على مدى سنوات عمره واصل نجيب محفوظ عمله بدأب وإصرار، بصرف النظر عن النتائج، وبدا طوال الجزء الأول من رحلته الإبداعية كأنه يكتب لنفسه ولتلبية نداء ذاتيا، ولهذا قدم مشروعا مكتملا، يكاد يكون هو المشروع الأدبى الوحيد المكتمل.
وسط كل هذا لم يجد نجيب محفوظ نفسه بحاجة إلى شرح أعماله، أو الرد على منتقديه، وخصومه، وزملاء من عالم الأدب سعوا إلى انتقاد مواقفه، وخاصة بعد حصوله على جائزة نوبل، وبالرغم من حالة الفرح لدى الجمهور العادى وأغلبية المثقفين بفوز نجيب محفوظ بنوبل، اختلفت ردود الأفعال لدى بعض الكتاب الكبار ممن كان بعضهم ينتظر الجائزة، أو يتصور نفسه أحق بها، وعلى رأسهم الدكتور يوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، وكانا قد تمت تزكيتهما للجائزة، وأعلن الدكتور يوسف إدريس أنه الأحق بالجائزة، ثم أدلى بأحاديث صحفية قال فيها: إن نجيب محفوظ حصل على الجائزة العالمية بفضل الصهيونية العالمية، وهى مفارقة من أديب أراد أن يفوز بجائزة، عاد ليهاجمها بعد أن ذهبت بعيدا عنه، وبجانب إدريس كان هناك أدباء مغمورون أو نصف معروفين كرروا هذا الكلام، متجاهلين أن نجيب محفوظ كان صاحب المشروع الروائى الأكمل الذى يقدم تاريخا اجتماعيا لمصر طوال ثلاثة أرباع القرن العشرين، لكن نجيب نفسه يقدم درسا فى الإبداع، عندما يعطى ظهره لكل هذا، بل ويتعامل بنوع من الاكتفاء، وبالرغم من تواضعه كان قادرا على غمز خصومه والسخرية منهم، ومن «عقدهم النفسية».
لم يسع إلى تقديم تفسير أو شرح لمواقفه، وبقدر ما وجد تأييدا من كل التيارات إلا أنه أيضا واجه النقد من نفس هذ التيارات، بعض اليسار اعتبره أديبا يمينيا قبل أن يعود فريق آخر ليراه طليعيا، وقد خاصم اليسار أدب نجيب محفوظ لفترة ليست قصيرة، عندما تعاملوا معه كأديب «برجوازى»، والليبراليون وجدوا فيه ممثلا لمصر ثورة 19، والمتصوفة وجدوا لديه حسا صوفيا، والمعتدلون رأوه رمزا للتسامح، والمتطرفون كفروه وحاولوا اغتياله، والناصريون رحبوا بآرائه المنصفة لمشروع عبدالناصر التقدمى والاجتماعى، وأغضبتهم أعماله التى انتقد فيها التعذيب وغياب الديمقراطية.
وهذا فى حد ذاته نموذج كاشف لطريق التيارات السياسية والأيديولوجية فى التعامل مع نجيب محفوظ، حيث يكشف هذا عن تناقضات تعشش فى هذه التيارات، وتستمر حتى الآن، حيث يبدو المثقفون أو لنقل المتطرفين منهم أيديولوجيا، يغرقون فى الذاتية، ويسعون لإسباغ مواقفهم وأمراضهم على من يكشفون هذا التناقض، ومن أهم من كشفوا عن مجتمع مصر المتنوع كان نجيب محفوظ، الأديب العمومى.
ظل نجيب محفوظ مبدعا قادرا على إثارة الدهشة ولا تزال أعماله جزءا من تراث إنسانى وإبداعى لا ينفد، بل وقادر على إثارة الدهشة لدى أجيال لم تعاصره، بل هو أيضا فى أعماله يقدم تحليلا اجتماعيا لا يزال صالحا وكاشفا عن استمرار الصراعات الطبقية والأيديولوجية بالرغم من مرور ما يقارب القرن، وتعرض لهجوم من جهات مختلفة، من اليسار واليمين، لكنه ظل يسير فى طريقه كبناء أدبى، يقدم تاريخا اجتماعيا وسياسيا لمصر، قادرا على تقديم آرائه بشكل يخلو من الخطابة أو الادعاء، وهو ما يضاعف من قيمته الأدبية، والفلسفية، وقد نجح فى تغليف الفلسفة العميقة فى قالب بسيط للعامة، بل إنه لم يسع إلى التدخل لخلق معارك حول أعماله عندما تحولت إلى السينما، وظل يتمسك برأى أنه مسؤول عن الأعمال المكتوبة، بينما المخرج والسيناريست مسؤول عن التصور المرئى.
وفى كل هذا يقدم نجيب محفوظ بجانب أعماله الخالدة، دروسا فى «عدم الالتفات»، أو السعى لشرح أعماله أو مقاصده، وربما لهذا نجح فى حين تراجع خلفه هؤلاء المشغولين بذواتهم، وحتى هؤلاء قدمهم فى أعماله باحتراف وقدرات هائلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة