حازم حسين

حروب مُستجَدّة بوعىٍ قديم.. أثر الأيديولوجيا فى خدمة العدو وتشويه معانى النصر والهزيمة

الخميس، 26 سبتمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

على قسوةِ ما أَلَمَّ بالأبرياء فى غزَّة؛ فإنَّ مأساة اللبنانيين لا تقلُّ عنهم، إن لم تكُن أكبر. ومَرَدُّ التقييم أنَّ القطاعَ أخذ زمامَ المُبادرة؛ ولو بقرارٍ فردىٍّ من حماس، وما كان له أنْ يتجنَّبَ الحربُ بتداعياتها الثقيلة، بينما حزبُ الله على المَقلب الآخر كان فى موقعِ «رَدِّ الفِعل» من المُفتَتَح إلى الختام. انفعلَ فى البداية بالعاطفة المُتأجِّجة فى «طوفان الأقصى»، ثمَّ نَصَّبَ نفسَه شاخصًا لتصويب الاحتلال على البلد بكامله، واختلطت فى وَعيه أُمورُ التكتيك والاستراتيجية، وبدا كما لو أنه يخوضُ مُواجهةً انتُزِعَت منه بسَيف الحياء، أو بإملاءاتِ قيادته المذهبيّة العابرة للدولة؛ حتى أنه تجاوزَ محاذير الجبهة الداخلية واعتراضاتها، ولم يُراعِ تعقيدات المشهد الوطنىِّ، ولا أنه يذهبُ للقتال عاريًا من الإجماع، ومُطَوَّقًا بانقساماتٍ سياسيَّة عميقة، وفى مناخٍ من التردِّى والهشاشة يتسلَّطُ على عقول الشركاء، ويُثير الشكوك فى نهائيَّة الكيانيّة اللبنانية وميثاقيَّة العَيش المُشترك. خاض «السنوار» تجربتَه الحارقة مَحمِيًّا بحاضنةٍ تتَّفق فى الغاية؛ وإن اختلفت على الوسائل؛ بينما قفز «نصر الله» إلى دائرة النار مُتجاهِلاً أنَّه مَحلُّ انتقادٍ من القريب قبل البعيد، ولم يُقدِّمْ سابقًا ما يُقنعُ بَقيَّةَ الطوائف بأنه يخوضُ معركةَ الوطن إلى جانبهم؛ ليكون له لاحقًا أن يسحبَهم خلفَه فى المعارك الشخصية والأيديولوجية.

من نافلةِ القول أنْ نُعلِّقَ جريرةَ التصعيد ومحارقه فى رقبة نتنياهو. هذا أوَّلُ الأُمور المفروغ منها؛ لكننا مُضطرّون إلى إعادته والتأكيد عليه؛ لنقطعَ الطريقَ على من يُفكِّرون بقلوبهم، أو لا يُفكِّرون أصلاً، وينظرون للمسائل الوجودية من زاويةٍ ضَيِّقة. إنَّ إسرائيلَ ما قَدَّمتْ يومًا سابقةً لانشغالها بالسلام، ولا دليلاً على أنها تحترفُ شيئًا غير القتل، وانتهاز كلِّ الفُرَص المُمكنة والمُستحيلة للإفراط فيه. والنضالُ العادلُ ضدَّ عَدوٍّ ظالم؛ إنما يتطلَّبُ أن نكون عادلين مع أنفسِنا أوَّلاً، فلا نُحمِّلُها فوقَ طاقتها، ولا نُلقَى بأيدينا إلى التهلكة. وتلك النقطةُ أيضًا مِمَّا يُفسِّره العاطفيِّون بالانهزاميِّة أو مُمالأة المُحتلّ؛ بينما لو شَرَّحَتَ ذهنيَّةَ الصهاينة ستجدهم مُغرمين بالشعاراتيِّين وأصحاب الحناجر الصاخبة، ويُفضّلونهم على مَنْ يتحسَّسون الأرضَ بعُقولهم قبل أسلحتهم، ولا يختلفون على أناشيد العداوة وإن ترنّموا بها همسًا. ومَبعثُ الانتقاء والتفضيل أنهم يَمُدّونهم بالمُبرِّرات المطلوبة لحروب الذرائع، ويفتحون سِكَّةً واسعةً لتديين الجُغرافيا ونزاعاتها، وإكساب المسألة الإنسانية والسياسية نكهةً عقائديَّةً لاذعة، تتدفَّقُ السرديَّةُ التوراتيَّةُ من شقوقها فى أشدِّ حالاتها سخونةً وتوحُّشًا؛ ثمَّ تتسيَّدُ على غيرها بفِعل الفارق الكاسح فى القوَّة، وبأثر الوَصْم الذى اعتدنا أنْ يُلازم الضعيف مِنّا، والانحيازِ الذى يُعزِّزُ مركزَ القوىِّ فيهم ويَزيدُه قُوَّةً واستقواء.

يَحِقُّ هُنا أن تسألَ عن غطرسة الحكومات الإسرائيلية مع السلطة الوطنية ومُنظَّمة التحرير؛ بينما كانت لوقتٍ طويلٍ بَردًا وسلامًا على حماس، أو نارًا أقرب للدفء منها إلى الإحراق، ومَكَّنت لها على الأرض وفى منظومة الحُكم. ولماذا أبقت على جيوبٍ من الجنوب اللبنانى بعد الانسحاب، ما سَمحَ للحزب باختطاف جُنديِّين وتجديد الحرب بعد ستِّ سنواتٍ فقط، وبأن يتسبَّبَ فى إرهاق الدولة؛ ثمَّ يصرفُ فائضَ قُوَّتِه فى قلب العاصمة، عندما اقتحمَها بالسلاح فارضًا «الثُلثَ المُعَطِّل» على المُحاصصة المُستقرِّة منذ اتفاق الطائف. لقد أخفَتْ دولةُ العصابات وجهَها الحقيقىَّ وراءَ سِتار اليسار، وكانت نكهته وقتَها تتناسَبُ مع حقبةٍ عربيَّة من خطابات التحرُّر، ثمَّ من دعايات المَدِّ القَومىِّ. انتكسَتْ تجربتُها فى أكتوبر 1973؛ فكان عليها أن تُبدِّلَ الأقنعةَ لتُجاهِرَ بيَمينيّتها الصريحة، وبالتبعية أن تُغذِّى أُصوليَّةً مُضادَّةً على الجانب الآخر، وترعاها، وتستثمرُ فى ازدهارها وإعلاء كَعبِها على مُنافسيها، وبَقيَّةِ الطَّيْف الاجتماعى والثقافى الواسع فى ساحات الصراع. هكذا كان تأسيسُ الحزب استجابةً للغزوِّ وتطويق بيروت، وتجسيد الفرع الفلسطينىِّ للإخوان فى حركةِ مُقاومةٍ إسلاميَّةٍ، كان توظيفًا لفائض العُنف فى الانتفاضة الأُولى، ومن يَومِها تخوضُ تلُّ أبيب الحروبَ على شرط إضعاف الساعين للحلول السِّلمية، وتنهيها بمنطقِ أن تخرُجَ الجماعاتُ الدينيّة منها كما دخلتها، أو أقوى، على أن تنحصر قوّتُها فى بيئتها، وأن تظلَّ ضعيفةً أمامَ الاحتلال. وجَردةُ الحساب من انتفاضة الأقصى لعملية السور الواقى وحرب 2006، وأربعة حروبٍ جُزئيَّة على غزَّة؛ تصُبُّ كُلُّها فى اتجاه أنَّ العدوَّ كان يتقصَّدُ إحباطَ السياسيين المؤمنين بالعلمانيّة والقانون، ويعملُ جاهدًا لتثبيت أقدام المُقاتلين المُغرقين فى اللاهوت وسرديَّات العصور الوسطى ومَواضى الهُويَّات المُتناحرة.

ربما اختلفت المسألةُ اليومَ قليلاً. يعودُ جانبٌ من ذلك إلى هَولِ الصدمة فى «الطوفان»، أو عُمق الانقسامات داخل إسرائيل؛ على خلفية فشل تجربة «لابيد - بينيت»، وعودة نتنياهو محمولاً على أكتاف التوراتيِّين والمُستوطنين وفى أحضانهم، وبأجندةٍ أزعجت الجنرالات والنخبةَ المدنيّة من تيَّارات الوَسط، ومن الساعين لإبقاء سُلطة القضاء فاعلةً فى غياب دستورٍ مكتوب. والمُؤكَّد أنَّ رئيسَ الحكومة اعتبرَها فُرصةً مِثاليَّة للفِكاك من أزماته الشخصية والسياسية، ومدخلاً لتصليب الائتلاف وإضعاف مناوئيه. إذ هى هديةٌ من التى لا تأتى مَرَّتين، ولا يصحُّ تضييعُها على مقياس العجوز مُحترف الانتهازيّة والتلوُّن؛ لا سيَّما أنَّ إسرائيل اعتادت أن تزدهرَ أو تنقَلِبَ رأسًا على عقب فى أزمنة الحروب. والحال؛ إذ يستميتُ فى التنكيل بما كان يَعُدُّه ذُخرًا استراتيجيًّا؛ فإنه لا ينطلقُ من انقلابٍ على الذات، أو من إنكارٍ لاستراتيجيَّته القديمة، والدائمة؛ بل يهربُ بالتشدُّد من مَخاطرَ أكثر إزعاجًا، ويَطمئنُّ لاستحالة الوصول إلى ما يُنادى به. ولو حدثَ أن وجدَه فى المُتناوَل؛ فربَّما يتوقَّفُ عنه اختياريًّا فى اللحظة الأخيرة.

لا يُمكنُ أن يعيشَ الليكود، أو أيَّةُ فكرةٍ شبيهة، فى سياقٍ هادئٍ وخَالٍ من المُنغِّصات. وزعيمُه الذى يفخرُ دومًا بأنه أفسدَ «أوسلو»، ولم يمنح الفلسطينيين شيئًا على الإطلاق، لا يُمكن أن يتخلَّى طواعيةً عن طَرفٍ المُعادلة الذى يستكملُ له التفاعُلَ الكيميائىَّ، ويُحقِّقُ النتائجَ المَرجُوَّة. أمَّا الحديثُ عن أنه وضعَ بين رُزمة أهدافِه فى غزَّة أن يُفنِى حماس، وأخفقَ فيه بجدارة؛ حتى لَيَحِقَّ للسنوار ورجالِه أن يحتفلوا بالنصر مُبكِّرًا، وقبل أن يُعرَفَ مآلُ القطاع وما عليه من رُكامٍ يحجبُ الشمس؛ فإنَّه من قَبيل السذاجة المُفرطة والتضليل الكامل. ومِثلُه القولُ إنه أصابَ التكتيكَ مع الحزب وضَيَّعَ الاستراتيجية، وما يزالُ سماحةُ السيد ومُقاتلوه رابضين على الثغور، وما خارت عزائمُهم ولا انتُقِصَ شىءٌ من بأسِهم؛ ذلك أنَّ مسألةَ الفاعليَّة والأثر تحكمُها اعتباراتٌ أبعدُ من مُعايرةِ ليترات الدم، والرَدِّ على الجنازات بالخُطَب، أو مَواكب البطولة التى تطلبُ الاستشهاد؛ بأكثر مِمَّا يُفتِّش قاتلُهم عن النجاة. لقد دخلَ «محورُ المُمانعة» فى الجولة بمنطق حرب العصابات؛ ويُقيِّمُ أداءَه حصرًا بالبقاء فى الميدان أو على قيدِ الحياة. وما قد ينسفُ ذلك؛ أن يَنظُرَ العدوُّ من الزاوية نفسها؛ فلا يكونُ طالبًا الإبادةَ الكاملة فعلاً؛ ولو نادى بها، أو لا تُؤذِيه إدارةُ اللعبة كما هى عليه الآن، ومن دون النفاذ إلى عُمق وَعيه؛ فإنّه لا يُمكن الفَصلُ فى طبيعة الأهداف، ولا مدى تَحقُّقِها من عدمه؛ أمَّا النظرُ لوقائع الأرض فلعلَّه أقومُ وأنجعُ، ويكشفُ عن حِسبةِ الرِّبح والخسارة خالصةً من ادِّعاءات المُحتلِّ ودعايات المُقاوِم، ومن الاجتزاء والتبسيط والتلبُّس بالخَديعة فى كلِّ الأحوال.

يأخذُ المُمانِعون حِصَّتَهم فى حروبِ الكلام، ويدفعون أضعافَها فى الميادين. أفاض القسَّامِيّون فى تضخيم «الطوفان» بما يتجاوزُ حجمَه الحقيقىَّ، وخرجَ قيادِيّهم الراحلُ صالح العارورى على الشاشات مُبرِّئًا زُمرتَه، ومُتِّهمًا عوامَ غزّة بما طال مدنيِّى إسرائيل؛ وتلقَّفتْ آلةُ الدعاية العِبريَّة مُجامَلتَهم غير الرقيقة ولم تشكُرْهم عليها؛ إلَّا لو اعتبرنا التنكيلَ بالقطاع من قَبيل رَدِّ التحية بأفظعِ منها. الصُّورُ الأُولى خرجت من هواتف المُقاتلين، وبياناتُ المُلثَّم «أبى عُبيدة» بشَّرت بتحقيق الإلقاء المُؤجَّل فى البحر، ونَحر الأسرى لقاء كُلِّ غارة أو مجزرة. بينما كان الصهاينةُ فى المُقابل يرتكبون الجرائم ويُنكرونها، ويستميتون فى هذا وإن فضحَه البثٌّ المباشرُ للمأساة، وإذا اعترفوا بتصفية فؤاد شكر يصمتون عن اغتيال إسماعيل هَنيَّة، وإن لَوّحوا بقَصف قادة الرضوان فى اجتماعهم السرىِّ «تحت الأرض»؛ فقد فجَّروا أجهزةَ الاتِّصالات قبلَها ولم يرقصوا على إيقاع التفجيرات. وبإجراءُ المنطق السابقِ على ما يجرى فى الشمال؛ فقد أنفقَ الأمينُ العام للحزب فى خُطَبِه أضعافَ ما أبلاه رجالُه فى ساحاتهم، وهدَّد بأكثر مِمَّا حقَّق، وتلقَّى الضربات بالقياس إلى أقواله لا أفعاله. وهكذا؛ يبدو المشهدُ كما لو أنّهم يتواطؤون على أنفسهم، ويطلبون الهتافَ وتسجيلَ النقاط العاطفيَّةٍ، بدلاً من النصر أو اجتناب الهزيمة؛ وبالتبعية لا يعنيهم إنْ كان الانكسارُ واقعًا عليهم وحدهم، أو مُنسَحِبًا بالإذعانِ على بلدٍ كاملٍ من خلفِهم. وتلك العقليَّةُ إنْ صَلُحَتْ فى الماضى؛ فإنها لم تعُد تُناسب السياقَ الراهن، ولا تُنتج إلَّا نكباتٍ تتعلَّقُ فى ذُيولِ نكبات.

اتَّخذتْ إسرائيلُ صِفَة الدولة؛ إنما لم تُسقِط مرحلةَ الكيبوتس والعصابات من ذاكرتها تمامًا. وعليه؛ فإنَّ اختصامَها بالمنطق العِصابىِّ قد يبدو مُناسبًا للميليشيا إزاء جيشٍ نِظامىِّ؛ لكنه لا يمنعُ الأخيرَ من التصدِّى لها بأدواتها، كما لا يضمنُ وحدَه التوصُّلَ إلى الأهداف المَأمولة. والحال؛ أنَّ نتنياهو على عديد ما أحدثه فى إسرائيل، فأخطرُ ما فيه أنه عدَّل عقيدتَها القِتاليَّة، وبدا أكثرَ إقبالاً على الحروبِ الطويلة، وعلى تعدُّد الجبهات، ومن دونِ تفرقِةٍ بين أراضيه وأراضى الخصوم. والصورةُ الآنَ أقربُ إلى أنه يعود لزمن النكبة الأُولى؛ إنما بوعى الدولة القويَّة والمُهيمنة، فيُبدِّلُ فى أدواته بين فاعليَّة المَأسَسة العسكرية وخِفَة الحركة الميليشياوية. لقد استفادوا فى الواقع من تجاربهم القديمة، صحيحٌ أنهم ما زالوا يرتكبون الأخطاء؛ لكنهم لا يُكرِّرونَها. أمَّا الفصائلُ فى غزَّة فقد عادت إلى معارك الماضى بذهنيَّته القديمة، كما أن الحزب يخوضُ نزاعَ اليومٍ بعقليَّة حرب يوليو 2006، وكلاهما لا يعرفُ حجمَ ما أصاب الوعىَ الصهيونىَّ قبل الطوفان وبعدَه، ولا ما أصابَهم هُم أنفُسهم بأثر الانقسام والتشظِّى، واستفحال حالة الاستتباع والارتهان لأجندةِ الشيعيَّة المُسلَّحة؛ بينما لم يَعُد رأسُ المحور بعيدًا من مجال القنص، ولا مصالحه آمنةً من الاستهداف المُباشر كما كان قبل عقدين.

صَكَّ نتنياهو لحربه على غزّة حدودًا تضمنُ إطالتَها لا إنهاءها. والقصدُ من تشدُّدِه لم يكُن أن يُبيدَ «حماس» كما أذاع؛ إنما أن تظلَّ لديه إمكانيَّةُ البقاء على مُلاحقتِه للطريدة. وإزاء تفعيل الحزب لجبهة التَّمَاس مع إسرائيل؛ فقد استغلَّ من جانبه شعارَ «وحدة الساحات» ليُوزّع أهدافه على مستويين. بمعنى أنه يذهبُ للذروة مع السنوار، ويكتفى من نصر الله بالدعوة إلى إزاحة مُقاتليه عدّة كيلو مترات، تحت عنوان إعادة النازحين إلى بيوتهم، ويُوقِنُ أنَّ الأخيرَ لن ينزلَ عن شجرة الإسناد طالما لم يتوقَّفْ القِتالُ جنوبًا، وهكذا لا أملَ فى إطفاء محرقة الشمال. كأنها دائرةٌ مُغلقةٌ تُفضِى مَحطَّاتُها إلى بعضِها: لا هُدنةَ من دونِ نصرٍ كامل، وعليه يُواصِلُ الحزبيِّون الاضطلاع بالتزامهم الأخلاقى أو التحالُّفِى ولو اشتدَّ النزيف، ويكونُ التصعيدُ عند رأس فلسطين مُبرِّرًا للإبقاء على النار مُمسِكَةً بقدميها. يُمكن القول إنَّ رهانَه قد تجاوز مرحلةَ الفصائل الغَزِّية بالفعل، ويسعى وراء تصفية الحسابات كُلِّها دفعةً واحدة، ولأجل ألَّا تتكرَّر المُواجهة فى المدى القريب، أو على صورةٍ مُغايرة. وما الحزبُ إلَّا مدخلاً لاصطياد الجمهورية الإسلامية؛ طمعًا فى أن تتداخَلَ الحساباتُ الغربيَّةُ فى الحرب الأوكرانية، مع حساباتهم للمشهدِ الإقليمىِّ، فيختصمون روسيا من بوّابة التنكيل بأحد حُلفائها، وبهذا يتيسَّرُ للصهاينة أن ينالوا من أُصول الشيعيَّة المُسلَّحة حولهم، وربما أن ينفُذوا إلى برنامجها النووىِّ، ويُعاد رسمُ خريطة جديدة للشرق الأوسط؛ على ما قال ذئبُ الليكود مِرارًا، ويبدو أنه يُلاقى هوىً فى نفوس الجنرالات.

أيًّا كانت الأهداف؛ بات واضحًا أنَّ الصهاينة يتحرّكون وفقَ رؤيةٍ واضحةٍ فى أذهانهم. أكان فى الحربين جنوبًا وشمالاً، أم فى التلويح بالتهجير على «خطة الجنرالات»؛ كمُقدِّمة لتهجيرٍ أكبر فى غزّة أو الضفّة. أمَّا فى المُقابل؛ فإنَّ المُمانعة وضعت القضية على نارٍ عالية، ولم يكُن لديها برنامج كاملٌ أو تتحضّر لمُداواة الحروق، كما أنها لعبت ضدَّ السياسة كما لعب الاحتلال تمامًا، واختصمت الحكومات والأنظمة والسلطة بطريقةٍ لا تقلُّ عُنفًا وانتهازيّة. وهذا ما يُوقِعهم فى خداع أنفسهم أوَّلاً قبل خديعة الآخرين؛ كأن يُرَى الانفرادُ العنيف بالمشهد تعبيرًا عن الجدارة والاستحقاق، أو أن يصيرَ إيذاءُ العدوِّ فى ألفِ قتيلٍ ومائتى أسير نصرًا مُؤزّرًا، يُعوِّض عن مائتى ألف قتيلٍ وجريحٍ، وعن بيئة لم تعُدْ صالحةً للسكن والحياة، أو أن يتباهى «نصر الله» وفريقه بأنهم أَجْلَوا عشرات الآلاف من نواحى الجليل، بينما أضعافُهم نزحوا ويُقيمون فى المدارس وعلى قارعة الطريق فى لبنان. إنه استسهالُ التبسيط والابتسار، ونمذَجَةُ النصر والهزيمة على مقياس الأيديولوجيا، فيصيرُ ما نُحرِزُه دليلاً على قوَّتِنا، وما يقتطِعُه العدوُّ مِنّا دليلاً على قوِّتِنا أيضًا، أمَّا ما يَتشوَّه في الجغرافيا والديموغرافيا والحسابات الجيوسياسية؛ فإنه أثرٌ جانبىٌّ لا يعنينا؛ لأننا لسنا دُوَلاً ولا نُحاسَب على طريقة الدُّوَل. والحال أنَّ «حماس» ما تمكَّنت من الطوفان إلَّا بحاضنتها الشعبيّة قبل دعم الشيعيَّة المُسلَّحة، والحزب ما غُفِرَت له نذوةُ 2006 التى قال أمينُه العام إنه لو يعلَمُ كُلفَتَها ما فعلَها؛ إلَّا لأنَّ البيئةَ اللبنانية كانت أصلَبَ مِمَّا هى عليه، وأكثر تسامحًا من حالها الآن إزاء شريكٍ ينقلب خصيمًا، ويضعُ أجندةً أُخرى فوق الوطن وأهله ومصالحهم الحيويّة. وإن كُنّا مُتَّفقين على إجرام الصهاينة، ولا نختلفُ قَطعًا على الحقِّ؛ فإنَّ الوسائل لا تقلُّ قيمة عن الغايات. وفضيلةً المُراجعة مطلوبةٌ فى كلِّ وقت، وهذا ما لا دليل على حدوثه حتى الآن.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة