منذ واقعة انفجار عدد ضخم من أجهزة الاستدعاء اللاسلكى فى لبنان الشقيق، عاد السؤال يثور من جديد: إلى أى مدى يمكن أن يذهب العالم فى سباق التَسَلُح؟ وما هى حدود الأذى الممكنة من الأجيال الجديدة من الأسلحة؟ وما الذى يمكن أن يحدث إن وقعت مثل تلك الأسلحة ووسائل «الإيذاء عن بُعد» فى الأيدى الخاطئة كالتنظيمات الإرهابية والمنظمات الإجرامية؟
تلك التساؤلات ليست بالجديدة، فقد بدأت تنتشر مع تلك الثورة فى مجالات تكنولوجية كالذكاء الاصطناعى، وما هو مؤكد أن استخداماته لن تقتصر على الجوانب السلمية من حياة بنى الإنسان.
يمكننى أن أقول بثقة أن جيل الثمانينيات والتسعينيات - الذى أنتمى إليه - هو الأكثر فضولا لمعرفة إجابات تلك الأسئلة، فهو الجيل الذى تربى على كتابات الراحل دكتور نبيل فاروق رحمه الله فى مجال الخيال العلمى، حيث كانت مغامرات سلسلته الشهيرة «ملف المستقبل» - التى صدرت أولى رواياتها فى العام 1983 - تدور فى عالم مستقبلى يتصارع فيه العالم وقواه المختلفة على امتلاك أدوات القوة والسيطرة التى تلعب فيها الآلة وفنون «الحرب عن بعد» دور البطولة، وها نحن نرى أن الحاجز بين الخيال العلمى والواقع المعاش لم يعد واضحا.
ألتمس العذر لمن يشعرون بالخوف من مستقبل لم تعد الحرب فيه يقتصر لاعبوها على جيوش نظامية أو حتى ميليشيات مسلحة، بل ضمت متخصصين فى الهجوم عبر فضاء الإنترنت، ولم تعد ساحة القتال مدينة استراتيجية أو منطقة حيوية، بل اتسعت لتشمل أى مكان على وجه الأرض، ولم تعد أسلحتها الدبابة والطائرة والغواصة، بل تقتصر أسلحة بعض حروبها على بضعة من لوحات الأزرار والشاشات.
باختصار، لم يعد هناك شىء اسمه «من هم خارج ساحة القتال فى مأمن»، ولم يعد الخطر مصدره الحصرى تشكيلات قتالية وتحركات حربية، الكل فى خطر، والخطر يمكن أن يأتى من أى مكان.
هل انتقل إليك الشعور بالخوف؟ سواء على نفسك ومجتمعك أو على الحضارة الإنسانية كلها؟ دعنى أخبرك إذن أن ذلك ليس الهدف من هذا المقال، بل العكس: أنا أريد طمأنتك من خلال استعراض تاريخى سريع لرحلة الإنسان وأسلحته مع الإيذاء عن بُعد.
منذ أن اكتشف - أو للدقة «أوجد» - الإنسان العاقل Homosapien الاستخدامات القتالية لأدواته الأولى الحجرية والخشبية ثم المعدنية، كانت من أولوياته أن يلحق بخصومه أكبر قدر ممكن من الأذى، وفى الوقت ذاته يقلل من احتمالات تعرضه هو ورفاقه المحاربين لأى أذى مضاد.
لهذا كان فى سعيه الدائم لابتكار وتطوير أسلحته يضع المعايير التالية للسلاح المثالى:
أن يكون الضرر الناتج عنه كبيرا عند إصابته الهدف، أن يتميز السلاح خفيف الحركة سهل التنقل به وإخفاؤه وتمويهه، أن يستطيع السلاح الوصول لأبعد مدى ممكن رغم دفاعات العدو، أن يكون النطاق المكانى للضرر الناتج عن استخدام السلاح على العدو واسعا.
من هذا المنطلق طوّر الإنسان القديم أسلحته من تلك المستخدمة للالتحام المباشر - كالسيف والرمح الطويل والفأس - لتلك المعتمدة على القذف والرمى كالحربة والقوس والسهم ومقلاع اليد.
بعد ذلك تطورت أسلحته من تلك المخصصة لإصابة أهداف فردية صغيرة أو متوسطة الحجم - كالمقاتلين المشاة والفرسان - إلى تلك الموجهة لأهداف ضخمة كأسوار المدن وأبراج القلاع، فظهر المنجنيق الذى يقذف الحجارة، والعرادة وهى قوس عملاق يطلق سهاما فولاذية ضخمة، والطريف أن فترة الحروب الصليبية شهدت أول تجريم دولى لنوع من الأسلحة، حيث حرم الطرفان العربى المسلم من ناحية والفرنجى الأوروبى من ناحية أخرى استخدام أى من الجانبين المتحاربين سلاح العرادة وسهامها الفولاذية!
ولم يقتصر استخدام المجانيق والقاذفات على حروب البر، بل حملتها بعض السفن الحربية فتطور فن القتال البحرى من مرحلة تضارب السفن بمقدماتها المدببة أو التراشق بالسهام أو جذب السفن بالخطاطيف وانتقال الجنود لسفن العدو والالتحام مباشرة على سطحها مع جنوده.
وتطورت المقذوفات أيضا من الحجارة إلى الكتل المشتعلة بالنيران، والجرار الفخارية الممتلئة بمواد ملتهبة أو متفجرة.. وابتكر الرومان الشرقيون «البيزنطيون» سلاح «النار الإغريقية»، وهو سلاح سرى عبارة عن تركيبة كيماوية تكتموا على مكوناتها، تُقذَف عبر أنابيب ضخمة طويلة نحو سفن العدو فتحرقه ولا تطفئها المياه.
بل وابتكرت بعض الجيوش - كالجيش المصرى المملوكى فى العصور الوسطى - قذائف من السلال والأوعية التى يحتوى بعضها العقارب والثعابين لإرباك جنود العدو، أو تلك الممتلئة بالزرنيخ والأفيون لإصابة جموع الخصم بالتسمم.
شهدت العصور الوسطى كذلك الظهور الأول لما يمكن وصفه بـ«السلاح البيولوجى» عندما قام الحاكم المغولى جانى بك أثناء حصاره مدينة كافا فى شبه جزيرة القرم، فى منتصف القرن الرابع عشر الميلادى، بقذف المدينة بجثث من قضوا بوباء الطاعون، فانتشر المرض فى المدينة، ثم انتقل عن طريق التجار والبحارة الإيطاليين الذين كانوا فى المدينة إلى موانئ البحر المتوسط ومنها لأوروبا وباقى العالم القديم فى الجائحة المعروفة بـ«وباء طاعون الموت الأسود» الذى يعتبر أسوأ جائحة فى تاريخ البشرية!
بعد ذلك عرف سباق التسليح نقلة نوعية بانتشار سلاح المدفع - والذى يُختَلف فى منشئه إن كان الصين فى زمن فتوح جنكيز خان؟ أم العرب فى الأندلس؟ أم الإيطاليين فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر؟ وعرفت الجيوش النظامية المدافع بأحجامها المختلفة وأنواعها الثابتة فوق القلاع، عرفها المصريون باسم «المكحلة» واشتهرت منها «المكحلة المجنونة» فوق سور قلعة الجبل، والمتحركة الميدانية كتلك التى استخدمها العثمانيون فى ضرب القسطنطينية فى زمن محمد الثانى المعروف بـ«الفاتح»، وكذلك فى بداية احتلالهم الشام ومصر فى عامى 1516م و1517م.
وكذلك ظهرت قاذفات الرصاص الأخف وزنا كالبنادق المعروفة بـ«القرابينات»، وكانت فى مراحلها الأولى تحتاج لأكثر من فرد لتلقيمها وتثبيتها والضرب بها، وأسلحة اليد المعروفة عربيا بـ«الغدارة» أو«الكَفّية»، وهى بداية ظهور المسدسات، وتطورت تصميمات السفن لتحمل صفوفا من المدافع على جانبيها للتراشق بقذائفها عن بعد.
وهنا توارت المجانيق والعرادات أمام المدافع بأنواعها، وأصبح سباق التسليح مركزا على السلاح النارى، لتبدأ مرحلة جديدة من سباق التسلُح.
ربما يتساءل القارئ: وما المطمئن فى كل هذا السرد لتفنن بنى الإنسان فى ابتكار وتطوير أدوات إيذاء وإفناء بعضهم بعضا؟
ألتمس من القارئ العزيز الصبر، فما زالت للحديث بقية نخلص بها للغرض من هذا الاستعراض التاريخى.. فى المقال القادم إن شاء الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة