يشرح ريتشارد ل. كوريير فى كتابه «بلا قيود.. تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية» كيف تقدم البشر فى ابتكار الأدوات والآلات والتقنيات وقد حررتهم من القيود لكنهم استبدلوا بها تحديات جديدة؟
ابتكار وتطوير طرق عبور المسطحات المائية كالبحار والأنهار حرر الإنسان من حبس اليابسة، وجعل التواصل للتجارة والتبادل الحضارى أسهل، لكنه فى المقابل جعل الإنسان مهددا بالغزوات والغارات البحرية، واكتشاف طاقة النيران وكيفية توظيفها للطهى والتدفئة والصناعة حرره من قيد الحياة البدائية، لكن جعله مهددا بمن وظفوا النار للتدمير والتخريب.
ورغم شعور التهديد المصاحب للتقدم، فإن الحضارة الإنسانية دائما ما تجد سبلا للتغلب على الخطر أو كما قال تروى القصة عن أحد الفلاسفة، الذى سأله الإسكندر الأكبر: «الموت أقوى أم الحياة» فأجابه: «الحياة أقوى لأنها تستمر».
عندما ابتكر الإنسان الأسلحة النارية، كان من الطبيعى أن تندحر أمامها الأسلحة الأكثر بدائية، ووسائل الدفاع غير المجهزة.. هكذا سقطت الشعوب الأقل تطورا فى أمريكا الوسطى والجنوبية أمام الغزاة الإسبان، وانهزمت القبائل المسلحة بالحراب والسهام أمام بنادق المحتلين الإنجليز والفرنسيين فى أفريقيا وآسيا.
كان الدرس المستفاد للعالم هو أن امتلاك السلاح المتطور والتدرب على استخدامه هو السبيل للحماية من التعرض للعدوان، وراحت الدول تتسابق ليس على امتلاك السلاح فحسب بل على تطوير وسائل النقل من سفن وقطارات وعربات وغواصات، وطائرات فى زمن لاحق، لنقل وسائل التدمير والقصف عبر أبعد مسافات ممكنة، وعلى زيادة القوة التدميرية للقذائف وتسريع عمليات التلقيم لقاذقاتها.
تكررت حالة الذعر تلك وتكرر الدرس بشكل شديد القسوة، عندما استيقظ العالم فى أغسطس 1945 على إلقاء أمريكا قنبلتان ذريتان على كل من هيروشيما وناجازاكى فى اليابان، وأدرك الجميع أن سباق التسلح قد دخل عصرا جديدا يمكن أن تمحى فيه مدن بأكملها بمجرد قنبلة أو قذيفة. عرفت تلك الحالة بـ«الرعب النووى»، خاصة مع نجاح الاتحاد السوفيتى - العدو اللدود لأمريكا - فى امتلاك ذلك السلاح، وكما جاء فى المشهد التخيلى فى نهاية فيلم أوبنهايمر/Oppenheimer تخيل المتشائمون سيلا من القذائف النووية يتبادل عبر شطرى الكرة الأرضية ليحيلها إلى جحيم ملتهب يفترس حضارة بنى الإنسان.
بلغ الرعب ذروته فى ستينيات القرن العشرين، عندما وضعت أمريكا رؤوسها النووية فى أوروبا مصوبة نحو عدوها السوفيتى، فرد هذا الأخير بنقل رؤوس نووية إلى حليفته كوبا على مرمى صاروخ من السواحل الأمريكية، وانتشرت فكرة تجهيز المواطنين مخابئ مضادة للإشعاع للاحتماء بها من المحرقة المتوقعة، التى ألهمت صناع فيلم Blast from the past عن شاب قضى 35 عاما من عمره فى مخبأ مضاد للإشعاع ثم خرج للعالم ليفاجأ أنه لم ينتهى وحاول التكيف معه، وكما كانت الفياضانات والبراكين ملهمة لأساطير الدمار الشامل فى الحضارات القديمة، أصبح الدمار النووى ملهما لنوع من الأدب والدراما يحمل اسم «ما بعد المحرقة»، يتصور الحياة فى الأرض بعد تعرضها بكارثة نووية، وارتفعت الأصوات المطالبة بحظر السلاح النووى والحد من انتشاره.
المثير أن امتلاك أكثر من طرف للسلاح النووى كان خطوة فى طريق تخفيف وطأة الرعب من فكرة استخدامه، فكل من أطراف الصراعات العالمية أدرك أن ما دام لكل فعل رد فعل، فإن أية ضربة نووية لا بد أن ردا نوويا سيترتب عليها، مما يعنى دمار جميع الأطراف، وراحت القوى العظمى تقدم لبعضها البعض «ولنفسها فى الحقيقة» الضمانات لعدم استخدام ذلك السلاح الرهيب، من خلال الإجراء الخارجى وهو الاتفاقيات والمعاهدات، والداخلى المتمثل فى إيجاد تسلسلات هرمية قيادية تجعل من اتخاذ القيادة السياسية العليا قرار توجيه الضربة النووية شيئا، وتنفيذه على أرض الواقع شيئا آخر.
ومرة أخرى وجدت الحضارة الإنسانية سبيلا للتغلب على خوفها من التهديد لوجودها، ولكنها كانت على موعد مع مصدر جديد للخوف.
لم نكد نستمتع بانبهارنا وسعادتنا بثورة الاتصالات وتحول العالم لـ«قرية صغيرة» حتى راحت السكرة وجاءت الفكرة، فسهولة التواصل بين مختلف أنحاء العالم عبر الإنترنت جاءت معها بجيل جديد من الحروب هو «الجيل الرابع».
الجيل الأول من الحروب كان حروبا بين جيوش نظامية واضحة، والجيل الثانى كان حرب العصابات التى يكون أحد أطرافها ميليشيات ومقاتلين خفيفى الحركة، والجيل الثالث هو «حرب اللامتماثل» بين دولة بمؤسساتها الأمنية والعسكرية وتنظيم إرهابى أو إجرامى ليست له قواعد واضحة.
أما حروب الجيل الرابع فهى ما يسمى الحروب السيبرانية، وفيها المقاتلون هم مخترقون/ Hackers يخترقون شبكات الأطراف المعادية لهم إما لسرقة المعلومات أو لدس معلومات مضللة أو للعبث بعمل ووظائف مؤسسات وخدمات الدول فى زمن صارت كثيرا من تلك المؤسسات فيه تعتمد على شبكات التواصل والاتصال، كذلك يوجد «مقاتلو» الشائعات والتحريض والدسائس أو ما يعرف بـ«اللجان الإلكترونية» الذين يوظفون حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعى لنشر الشائعات، وإثارة الرأى العام بالأكاذيب والعبث بمشاعر وتوجهات الجماهير وفق أجنداتها، ولأن لا بد لكل داء من دواء، ولكل تهديد من دفاع، نشأ مجال «الأمن السيبرانى» وهو مجال الاختصاص بالتأمين الإلكترونى التقنى للشبكات، وكذلك مراقبة ورصد أنشطة اللجان الإلكترونية، والقيام بتفكيك خطابها وإنشاء خطاب مضاد.
وسرعان ما تمخضت حروب الجيل الرابع عن الجيل الخامس وهو «الحروب الهجينة»، حيث تستخدم الأطراف المتحاربة مختلف أجيال الحروب من جيزش نظامية وميليشيات وأعمال إرهابية ولجان إلكترونية وفرق مخترقين على جبهات مختلفة، حسب الهدف المراد تحقيقه، وهو ما نشهده فى الحروب المعاصرة.
السؤال الآن: هل نكتفى بالخوف والهلع أمام هذا التطور السريع لأجيال الحرب وفنون الإيذاء عن بعد؟ أم نمارس - على مستويات الشعوب والحكومات من ناحية والمجتمع الدولى والحضارة الإنسانية من ناحية أخرى - ما أثبت الإنسان قدرته عليه «التعايش والسعى للاستمرار فى الحياة»؟
صحيح أننا نعيش فى عصر أصبح كل جهاز محمول أو كمبيوتر فيه قابلا للتحول لأداة للتجسس والاختراق بل وللقتل- كما رأينا فى هجمات لبنان- وأن الوضع القانونى الدولى لاستخدام وسائل التواصل والاتصال كأسلحة فى الحروب ما زال مبهما وضبابيا، باعتباره وضعا حديث الولادة بمقاييس عمر الحضارة والتقدم، وأن التشريعات المجرمة لاستخدام وسائل الاتصال والتواصل للإيذاء هى تشريعات محلية تختص بها كل دولة داخل حدودها، إلا أن المصلحة العالمية تقتضى التفات المجتمع الدولى لذلك الملف شديد الخطورة والأهمية، وأنا أؤمن بأن هذا المجتمع الدولى - رغم ما يصمه للأسف من اختلال واضح لمعايير العدالة فى التعامل مع النزاعات - لا بد له أن يعتنى بهذا الشأن لأن أى تهاون معه لا بد أنه سيؤذى الجميع بشدة.
هذا ما أراهن عليه فى مواجهة تسارع وتيرة سباق التسلح والإيذاء عن بعد مع التزامى بالنظرة العملية والواقعية، التى تقول: إن هذا السباق لن يتوقف، بحكم طبائع البشر الرامية للتحكم والسيطرة وإشباع المطامع، لكن الحضارة الإنسانية لها طريقتها الخاصة لتحقيق التوازن بين الاستمرار فى ذلك السباق من ناحية، والسعى بألا يبلغ حد الدمار للجميع من ناحية أخرى.
وأكرر القول المنسوب لذلك الفيلسوف فى رده على الإسكندر الأكبر: الحياة أقوى لأنها تستمر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة