تناولت أعمال أدبية كثيرة شخصيات من "أصحاب الهمم"، أو ذوي الاحتياجات الخاصة.. وأغلب هذه الأعمال كشف عن قدرات متميزة لهذه الشخصيات، تكاد تتخطى، أو تتخطى بالفعل، قدرات شخصيات أخرى كثيرة من أصحاء الأجساد.. ولعل هذه الأعمال الأدبية قد انطلقت في هذا التصور من تجارب ملحوظة في الحياة نفسها.. فما أكثر الوقائع المعروفة وغير المعروفة التي تؤكد تفوق أصحاب الهمم في كثير من الأمثلة المعروفة عن شخصيات شهيرة، أو غير شهيرة، كانت تمثيلات واضحة على امتلاك قدرات كبيرة رغم ما تعانيه في حاسة من حواسها، أو عضو من أعضاء جسدها.
في هذه الوجهة أستعيد موقفا حكاه الأستاذ حسن عبد المنعم، الذي كان مسؤولا كبيرا بالتليفزيون المصري في سنوات بعيدة جدا، وقد سمعت منه هذا الموقف في إحدى الندوات خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي. روى الأستاذ عبد المنعم أنه كان يحضر اجتماعات في لجنة كان يرأسها طه حسين، وكانت اللجنة تضم أكثر من عشرين عضوا، وفي نهاية كل اجتماع كان طه حسين يقف قريبا من الباب، ويمر عليه الأعضاء ليصافحوه.. وبمجرد أن يمد أحدهم يده إلى طه حسين، وبمجرد أن يصافح طه حسين هذه اليد، كان يتعرف على صاحبها قبل أن يسمع صوته، فيحيّيه بقوله: "مع السلامة يا فلان".. قال الأستاذ عبد المنعم إنه كان يتعجب من هذه القدرة على تذكّر الأيدي وبالتالي تذكر أصحابها، في هذا المشهد الذي لا يصدق.. وفكر في أن يختبر هذه القدرة، فسلم على الدكتور طه، ثم تحرك وتوقف، وعاد إليه بعد دقيقتين ومد يده إليه.. وفور أن صافحه الدكتور طه قال له: "إنت هاتهزّر يا حسن؟!".. وظل الأستاذ حسن عبد المنعم، حتى زمن حكايته لهذا الموقف، يتعجب من هذه القدرة غير العادية.
هذا مثال في الحياة، ومن المؤكد أن هناك غيره أمثلة أخرى كثيرة، ولعلنا نعرف، في تجربة كلّ منّا، مثالا منها.. وقد وجدت هذه الأمثلة صداها في أعمال أدبية متعددة ومتنوعة، في التراث الأدبي العربي وفي التراث الإنساني، وأيضا في الأدب الحديث، العربي والإنساني. وفي هذا المنحى كنت قد أشرفت، قبل سنوات، على رسالة جامعية قام بها باحث أردني ممتاز، هو الدكتور وصفي محمد الروسان، قدم خطة الرسالة عام 2009، وأنجزها بعد ذلك وحصل بها على درجة الدكتوراه.. وقد كان عنوانها (جدلية القدرة والعجز في شخوص ذوي الاحتياجات الخاصة في الرواية العربية)، وقد توقف فيها عند تمثيلات روائية مثل: "خان الخليلي" لنجيب محفوظ، و"عرس الزين" للطيب صالح، و"مالك الحزين" لإبراهيم أصلان، و"نهاية رجل شجاع" لحنا مينة، و"ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، و"مواقيت التعري" لهدرا جرجس، و"رسائل الغرباء" لعبدالمنعم عبدالقادر.
فهذه الروايات تقدم تمثيلات متعددة لشخصيات من ذوي الاحتياجات الخاصة؛ وتصور أنواعا مختلفة من الإعاقات الجسدية والنفسية. وقد حلل هذا الباحث تلك الشخصيات وتوقف عند قدراتها الاستثنائية في كثير من الحالات. وعلى سبيل التذكرة، لنا أن نستعيد شخصية "الشيخ حسني" في رواية إبراهيم أصلان (مالك الحزين)، التي تحولت إلى فيلم (الكيت كات) للأستاذ داود عبدالسيد. والرواية والفيلم، بالمناسبة، أسبق من فيلم "عطر امرأة" الذي قام ببطولته آل باتشينو (عرض "عطر امرأة" عام 1992، بينما كانت الرواية قد صدرت في أوائل الثمانينيات، وصدر "الكيت كات" عام 1991). وقد تناولت الرواية، كما تناول الفيلمان، شخصية "الكفيف المبصر"، أو الكفيف الذي يمتلك قدرات خاصة تجعله، أو تجعله يتصور، أنه يرى أكثر مما يرى المبصرون.
هذه الأمثلة، وغيرها كثير جدا، في الأدب وفي الحياة عموما، تطرح تساؤلات كثيرة، وتستدعي تفسيرات متعددة.. وكلها تؤكد حقيقة إيجابية من الحقائق الماثلة في تجاربنا وآدابنا، كما تؤكد قيمة الإرادة الإنسانية القادرة على تجاوز العقبات، حيث الإنسان الذي يتمسك بأسباب الحياة، لا يمكن أن يعوقه أي عائق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة