فارقُ القوَّة واضحٌ بين الطرفين، وبعيدًا من العاطفة والدعايات، يعلمُ «محورُ المُمانعة» بكلِّ أطرافه أنَّ إسرائيل مُتفوِّقة عليه بالحسابات الرياضيّة المُجرَّدة. ولطالما كان التعويض عن الاختلال مُرتكزًا إلى العقيدة، لا على معنى الصلابة الروحية والإيمان بالحقِّ فحسب، أو الإقدام بينما يُحجِمُ الآخر، وطلب الاستشهاد بقدر ما يُوغل العدوُّ فى القتل والتنكيل؛ إنما القصدُ تأسيس العلاقة على صيغةٍ قتاليَّة «لا تماثُليّة»، تسمحُ للمقاومة بوَصفِها فاعلاً من خارج الدولة، بأنْ تكونَ أكثرَ تحرُّرًا فى الحركة، وأعصى على الترويض بالقوانين الجيوسياسية والمنظور التقليدى للنصر والهزيمة. بهذا الفهم؛ يصيرُ البقاء فى حدِّ ذاته انتصارًا، ويخسرُ الغريم بالعجز عن الحسم الكامل. وتلك المُعادلة تصلحُ للإجراء طوال الوقت فيما بين الجيوش والميليشيات؛ ولكنَّ التركيبة الحالية ربما تشى بأنها لم تعُد فعَّالةً تمامًا. لقد أخذت المُواجهةُ صورةَ «حرب العصابات» على الناحيتين، بمعنى أنَّ الفريق النظامىَّ المحكوم بمعايير عسكرية نمطيَّةٍ لم يعُد مُخلصًا لثوابته الصلبة كما كان مُتوقَّعًا، وصار يُجرِّبُ أدوات خصومه غير النظاميِّين بالطريقة والأهداف نفسها، كما لو أنه يُعيد صياغة عقيدة قتاله على وجهٍ يُفارقُ تاريخَه المنظور، وما نعرفُه عنه من خُلاصة التجارب الصراعية الطويلة.
الشائعُ عن الاحتلال أنه لا يطيق النزاعات السائلة، ولا الجولات المُمتدَّة أو التى تتناسلُ من بعضها. يطيبُ للناظرين فى كُتب الآباء والمُؤسِّسين العودة لنظرية جابوتنسكى عن «الجدار الحديدى»، وما أدخله عليها بن جوريون من تعديلاتٍ أفضتْ إلى ركائز حربيَّةٍ لا محيدَ عنها، على الأقلِّ منذ التأسيس إلى مشارف أكتوبر الماضى، وخُلاصتُها الاستثمار فى الرَّدع النفسىِّ ليكون عائقًا عن قفز أسوار الدولة، ثمَّ الضربات الاستباقيّة الثقيلة، وخوض المعارك الخاطفة على أرض العدوِّ. وما يجرى منذ «طوفان الأقصى» يكاد أن يتضادَّ تمامًا مع كلِّ تلك الأُصول؛ صحيح أنَّ ضربتَه الافتتاحية كانت على غير هوىً من تل أبيب، وقد فُوجئت بجرأة الحماسيِّين وانكسار مُعادلة الرعب، بقدر ما فُوجئ مُقاتلو القسَّام أنفسُهم؛ لكنها منذ اليوم التالى مُباشرةً قرَّرت أن تلعبَ الورقةَ التى أُلقِيَت عليها، وأن تردَّ اللعبة على المُبادرين بها، فيما يُعيدها إلى زمن العصابات الصهيونية الذى تمرَّست فيه طويلاً، ويخصمُ من أعدائها أهمَّ نقاط تميُّزهم، ألا وهى الصبر على تلقِّى الضربات، وطُول النَّفَس، وخِفَّة الحركة التى تسمحُ طوالَ الوقت بابتكار المُفاجآت؛ رغم إضاءة المسرح وانكشاف خطوط الدراما.
كان «الطوفان» طريقةَ المُقاومة لمُناطحة الجبل، والعمل على نَحرِه بقوَّة الماء. والرهان هُنا على أثر الصدمة فى إغاظة المارد؛ فإمَّا أن ينزلق فى الفخِّ على شرط حرب العصابات، أو أن يتمادى فى الهياج ورغبة الثأر؛ وكلاهما يتحقَّقُ عنه غرضُ الاستنزاف، فى ميدان القتال أو ساحات الدعاية. وعلى المذهب نفسه تحرَّك حزبُ الله من الجانب اللبنانى، وأطلق عمليَّتَه تحت عنوان «المُساندة والإشغال» ساعيًا لحَرفِ حصَّةٍ من آلة القتل الإسرائيلية، واستنزافها بالمُواجهة غير التماثُليَّة. وفاعليَّة الخطَّة تتطلَّبُ أن يظلَّ الكيانُ فى حركته كُتلةً واحدةً، وأن يُحافظَ ماءُ المُمانعة على استدامة تدفُّقه بوتيرةٍ تتخطَّى السدود وتستعصى على كَتم المنابع؛ والحال أنَّ اطمئنانَ الشيعيَّة المُسلَّحة لعقيدة العدوِّ كان أكبرَ من ثقتِها فى أدواتها، ومن قُدرتِها على قراءة تحوُّلات الميدان والتعاطى معها بسرعةٍ وكفاءة. وبينما استشعرَ نتنياهو أنه هدفٌ لعمليَّةٍ استنزافيَّةٍ طويلة؛ فقد اختار أن يقلبَ الآيةَ ويُمارس اللعبة ذاتَها مع الأغيار، ولا يحتاجُ فى هذا إلَّا لإطالة أَمَد النزاع، وطالما يطمئنُّ للوجستيات وخطوط الإمداد؛ فما عليه إلَّا أن يقطعَ قنوات الاتصال بين دوائر المحور، ويستبقى الجولةَ فى نطاق تثبيت القواعد القائمة، وأن يستهلكَ خصومُه ما فى أرصدتهم من الثقة وأسباب البقاء.
كثيرًا ما تكون فوائضُ القوَّة لعنةً على أصحابها؛ إذ المستوياتُ العاليةُ من الإمكانات تصيرُ هَشَّةً وعديمةَ التأثير فى النزالات الضئيلة، كما تترتَّبُ أعباءٌ نفسيَّةٌ ودعائية ثقيلة؛ كلَّما تأخَّر الحَسمُ واشتدَّ البطش. أمامنا فى المدى المنظور تجربةٌ شبيهة على أطراف أوروبا، عندما انفجرت روسيا غيظًا من خطط الناتو للتوسُّع وتطويقها من جهة الغرب؛ فقرَّرت غزوَ أوكرانيا وإيقافَ المَدِّ الغربىِّ بالقوَّة العارية. الولاياتُ المُتَّحدة وحُلفاؤها تجنَّبوا الحربَ المُباشرة، وبدلاً من دخول الميدان بِنِيّة الإطفاء السريع، قرَّروا الإبقاءَ على اشتعاله لأطول فترةٍ مُمكنة، والغايةُ أن تُستَنزَفَ موسكو بالقتال وبالعقوبات الاقتصادية، أمَّا حصيلةُ الثلاثين شهرًا الماضية فقد أنتجت العكسَ تمامًا، ونجح بوتين فى تنشيط صناعاته العسكرية، وتحفيز خطَّةٍ للإفلات من كمَّاشة الضغوط الخَشِنَة والناعمة، وضمان استدامة النموِّ وفقَ فواعل داخلية، مع الردِّ على أعدائه بالطريقة التى استهدفوه بها، والنتيجة أنَّ الاستنزاف يقعُ فى جانب الحلف الأورو-أمريكى بأكثر ممَّا هو على الروس، وصار دعمُ نظام زيلينسكى عبئًا على رُعاته الغربيِّين، وأداةً للمُناكفة والاستقطاب السياسى فيما بينهم، ولعلَّه بين باقة العناصر التى عزَّزت صعودَ اليمين القومىِّ فى عددٍ من البيئات، وتُبشِّرُ باحتماليَّة أن يعودَ دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مُجدَّدًا.
نظريَّةُ السيناريو المعكوس أدارتها حكومةُ نتنياهو اليمينية بإتقانٍ منذ الطوفان. لقد استنزفت قدرات حماس اللوجستية والبشرية، وألقت على حاضنتها الشعبية ضغوطًا ثقيلةً؛ تسبَّبت بين جُملة ما حقَّقته فى خَفض الروح المعنوية، وتكسيح القطاع لعقودٍ مُقبلة، كما لم تُوفِّر فرصةً لحصار حزب الله وخَنق حركته، لا فى نطاق ساحة المواجهة بينهما على خطِّ الحدود فحسب؛ إنما فى كامل الجنوب اللبنانى، وفى سوريا، وإلى اختراق المحظور التاريخى، أو الذى كان محظورًا فيما يخصُّ الوصولَ لضاحية بيروت الجنوبية، واستعراض القوَّة فى المعقل الحصين وعلى بُعد خطواتٍ من الأمين العام. وهكذا تتَّخذُ الحربُ فى الوعى الصهيونى بُعدًا مُغايرًا، بينما ما نزالُ نفسِّرُ حلقاتها بالتفسيرات الخفيفة، عن نجاح المقاومة فى البقاء، وفشل الاحتلال فى إنجاز أهدافه المُعلَنة. ولو كان هذا صحيحًا من زاوية؛ فإنه لا يلغى من زاويةٍ أُخرى فكرة «الخطَّة البديلة»، وقَصديَّة الاستثمار فى الوقت على قاعدتين من النوايا: تصفية دماء المحور الشيعى ببطءٍ يخصمُ من المعنويَّات بأكثر ممَّا يُهدرُ الإمكانات الصلبة، وانتظار مرحلةٍ سياسيَّةٍ مُغايرة مع تبديل الإدارات الأمريكية، وإعادة صياغة رُؤية الحليف الأكبر للإقليم والأجندة الإيرانية، ووقتها يُمكن أن تعودَ النارُ لذروة اشتعالها مُجدَّدًا، بينما تتآكلُ الأرصدةُ وتتعمَّقُ فجوات القوَّة بين الطرفين، وإنْ بَقِيَت الأمورُ على حالها فإنها تنفردُ بالأطراف بمعزلٍ عن الرأس، وتضمنُ تحييدَ طهران بينما تشتغلُ برَويّةٍ ونَفَسٍ طويل على شَلِّ أذرُعها، أو تحجيم الامتدادات التى أكسبتها موقعًا مُتقدِّمًا على رقعة الصراع.
لا أحدَ أكثر انحطاطًا من إسرائيل؛ تلك حقيقةٌ مَفروغٌ منها ولا تحتاج للنقاش. إنما على الجانب الآخر ثمّة زاويةٌ أوسعُ للنظر فى مسألة الأخلاق. العدوُّ على فساد رُوحه وسواد طَويَّته لا يُوجِّه سلاحَه إطلاقًا إلى الداخل، على معنى اختصام بيئته وتوظيف فائض القوَّة فى لُعبة السياسة. بينما لا يرى حزبُ الله نفسَه إلَّا جسدًا إيرانيًّا يتمدَّد على خريطة لبنان ويتحدَّثُ بلسانه، وقد وظَّف قُدراته العسكريَّةَ ضد شُركائه المَحلِّيين بقدر ما وظّفها مع عدوِّهم المشترَك، ليس من اغتيال الحريرى وقائمةٍ طويلة بعده فقط، ولا باقتحام بيروت أو التسبُّب فى انفجار مرفأها؛ بل فى العمل بمنطق «سُلطة الأمر الواقع» فيما يخصُّ يوميّات الدولة ومرافقها؛ حتى أنه يُعطِّلُ انتخابَ رئيسٍ جديدٍ للدولة منذ سنتين، ويشلُّ الحكومة، ويمنعُ البرلمان من الاضطلاع بأدواره المطلوبة. وبالمِثل لم يكُن سلوكُ حماس مُختلفًا؛ وإذا كان الصهاينة لا يُوفِّرون فرصةً للشُّرب من دم الغزِّيين؛ فالحركةُ فعلَتْها عندما أُتيحَ لها ذلك، أكان على قاعدة إزاحة فتح والانفراد بحُكم القطاع، أو تحت طائلة الاتهامات المُلفَّقة بالعمالة وخدمة الاحتلال، أو بالإرهاب والتنكيل؛ دَفعًا للنقد الطبيعىِّ لها كجهةِ إدارةٍ تتسلّط على حياتهم لنحو عقدين.
لقد استنزفَ الحزبُ والحركةُ كثيرًا من أرصدتهما لقاءَ ما تسبَّبا فيه لبلديهما، وما أوغرا به صدورَ اللبنانيين والفلسطينيين بسياسات الاستبداد والاستتباع، وتوجيه المُقدَّرات الوطنية لخدمة أجنداتٍ خارجيَّة مُعادِية، أو فى أحسن الفروض لا تحترمُ الأولويات التى يطلبُها أصحابُ الحقِّ، وتتَّصل عضويًّا بمصالحهم وقضاياهم الوجودية. وعليه؛ فإنَّ مهمَّة إسرائيل فى الإجهاز عليهما لم تكن عَصيّةً تمامًا، إذ إنها بدأت من نُقطةٍ كان الاستنزافُ فيها واقعًا بالفعل، والمشاعرُ السلبية على آخرها، والعوام المنكوبون يصمتون خوفًا أو قِلَّة حِيلة؛ إنما ليس صمتَ الرضا والتقبُّل عن قناعةٍ وإيمان. وبينما ساعد عملُ الشيعيَّة المُسلَّحة على ترميم المجال العام فى إسرائيل، وتقريب وجهات النظر بين المُختلفين على عُمق خلافاتهم؛ فإنَّ الردودَ من جانب الاحتلال تفعلُ العكسَ فى بيئة المُمانَعة، وبقدر ما تُعزِّزُ مواقعَ الميليشيا عاطفيًّا بين جمُهورها المؤدلج والمنحاز أصلاً؛ فإنها تُراكم عليها مزيدًا من اللوم والاتهامات، وتُضخّمُ فاتورةَ الحساب أمام القاعدة الأوسع؛ وحتى لو غابت فرصةُ استيفائها الآن أو فى مدىً قريبٍ؛ فإنها ستظلُّ دُيونًا مُعلَّقةً، وستُؤثِّرُ على حيثيَّة الخطاب المُمانِع فى بيئته، وعلى احتمالات ازدهاره واستدامة مكاسبه فى المستقبل البعيد.
بعقلٍ باردٍ لا تحرقُه الانفعالاتُ الهادرة؛ ربحت إسرائيل من مواجهة «الطوفان» وارتداداته بأكثر ممَّا خسرت، وأضعاف ما يرى العاطفيّون والأُصوليّون أنهم حقَّقوه من الجولة الصاخبة. فى مسألة الدعاية والضمير؛ فإنها لا ترى نفسَها دولةً طبيعيَّةً أصلاً، ولا تحترمُ العالمَ وقوانينَه، ولم تُخفِ أنيابَها قَطّ منذ نشأتها حتى اليوم؛ أمَّا فى الميدان فلا يصحُّ الحديثُ عن توازُن القوى ورِبحِ المحور الشيعىِّ؛ إلَّا على سبيل الاستخفاف والتبسيط وخِفَّة العقل والقلب. وأكبرُ المخاطر أنَّ الحرب أضعفت مناعةَ المنطقة أضعافَ السابق، وأحدثت شرخًا جديدًا فى الأيديولوجيا والروابط الاجتماعية، أو عمَّقت ما كان قائمًا من شروخ. لم ينظُرْ أغلبُ الفلسطينيين إلى المُواجهة باعتبارها معركةً وطنيَّة؛ بل على الأرجح اعتبروها «حرب حماس» الخاصّة، وتكبّدوا أعباءها راضخين ودون هامش للاختيار أو الهروب. حتى أنَّ انتقادات الحركة لا تتوقَّفُ فى أرجاء غزَّة وخيامها، وعلى كثافة دعواتها لانتفاضة الضفَّة الغربية أو تأجيج الساحات الرديفة فى الإقليم، لم يُستَجَبْ لها من الداخل أو الخارج. وفى وقائعَ سابقةٍ أقلّ مأساويَّةً ممَّا يُعانيه القطاعُ اليوم، انفجرت انتفاضتان فى الثمانينيات وأوَّل الألفيَّة، على مُشترَكٍ أحسَّ فيه الجميع بإلزاميَّة الاستجابة لدوافع وطنيَّةٍ وسياسيَّةٍ وإنسانية. والمشهدُ لا يختلفُ إطلاقًا على الجانب اللبنانى؛ إذ باستثناء حركةِ أمل، الحليف التاريخى للحزب منذ أزاحها عنوةً واغتصب موقعَها الروحىَّ والحركىَّ، فضلاً على بعضِ المشاعر القومية لدى الدروز وزعيمهم وليد جنبلاط، وفئةٍ من السُّنَّة نجحَ «نصر الله» فى استتباعها، مُمثَّلة فى الجماعة الإسلامية (إخوان)؛ فالأغلبيَّةُ يحتفظون بمشاعرَ صادقةٍ تجاه فلسطين، ويسعون لنُصرتِها بكلِّ طاقتهم؛ إنما بما لا يضرُّ لبنان أو يضعه فى عين العاصفة. وهُم يرون الحربَ الدائرةَ «مسألة حزبيَّة شيعيَّة» خالصة، أو بمعنىً أكثر وضوحًا يعتبرونها لُعبةً إيرانيَّة؛ وما الميليشيا إلَّا أداة فيها؛ لا قرارَ لها ولا سلطان على الميدان أو حوارات الكواليس والتسويات بين طهران والشيطان الأمريكى الأكبر.
الاغتيالاتُ التى لم تتوقَّفْ جزءٌ من لعبة الاستننزاف، وهجماتُ أجهزة الاتصالات أيضًا. والعمليات المُتكرِّرة على فواصلَ زمنيّة وجغرافيّة ضيّقةٍ فى سوريا والعراق وغيرهما. أراد نتنياهو منذ البداية أن يُطيلَ الحرب، ولم يُخطِّط للحَسم السريع اتِّصالاً بالعقيدة القتالية القديمة. هكذا بدأ عمليته البريّة بعد ثلاثة أسابيع من القصف الجوى، وتدرّج فيها حتى أحدث اجتياحٍ لرفح فى مايو، ولم يتوقَّف عن تخليق الذرائع الكفيلة بإفساد مُقاربات الهُدنة، أكان بالخلاف على أعداد الأسرى وطبيعة صفقة التبادُل سابقًا، أم بالتركيز اليومَ على محور فيلادلفيا وممرِّ نتساريم فى وسط القطاع. والمعنى؛ أنَّ الشيعيَّة المُسلَّحة أرادات استنزاف العدوَّ؛ أكان بتنسيقٍ بين حماس وطهران أم بمُفاجأةٍ مقصودة؛ لكنَّ ذئب الليكود ردَّ عليهم الكُرةَ وسجّل هدفَهم فى مرماهم، وهو يُصَعِّد بحثًا عن الحرب الشاملة على الشائع؛ لكنّه فى الجوهر يتقصَّدُ تحييدَ طهران بقُوّة الوجود الأمريكى، ومن وراء ذلك يردعُ الحزبَ وبقيّةَ الأذرُع عن الذهاب إلى مواجهةٍ إقليمية واسعة، ثمَّ يتسلّى بالاصطياد البطىء والرتيب لقُدرات الخصوم، واللعب فى حواضنهم وسيكولوجيّاتهم بالشكِّ والإرباك؛ وإنْ وقعَتْ الواقعةُ فبوارج الحُلفاء وأُصولهم جاهزةٌ لإرساء مُعادلةِ ردعٍ جديدة تمامًا، يعودُ فيها لبنان إلى زمنٍ شبيه بالاحتلال وحصار بيروت ونكبات الحرب الأهلية، وتعود معه كثيرٌ من مفردات الإقليم.
باختصارٍ؛ ما أُرِيدَ له أن يكون شريانَ إسرائيل المقطوع فى جولة الطوفان، انقلبَ على أصحابه؛ وصاروا ينزفون بما يتجاوز قُدرتَهم على الاحتمال أو النجاة. استثارةُ مخابيل الصهيونية دونَ برنامجٍ واضحٍ كانت خطأً كبيرًا، ومُجاراتُهم فى مُقامرةٍ أشبه بالرُّوليت الروسىِّ خطيئةً أكبر. قراءةُ الواقع واستيعابُه ليسا عداءً للشيعيَّة المُسلَّحة رغم جنايتها على المنطقة، وليسا بالقَطع دعمًا للنازيَّة الصهيونيّة؛ ولها من رصيد الكُرهِ فى قلوبنا ما يغنى عن كلِّ كلام. إنه الوعىُ الغائبُ، والمُمارسة الناضجة التى لم تَتَحلَّ بها الأذرُع هُنا، بينما يقبضُ عليها الرأسُ هُناك، وقد أرجأ كثيرًا من ثاراته المُعلَّقة، وغادرَ حديثَ الصبر الاستراتيجىِّ إلى فلسفة «التراجُع التكتيكىِّ» على لسان المُرشد نفسه، وتحدَّث رئيسُه الجديد بزشكيان عن الأُخوَّة مع الأمريكيين، وبينما تُبرِّد طهران ساحتَها، تقدحُ النارَ فى الساحات الرديفة.. تغيّرتْ عقيدةُ الحرب لدى الأُصوليَّة الصهيونيَّة، وما زالت أُصوليَّةُ الإسلاميين على حالها، وتلك أكبرُ عِلّةٍ تمسُّ الجسدَ المُمانِعَ، وأعمقُ اختراقٍ يتَّسعُ فى داخله. ولعلّهم أحوج ما يكون، وعلى وجه الاستعجال، إلى تحديث رُؤاهم وأفكارهم، وإعادة تحرير أجنداتهم فى الاستراتيجيَّة والتكتيك، والتخلِّى عن شعارات البأس والصمود؛ طالما أنها صارت تُهدِّدُ الأُصولَ وإمكانات البقاء والاستدامة. لا سذاجةَ أكبرُ من أن تختصم ضَبعًا بالمخالب والأنياب، ولا من أن تُصِرَّ على لعبة الاستنزاف وإطالة الحرب بعدما انقلبت عليك بكاملها، وصارت تُهدِّد بإفناء ما لديك؛ ناهيك عن أنها لا تجرح العدوَّ، ولا تُسيل منه نقطةَ دمٍ واحدة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة