فى كتابه «الحجاب Veil الحروب الخفية لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية» يعرض بوب وودورد عمليات وكالة المخابرات المركزية من 1980 إلى 1987، وحروب «سى آى إيه» على نيكاراجوا، والحرب الخفية ضد ليبيا والقذافى وأسرار أخطر الحروب الخفية فى العالم أثناء الحرب الباردة، وخلال عرضه لأخطاء أجهزة المخابرات يقول إن بعض الأجهزة تدخل فى التعامل الروتينى وتبنى على السوابق، بحيث إنه «كلما رأى شيئا يشبه البطة قال إنه بطة»، بينما قد يكون نسرا أو قطا أو أى كائن آخر.
والواقع أن نظرية شبيه البطة هذه تنطبق على الكثير من الجهات التى تعاملت قبل وبعد 7 أكتوبر على النمط القديم، بينما بدا الأمر من البداية كنوع جديد من المواجهة وتحول فى مسارات الصراع، يتجاوز تكرار سوابق المواجهات، حيث راهنت بعض أطراف المواجهة على أطراف إقليمية أو قوى مختلفة مثل إيران كشفت المواجهة عن توجه جديد لدى إيران وحزب الله لتلافى المواجهة الشاملة.
خلال أيام قليلة بدا أن هناك تحولا نوعيا فى رد الفعل والتفاعل الإيرانى مع الهجمات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية، فكل الردود الإيرانية تشير إلى رفض إيران الدخول فى مواجهة شاملة مع إسرائيل وبالتالى أمريكا، وقد تواصلت الهجمات الإسرائيلية على مناطق جنوب لبنان بشكل مكثف مع أنباء عن حشد قوات شمال إسرائيل استعدادا لاجتياح برى للبنان، وهو ما قد يضاعف من تعقيدات الموقف فى لبنان، خاصة أن تصريحات القادة فى إيران كلها تصب فى التأكيد على عدم الدخول فى مواجهة شاملة، وقد أكد الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان أن إسرائيل تأمل توسيع الحرب فى الشرق الأوسط من أجل الاستمرار فى البقاء، مؤكدا أن الحرب فى الشرق الأوسط ليست فى مصلحة أحد ـ فى حين يرى الرئيس الإيرانى أن حزب الله وحده لا يمكنه المواجهة مع إسرائيل، بينما أشار المرشد الأعلى الإيرانى على خامنئى الى أن تكتيكات عدم المواجهة يمكن أن تكون صائية، وأعلن جيش الاحتلال فى بيان له إن «العمليات العسكرية مستمرة بهدف إضعاف قدرات حزب الله وتجريده من إمكانياته القتالية».
كل هذه المؤشرات مع تواصل الحرب فى غزة، تؤكد ما أعلنه المحللون والمراقبون منذ بداية الحرب فى غزة أن هذه الجولة من المواجهة تختلف عن سابقاتها، وتمثل تطورا نوعيا فى تحركات الاحتلال، والتركيز على توظيف واستغلال هجمات 7 أكتوبر لأقصى درجة، ويبدو أن الاحتلال كان مستعدا للتعامل بنفس أطول من مرات سابقة، كما تمثل الحرب على جنوب لبنان وإيران متغيرا جديدا يسقط أى ستار كانت تختفى خلفه أطراف الحرب لتكون حربا مباشرة.
من جانبها إيران تصر على أنها لن تدخل فى صدام أو حرب مباشرة، وهو ما يتناقض مع تصورات وتصريحات سابقة، بدت فيها طهران تطلق تهديدات بحرق إسرائيل أو هزيمتها، وهو ما تراجع فى الأسابيع الأخيرة ويمثل تحولا فى المواجهة أيضا بشكل غير متوقع.
وقد جاءت الحرب الإسرائيلية على لبنان بعد تكرار عمليات الاختراق والاغتيالات لأكثر من 400 قيادة كبيرة فى حزب الله، وذروتها فى تفجير آلاف من أجهزة «البيجر» كان يحملها قيادات من الحزب جنوب بيروت، وفى سوريا وتفجير آلاف من أجهزة الاتصال المباشر «تلى توك» بشكل متزامن أدى لمقتل وإصابة العشرات، وكشف عن عمليات اختراق وتجسس وزرع متفجرات تمت على مدى الشهور الماضية، بما يعنى استعدادات وعمل على مدى شهور وربما سنوات لتحقيق سبق فى المعلومات والاختراقات، وقد تمت الكثير من عمليات الاغتيال داخل لبنان فى اغتيال إسماعيل هنية داخل إيران لتمثل ضربات كاشفة عن اختراقات.
كل هذه التداعيات تتطلب دراستها والتعامل معها، باعتبارها تحولات فى مسارات الحروب الحديثة، حيث أنها تكشف عن امتلاك الاحتلال للكثير من المعلومات عن جنوب لبنان وإيران مكنته من أن تكون له اليد العليا فى حرب تقوم فى الأساس على العلم والتقنية.
وعندما بدأت الحرب بعد عملية 7 أكتوبر، كان مصر هى الطرف الوحيد الذى حذر من أن تتسع الحرب إقليميا ودوليا بشكل يهدد السلم الإقليمي، بما يعنى أن مصر كانت تمتلك من المعلومات ما يجعلها قادرة على توقع سير المواجهة، ولهذا حرصت وهى تؤكد خطوط أمنها القومى أن تحذر من اتساع آفاق الحرب بشكل قد يصعب السيطرة عليها.
الشاهد أن أطرافا تعاملت مع كل ما يشبه البطة أنه بطة، بينما لم يكن كذلك، حيث جرت تحولات كثيرة، تجعل من شكل ومضمون المواجهة أمرا آخر، بعيدا عن بيانات دعائية عن انتصارات وهمية، استنادا لنظريات « شبيه البطة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة