منذ أيام علمت أن اليوتيوبر الشهير قد خصص إحدى حلقاته لتناول تاريخ اللغة العربية، فشعرت بالامتنان، فاستغلال البرنامج ذى الشعبية والانتشار فى تثقيف المتابعين بلغتهم الأم، أمر يستحق التقدير، لكننى فوجئت بأن مقدم البرنامج يوجه متابعيه لفكرة هدفها هو هدم السائد عن هذه اللغة بين العلماء المتخصصين، مستندا فى هذا لرأى فردى لباحث أردنى حدث السن، فشعرت بأن اليوتيوبر "صاحب غرض".
الفكرة التى خُصصت الحلقة لتسويقها، تتفق أيديولوجيتها مع ثقافة "لا دينية" تستبعد كل ما يمت إلى التراث الدينى بصلة، على اعتبار أن الدين فى جانب والعلم فى الجانب الآخر، ولأن اللغة العربية ـ فى أحد أبرز تعريفاتها ـ لغة "دينية"؛ ذلك أنها لغة الصلاة وقراءة القرآن لجميع المسلمين على اختلاف جنسياتهم، كان اليوتيوبر حريصا على "نفى الدين" من موضوع حلقته، حتى أنه أدهشنى عندما تحدث عن اللغة الثامودية فاستدرك (فى الدقيقة الـ13 ): يا عزيزى.. الثمودى هنا ملهاش علاقة بثمود اللى مذكورة فى القرآن،" دون ذكر مصدر هذا النفى الواثق، وكأن "ثمود القرآن" كانت فى أمريكا اللاتينية أما ثموده هو ففى الجزيرة العربية.
قامت الحلقة على فكرة محورية تنفى عن اللغة العربية إحدى أبرز ملامحها المثيرة للحيرة، وهى ظهورها فجأة مكتملة قبل الإسلام بقرنين من الزمان، فلم يتم العثور على أى خطوط للأبجدية العربية الحالية تعكس البدايات الأولى لها كما جرت العادة مع اللغات الأخرى، التى تبدأ تصويرية مرتبكة وتنتهى صوتية مستقرة.
هذا الظهور المفاجئ أثار حيرة كبار المستشرقين وعلماء اللغة وأغلبهم أجانب (منهم على سبيل المثال: زيجريد هونكه، وجاك بيرك، وإرنيست رينان، ويوهان فك، وكارل بروكلمان، وجوستاف جرونبوم)، هؤلاء وغيرهم لم يكونوا بجرأة اليوتيوبر فى الجزم بأن الخطوط القليلة التى وجدت فى أطراف الجزيرة، هى ـ كما قال ـ "فرانكو" العربية أو أبجديات تمهيدية لها، فاللغة العربية من وجهة نظر "مقدم الحلقة" كان لها نشأة عادية جدا وطفولة كطفولة كل لغات العالم، ولكن بخطوط أخرى!!
وهنا.. لنا أن نتساءل: هل من المتصور أن يغيب هذا الفرض "العبقرى" عن علماء العربية الذين أفنوا أعمارهم فيها؟.. بالطبع لا.. كانت هذه الفرضية بديهية، لكن الجميع ـ وباعتراف اليوتيوبر ـ رفضوها، فالحقيقة أن هذه أبجديات للغات مجاورة، وهذا لا يحتاج إلى كثير من الذكاء لإدراكه، فمثلا فى الدقيقة 12 و7 ثوان أورد نصا مكتوبا بالخط العربى وآخر بالخط الحميرى، على اعتبار أن الخطين هما للغة العربية، فى حين أنه لا يوجد أدنى وجه شبه بين الخطين، والخط الحميرى أقرب للخط "الأمهرى" الموجود حتى يومنا هذا فى أثيوبيا، ذات الـ88 لغة، ومن المنطقى أن تكون الأمهرية قد انتقلت إلى اليمن كخط ـ على الأقل ـ بفعل الجوار الجغرافى، فضلا عن أنها إحدى اللغات السامية، فهى شقيقة اللغة العربية، وبينهما مشتركات عدة، ومثل ذلك فى الآرامية والعبرية وغيرهما، بل وجد الباحثون ـ بسبب الجوار الجغرافى ـ تشابهات كثيرة بين المصرية القديمة وهى لغة "حامية" وبين اللغة العربية وهى لغة "سامية".
الحلقة ممتلئة بالمغالطات والتناقضات التى تهدم فكرتها، وكان من الممكن تقبل جهد اليوتيوبر إن اتسم بالحياد ونقل المعلومات بأمانة دون توجيه يرجح فكرة مرجوحة لباحث حدث السن على فكرة مستقرة (على الأقل حتى الآن) لعلماء من عصور وجنسيات شتى، ففى هذا المسلك استغفال للمتابع، الذى يجب أن يسأل نفسه: لماذا رفض علماء اللغة اعتبار الخطوط الأخرى للحميرية والثامودية خطوطا مبكرة للعربية؟..
وهل تكفى هذه الخطوط بندرتها وتشابهها مع لغات أخرى موجودة فى الجوار الجغرافى على ترجيح ما أصر مقدم البرنامج على ترجيحه بأنها "فرانكو" اللغة العربية خاصة وأن لغات الجوار حققت تواجدا مؤكدا ومتواترا أبعد زمنا من العربية، فأقدم نص عبرى يعود إلى القرن الـ12 قبل الميلاد، وأقدم نص آرامى يعود إلى القرن الـ9 قبل الميلاد (؟!).
حقيقة.. إن مزج الموضوعات "العلمية" بتوجهات أو قناعات شخصية، أمر مثير للاشمئزاز، ذلك أنه خيانة للأمانة العلمية وخيانة لثقة المتابعين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة