزة، والتي تعد الاختبار الإقليمي الأصعب منذ حقبة الربيع العربي، خاصة مع الجهود التي بذلتها القاهرة لتعزيز حالة الصمود في مواجهة محاولات إعادة نشر الفوضى التي يسعى إليها الاحتلال، ناهيك عن كونها قبلة زعماء العالم، من أجل الوصول إلى حلول جذرية فيما يتعلق باللحظة الراهنة المرتبطة بالعدوان، وإنما أيضا بتحقيق استقرار مستدام، يفضي إلى مفاوضات تقود إلى حل نهائي يتناغم مع الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، عبر تأسيس دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وهنا يمكننا القول بأن زيارة وفد الكونجرس للقاهرة، هي انعكاس صريح لإدراك مختلف ألوان السياسة الأمريكية لأهمية الدور المصري من جانب، بالإضافة إلى نجاح الدولة المصرية في التعاطي مع مختلف الإدارات، باختلاف توجهاتها، يمينا أو يسارا، فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية الملحة، من جانب آخر، بينما يقدم مؤشرا عمليا على حالة الهزل السياسي التي طغت على المؤسسة التشريعية الأمريكية أثناء خطاب نتنياهو، خاصة إذا ما نظرنا إلى تصريحات المشرعين الأمريكيين على هامش الزيارة، والذي بدا متناقضا مع صفقوا له خلال حديث نتنياهو أمامهم قبل أكثر من شهر.