تجاوزَ السياقُ كثيرًا ما كان يُقال عن الحدِّ الفاصل فى «طوفان الأقصى» بين شَرقين أَوسَطين مُختلِفَين تمامًا. لقد وقعَ الشرخُ فعلاً، واجتازت المنطقةُ النقطةَ الانتقاليَّةَ التى لن تعودَ بعدَها إلى ما كانت عليه فى السابق. ومَبعثُ القولِ هُنا ليس الحرب المُتزامنة على عدَّة جبهاتٍ، ولا إعادة إرساء مُعادلةٍ جديدة لتوازُن الرعب بين الأُصوليَّتين المُتصادمتين: الشيعية الصفوية والصهيونية التوراتية؛ إنما ما طالَ وعىَ الطرفين من تحريكٍ اضطرارىٍّ بأثر الصدمة وخطأ الحسابات، والعجز عن تحقيق مكاسب ظاهرةٍ، أو ضمان أن تبقى الخسائرُ عند حدودٍ مقبولة. وإذا كانت المُواجهاتُ الخَشِنة تتكفَّلُ دائمًا بتسييد سرديَّة المُنتصر؛ فإنَّ هزيمةَ خَصمَى الميدان تُخلِّقُ وسيطًا هجينًا من الأسوأ فى كلِّ السيناريوهات والأفكار، ولا تُبقِى على العِلَل القديمة فحسب، بعدما تتعذَّرُ مُداواتها والتشافى منها؛ بل تستحدثُ أمراضًا جديدةً تُشبه الطفرات، لا يُعرَفُ مَنشأها على وجه التحديد، كما أنها تستعصى على مناعة الجسمين معًا.
لحظةُ السابع من أكتوبر كشفت عوارَ الاستراتيجية الصهيونية المُتَّبعة منذ أوسلو على الأقل، وما بعدها إلى اليوم أفصحَ عن هشاشةِ «مُحور المُمانعة» واهتزاز رُؤيته للصراع. وهكذا بدت الحربُ كأنها بين زمنين، لا من نقطتين مُتضادّتين فى الجغرافيا. كأنَّ تلَّ أبيب تسعى لإعادة الزمن إلى الوراء، بينما تطمعُ الشيعيَّةُ المُسلَّحة فى تعميم حال السيولة والانكشاف فى غلاف غزَّة. وإذا كان عَصيًّا على الماضى أن يتجدَّد بصورتِه التى تخطَّاها الواقعُ؛ فلا سبيلَ بالدرجة نفسِها لاستباق الحاضر، أو استيلاد المُستقبل على صورةٍ لا تتوافر شروطُها الموضوعية. ولأنها خصومةٌ زمنية؛ فإنها تتَّخذُ طابعًا فكريًّا أقربَ لمعارك الهُويَّة والسرديَّات، ولن تُحسَمَ بالضرورة على الأرض؛ إذ هى أداةٌ لتجسيد المعنوىِّ، وليست موضوعَ النزاع ومجالَ الاشتباك وطلب الحَسم. ولا يُغيِّرُ ذلك فى حقيقة أنَّ فلسطين مُغتَصَبَة من أهلها، ويحقُّ لهم أن يطلبوها بكلِّ السُّبل المُتاحة؛ إنما القصدُ أنَّ «حماس» لم تضرب ضربتَها على شرط التحرير الكامل، وهى أذكى من ذلك قطعًا، ولا الاحتلال بكلِّ مُخطَّطاته السوداء قادرٌ على شطب الفلسطينيين مرَّةً وإلى الأبد؛ وعليه فإنها مُجرَّد جولةٍ من جولات استعراض القوَّة وعَضّ الأصابع، وكلاهما يعرفُ يقينًا أنه سيخرجُ منها بأنف نازفٍ وجسدٍ تُثخنه الجراح، على أن يكون رهانُ التعافى أو الانتكاس مُعلَّقًا على الخارج، وما يُمكن أن تُنتجه توازناتُ المنطقة والعالم فى حقبةٍ مُقبلة.
ليس مأمولاً على الإطلاق أن تُغيِّر الدولةُ العِبريَّة أفكارَها، أو تنحرفَ عمَّا تأسَّست عليه من تصوُّرٍ استعدائىٍّ توسُّعىٍّ، يستندُ إلى العُنف ويخلطُ العرقىَّ بالدينىِّ، كما يُحصِّنُ جدالات السياسة بنصوصٍ مُقدَّسة. وفى المُقابل؛ تتوحَّد الأُصوليَّةُ الإسلاميَّةُ معها فى الآليَّة وتفترق فى الأهداف الشخصيّة، وإذا كان غرض الصهاينة أن يصبغوا المنطقةَ بألوانهم؛ أكان بالحضور السرمدىِّ الثقيل أم بالتوافقات المرحليَّة الناعمة؛ فالآخر أيضًا لديه تصوُّرٌ إثنىٌّ وعقائدىٌّ يعمل على تغليبه بالحِيلة وقوَّة الأمر الواقع، وما لم تتبدَّل الرُّؤى فى جانبٍ منهما على الأقل؛ فلا أملَ فى تحقيق الاختراق المأمول لصالح أجندةٍ من الاثنتين. ومناطُ المُوازنة هُنا تحكمُه اعتباراتُ المصلحة والتناسُب، وإمكانيَّةُ تحريك القضيَّة دون أن يكون ذلك دَفعًا لها نحو الهاوية. وعلى هذا المعنى؛ فالصلابةُ وسيلةٌ لا غاية، ومُناطحةُ العدوِّ مَرهونةٌ بألَّا تكون مدخلاً لشَجِّ الرأس أو دَهس الأصدقاء تحت الأقدام. وهذا مِمَّا يَرُدُّ المسألةَ فى كلِّ وقت إلى شىءٍ من الانضباط والعقلانية، رَدًّا اضطراريًّا لازمًا، لا يصحُّ أن يُستَعاضَ عنه بالعواطف المُتأجِّجة ولا صَخب الحناجر الزاعقة؛ إذ لا فائدةَ تُرجَى من أن نكسبَ حُروبَ الكلام، ونخسرَ فى كلِّ الميادين والساحات.
أفضى «الطوفانُ» إلى نكبةٍ جديدة. ولا يمنعُ الأسى للضحايا، أو الإقرار بحقِّ الفصائل الدائم وغير المشروط فى المُقاومة، من أن نُسائِلَ الوقائعَ والمآلات بموضوعيَّةٍ وعَقلٍ بارد. وبعيدًا من احتمال الارتجال والعشوائيَّة؛ فإنَّ «السنوار» عندما أطلق عمليَّتَه كان يستهدفُ إرباكَ المنطقة بكاملها، والدخولَ فى مُغامرةٍ من بين سيناريوهاتها المفتوحة أن ترتدَّ عليه وبالاً، ومثلما استنفرَ العدوَّ لإظهار ما نعلمه فيه من وحشيَّةٍ وإجرام، فقد أجبر حُلفاءه المُمانعين على النزول للساحة دون جاهزيَّةٍ، وفى غياب أيَّة رُؤية حربيَّة وسياسية مُكتملة وناضجة، تضمنُ على الأقلِّ تلافىَ إذكاء النار إن لم تنجحْ فى إطفائها. وما حدثَ؛ أنهم تبرَّعوا بكَشفِ أوراقِهم على التوازى، وإحراق كلِّ الفرص المُمكِنة للمُناورة وتوزيع الأدوار والتدرُّج المُثمر فى التصعيد. ربَّما اتَّصلَتْ دوافعُهم بالأطماع المُبكِّرة فى النفاذ من شُقوق البيئة الصهيونية المأزومة، والتصويب على المُحيط العربىِّ من باب المُزايدة والاستثارة الشعبويَّة، أو حرَّكَهم الحرجُ ومُحاولة تحصين حاضنتهم الأيديولوجية والوجدانية من التفكُّك؛ بأثر خذلان الغزِّيين أو التعالى على وجيعتهم؛ إنما لم تكن النتيجةُ النهائيّةُ إيجابيَّةً على أيَّة حال، اتِّصالاً بما خسروه بالأصالة، أو ما تسبَّبوا فيه من أضرارٍ جانبية للجبهة الأصيلة، وقد أثاروا كثيرًا من الغُبار فى سماء فلسطين، ووفَّروا لنتنياهو من الذرائع ما أتاح له تمريرَ سرديَّته، وتحييدَ أثر الاستفاقة الضميريَّة عالميًّا.
دخلَ حزبُ الله على الخطِّ الغزّىِّ فى غضون ساعات من مفاجأة الحماسيِّين، ومنحَ عمليَّتَه صِفَة «المُشاغلة والإسناد». والمعنى أنه لا ينظرُ لنفسِه باعتباره طرفًا أصيلاً فى الحرب، ولا يقترحُ جبهةً بديلةً عن القطاع. كان الرهانُ على الاحترام المُتبادَل لقواعد الاشتباك المعمول بها منذ 2006؛ بينما لم يضَعْ فى حسبانه أنه وفّرَ منفذًا جانبيًّا للحكومة الإسرائيلية؛ حالما تضيقُ خياراتُها جَنوبًا، وأنه بقرارِ الانخراط المتسرّع وغير المحسوب؛ ثمَّ بالسَّقف الواطئ الذى حدَّده استباقًا؛ قد يُغرى نتنياهو وعصابتَه باختبار صبر الميليشيا وصلابتها، وباتِّخاذها منصَّةً لإيصال الرسائل إلى إيران، والتصويب مُباشرةً على أُصول المحور ودعايات «وحدة الساحات»؛ بوصفِها دُعامةً أساسيَّة لفلسفة العمامة المُمانِعة. والمُناكفةُ التى أُدِيرَت أصلاً لغَرض غَسْل السُّمعة فحسب؛ كشفت عن المخاطر الكامنة فى الجبهة الشمالية، وعجَّلَتْ بأنْ يلتفتَ العقلُ الصهيونىُّ إلى لبنان بوعى الطوفان وهواجسه، وهو ما كان كفيلاً بإحماء الساحة، واستدعاء المعارك المُرجَأة.
تعايشتْ حكوماتُ اليمين مع الأُصوليَّة الإسلامية فى فلسطين، واستثمرت فيها؛ إلى أن أفاقت على ضربةٍ لم تخطُر على بالها ولا عَبَرتْ فى أسوأ كوابيسها. وإذا كانت تنظرُ لحزب الله قبل السابع من أكتوبر بوصفِه عدوًّا قابلاً للترويض والاحتواء، واختبرته عَمليًّا قبلها بسنةٍ كاملة فى اتِّفاق ترسيم الحدود البحرية؛ فإنها بعد النازلة التى طالتها لم تعُد تتخيَّلُ التعايُشَ مع قوَّةٍ عالية الحشد والتسليح، وباحتمالات أن يحيقَ بالجليل فى أيَّة لحظةٍ ما حاق بغلاف غزَّة. والإشارة الأخيرة قبل أيام حملت هذا المعنى؛ عندما أغارت على اجتماعٍ للهيئة القيادية فى قوَّة الرضوان/ وحدة النخبة الحزبيّة، واغتالت رجُلَها الأوَّلَ إبراهيم عقيل ونحو ستَّة عشر آخرين، وشَفعت بيانَها الاعترافىَّ بأنهم كانوا يُخطِّطون لهجمةٍ من الحدود اللبنانية على غرار الطوفان، وسواء كان الزعمُ صادقًا أم مُلفَّقًا؛ فالمُؤكَّد أنه بات مُهيمنًا على الذهنيّة العِبريَّة، ولا يتركُ منفذًا للتفكير فى المُواجهة الشمالية خارج نطاق المباريات الصفرية، وفكرة أنَّ سلامةَ طرفٍ مُعلَّقةٌ بالضرورة على فناء الآخر.
سارت الأمورُ بين الحزب والاحتلال بوتيرةٍ هادئة لنحو تسعة أشهر، وفى آخر شهرين تصاعدت كأنها تُمهِّدُ لصدامٍ لا مفرَّ منه. لم تنقطِعْ الاغتيالاتُ على الجبهة اللبنانية منذ أكتوبر؛ لكنها كانت انتقائيّةً ومُتقطِّعةً وعلى مسافاتٍ جغرافية مُتباعِدة، ولم تضرب عشوائيًّا، ولا اقتربت من الصفِّ الأوَّل أو حاولت المساسَ به إلَّا فيما ندر؛ أمَّا منذ يوليو الماضى فقد تبدَّلت تمامًا، ابتداءً من تصفية فؤاد شكر، أرفع القادة العسكريين، ثمَّ التعقيب عليه بعد ساعاتٍ بالوصول إلى إسماعيل هنيَّة فى قلب طهران، وترقية إيقاع القصف والغارات الجوية. الأسبوعُ الأخيرُ كان الأكثرَ احتدامًا، من تفجير أجهزة الاستدعاء «البيجر» ووحدات الاتصال اللاسلكية، إلى استهداف «عقيل» بعد شهرين تقريبًا من تولِّيه المنصب، ثم محاولة إسقاط على كركى بعد يومين فقط من خلافته، ونَحر عدد من القادة رفيعى المستوى، وتنفيذ أكثر من 1100 غارة جويَّة على مدار يوم الاثنين، أفضت إلى استشهاد نحو 500 وإصابة ثلاثة أضعافهم. وما زاد أنَّ إسرائيل منحت العمليَّةَ اسْمًا؛ وهذا مِمَّا تعتمده مع الحروب أو مُقدّماتها.
بالنظر إلى الاسم المُختار «سهام الشمال»؛ فربما يشى فى سياق التأويل إلى أنَّ الاحتلال لا يتحضَّرُ لاجتياحٍ برّىٍّ. السوابقُ القريبة تُحيلُ إلى «السيوف الحديدية» ضد غزَّة، مع ما فى التسمية من معنى الاقتحام والالتحام والقتل المُباشر، وفى الضفَّة الغربية عمليَّة «مُخيَّمات صَيفيّة» بما تحملُه من إشاراتٍ إلى الخطَّة الجارية فعلاً باستهداف البنية التحتية، ومُحاولة إخراج عناصر المقاومة إلى العراء، بعيدًا من الأنفاق والمخابئ والتحصينات. وبهذا المعنى؛ فربما قرَّر الكابينت الحربىُّ فى إسرائيل أن يُديرَ المُواجهة مع الحزب من بعيد، وعبر القوَّة الجوية وتعقيم الميدان بالنيران الطائرة؛ ويُحتمَل أيضًا أنه يُمارسُ الخديعةَ والاحتيال على المحور الشيعىِّ، ويُظهِرُ عكسَ ما يُضمِرُ؛ بغرض إغراء عناصر الحزب بالتقدُّم فى الجُغرافيا؛ ليكونوا صيدًا سهلاً للمُقاتلات أو المفارز المُتقدِّمة. فى كلِّ الأحوال دخلَ لبنانُ فى حزامَ الحرب الفِعليَّة، وتخطَّت المسألةُ فكرةَ المُشاغلة والإسناد، أو الارتباطَ العضوىَّ مع الجبهة الغزِّية؛ بحيث تنسحبُ عليها التوافُقات المُبرَمة جنوبًا، أكان بالهُدنة ومُبادَلة الأسرى، أم بالتعليق ووَقف القتال من جانبٍ واحد.
اختار نتنياهو أن يُصعِّد بالتزامن مع الدورة العادية للأُمَم المتحدة. كأنه يُمارسُ تَحدّيَه للنظام الدولىِّ من نقطة الذروة، ويتقصّدُ أن يصلَ لسَقف البطش والتنكيل بالحزب والمدنيِّين فى لبنان على مرأى ومسمع من قادة الدول المُجتمعين فى نيويورك؛ ليكون كلُّ ما بعد ذلك مَقبولاً وأقلَّ عرضةً للنقد والمُجابهة. وبينما كان مُقرَّرًا أن يذهب ذئبُ الصهيونية العجوز للمُنظَّمة أُسبوعًا كاملاً؛ قلَّص الفترةَ لاحقًا، ثم ألغى الزيارةَ تمامًا. فى المقابل؛ ذهب رئيسُ الوزراء اللبنانىُّ بحثًا عن موقفٍ عالمىٍّ يستنقذُ البلدَ ممَّا يُرادُ به، ويذهبُ الرئيسُ الإيرانىُّ الجديد بزشكيان طَلبًا لمُفاوضات الكواليس مع الولايات المُتّحدة، وقد عبّر وزيرُ خارجيَّته عباس عراقجى عن جاهزيتهم للدخول فى مُفاوضاتٍ جديدة على البرنامج النووى، وهو مناخٌ لا يُحتمَلُ فيه أن تشتبكَ طهران مع المشهد المُشتعِل إقليميًّا، ولا أن تتقدَّم للدفاع عن نصر الله أو السنوار؛ حتى لو نفخت أوداجَها وتحدَّثت عن أنها لن تترك الحليفَ وحيدًا.
صحيحٌ أنَّ الحزبَ ليس كحماس إطلاقًا؛ لكنّه ليس أعزَّ على الجمهورية الإسلامية من نفسِها ومصالحها الاستراتيجية. لقد بُنِى بالأساس ليكونَ قاعدةً مُتقدِّمةً للشيعيَّة المُسلَّحة، ومن مهامه الإلزاميّة أن يخوضَ الحروبَ دفاعًا عن العتبة المُقدَّسة؛ وليس العكسَ. ربما لا يُحبُّ الحرسُ الثورىُّ أن يخسرَ أنجحَ تجاربه؛ لكنه لا يملك الخيرةَ من أمرِه إلَّا بمقدارِ ما يستطيعُ تحريكَه من أطرافٍ بديلة، من اليمن جنوبًا، حتى الحشد الشعبىِّ وميليشيَّات «فاطميون وزينبيون» من الشرق والشمال فى العراق وسوريا. لقد امتصَّتْ طهران كثيرًا من الضربات فى سويداء القلب، باستهداف المُنشآت النوويَّة وتصفية العُلماء وسرقة الوثائق، وبإمكانها أن تبتلعَ مرارة التنكيل بحزب الله والدولة اللبنانية من ورائه، مع المُراهنة على إعادة بنائه لاحقًا؛ لا سيَّما أنها لا تلتزمُ إزاءه بأىِّ شىءٍ تقريبًا، وصيغة العلاقة بينهما ليست على قاعدة التحالف المُتكافئ فى الحقوق والواجبات؛ إنما على شرط التبعية العقائدية والولاء السياسى الكامل.
أخفقَتْ إسرائيلُ فى استشراف الطوفان، وأخطأت فى امتصاص مَوجِه الهادر؛ لكنها سعت لاحقًا إلى ركوبه وتوجيهه نحو غاياتها، واعتبرته فُرصةً ثمينةً لتسريع خططها المُعطَّلة، واستدعاء ما كان خَفيًّا منها إلى الواجهة. صار القطاعُ خرابًا لا أملَ فى إحيائه لعقدين أو ثلاثة على الأقل، أكان مع حماس ومُحرّكيها أم السلطة الوطنية وداعميها، ووقعَ ما يُشبهُ «كَىَّ الوعى»؛ بدرجةٍ تُعطّلُ البيئةَ الفلسطينية بكاملها عن أن تكون مصدرًا حقيقيًّا للإزعاج فى المُستقبل القريب. ومسألةُ الحزب لن تظلَّ عالقةً كما كانت، ولم يعُد الغرضُ إزاحتَه إلى شمالىّ نهر الليطانى وتفعيل القرار 1701 فحسب؛ إنما تقزيمُه وتقليمُ أظفاره، وإعادته إلى حيث كان فى زمن احتلال الجنوب على الأكثر. وحجمُ الانكشاف الذى فضحته الفترةُ الأخيرة؛ يُهدِّدُ بمزيدٍ من الضربات المُوجِعة. وأقصى ما يُمكن إنجازُه اليومَ أن يُعاد سريعًا إلى أجواء العام 2006، ويجرى تنشيط التوافُقات الأُمميّة التالية للتهدئة وقتها؛ بما يسمحُ بتجميد الأوضاع القائمة، ودفع تل أبيب مُجدَّدًا إلى حَيِّز «الحرب المرجَأة». مع العلمِ بأنها واقعةٌ لا محالة؛ طالما ظلَّ الحزبُ على ولائه للشيعيَّة المُسلَّحة، وظلَّت إيرانُ أعجزَ من انتزاع مطالبها بنفسها، ودون توظيفٍ مُنحرِفٍ للأطراف، واستنزافٍ رخيص لمُقدّرات الآخرين.
النزاعُ بين الأُصوليَّتين ليس على فلسطين ولا الجيوب الباقية من جنوب لبنان؛ بل على المنطقة وترسيم دوائر الغَلَبة والنفوذ فيها. تباهَتْ الشيعيَّةُ المُسلَّحة طويلاً بأنها تُهيمن على أربعةِ عواصم، وكانت تتطلَّعُ للمزيد؛ بينما الرؤيةُ الصهيونية تنطلقُ بالأساس من قَصِّ أجنحتها. وكلَّما تعذَّر تصفية الحَسمُ بين الرؤس؛ تتضرَّر الأذرُع والساحاتُ الرديفة. والمُعضلة أنَّ كلَّ مُناداةٍ لحزب الله بالارتجاع إلى الحظيرة الوطنية، لا تخلو من رومانسيَّةٍ مُفرطة؛ إذ مَبعثُ تأسيسِه وعِلَّةُ وجودِه أن يكون ظِلَّا لإيران، وللمرشد دام ظِلُّه على قول نصر الله. وعليه؛ فالحرب مُقيمةٌ وستتمدَّد، وواجبُ العقلاء أن يبحثوا عن ترشيد كُلفتها على المنطقة وقضاياها الحيوية، خصوصًا ما يتَّصل بفلسطين، ليس من زاوية أنها الجرحُ القديم والأكثرُ إيلامًا فحسب؛ إنما لجهةِ أنها الحجّةُ التى تستندُ إليها المُمانعةُ فى التمدُّد، وينطلقُ منها الاحتلالُ لتَوسِعة معاركه وخياراته الحارقة. فَكُّ الارتباط بين الفصائل والمحور ضرورةٌ وُجوديَّة، إن لم يكُن لبقائهم حَرَكيًّا فللقضيَّة ومصلحتها الاستراتيجية. وليست الاستعانةُ بعدوٍّ على عدوٍّ إلَّا إخلاصًا لإبقاء الأوضاع على حالها؛ وإنْ تحرَّكتْ فإلى الأسوأ للأسف. إنه سؤالُ الزمن الذى يُريد الصهاينةُ الإجابةَ عليه بمادّة النكبة الأُولى، وتُذاكره حماس ورُعاتها من كتاب الفتنة الكُبرى وخصومة الفرس مع الأمويِّين والعباسيِّين، ولا خلاصَ فيه إلَّا بقراءة الواقع والانخراط فيه بمنطقِه، وبعيدًا من الأوهام والشعارات والعواطف الساذجة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة