لا أتحدث هنا عمن يقتل- فرديا أو جماعيا- وهو يدرك أن القتل جريمة، وإنما أعنى ذلك الذى يرى أن قيامه بفعل القتل- خارج سياق الدفاع عن النفس أو عن الآخرين أو عن الوطن أو تنفيذا للقانون- هو أمر مباح، بل ربما يراه عملا يؤجر عليه من «مثله العليا»، سواء كانت تلك المثل دينية أو فكرية.
كمشتغل بالتاريخ، أفضّل أن أتتبع مثل تلك الجرائم عبر التاريخ الطويل للحضارة الإنسانية، وأن استخلص التشابهات والعوامل المشتركة بينها، فدعونا نفعل ذلك معا فى هذا المقال.
«1»
من 668 ق.م. إلى 631 ق.م. حكم الملك أشور بانيبال الملقب بـ«ملك العالم» مملكة أشور العراقية القديمة، كان الأشوريون شعبا مقاتلا غازيا اجتاح حضارات شرق المتوسط، فامتدت إمبراطوريتهم لتشمل العراق والشام بل ومصر، التى استغلوا ضعف ملوكها آنذاك، فاجتاحوا العاصمة العريقة طيبة وحاولوا تدميرها.
المطابع لنقوش الأشوريين- من كتابات على الأسطوانات الفخارية أو صور تجسد حروبهم- يرتاع من كم الفظائع التى ارتكبوها، مدن عريقة تصبح طعمة للنيران، شعوب بأكملها تستعبد وتهجر، أسرى يسلخون أو يحرقون أو يوضعون على الخوازيق حتى الموت أو تقطّع أعضاؤهم ببطء على مشهد من الناس، أو يدفنون أحياء فى أسوار العاصمة الأشورية نينوى.. كانت كل تلك الفظائع تتم إرضاء للإله المقاتل «أشور» التى حملت الدولة اسمه، فحسب ما آمن به الأشوريون آنذاك أن إلههم كان يأمرهم بإخضاع العالم، وإذلال الأمم، والتنكيل بمن يرفض الخضوع، حتى إنهم كانوا إذا اجتاحوا بلدا أخذوا تماثيل آلهة أهله وكتبوا أنها قد صارت أسيرة للإله أشور العظيم.
لهذا عندما اعترى الضعف دولة أشور بعد وفاة أشور بانيبال، واجتاحها أعداؤها ووضعوا السيف فى شعبها، لم يأسف أحد عليها.
«2»
فى العام 415م كانت مدينة الإسكندرية المصرية على موعد مع حدث مرعب.
فالمدينة التى كانت يوما عاصمة الحضارة والتنوع وتقبل الآخر فى العالم القديم، اجتاحها الاقتتال الدينى بين المتشددين من المسيحيين ومن عباد إلهها القديم سيرابيس، فاندلعت المواجهات فى الشوارع، وأصبحت الـ«آجورا»- ساحة المدينة- حومة قتال دمى بين هؤلاء وأولئك كل باسم إلههم.
توج الرعب تلك المأساة بواحدة من أشنع الفظائع، عندما استوقف حشد من المتعصبين المسيحيين عربة العالمة والفيلسوفة السكندرية الشابة هيپاتيا، وجذبوها عنوة خارجها ليتم سحلها بوحشية ثم رجمها حتى الموت بل وسلخ جلدها بقشور المحار ثم أخيرا إشعال النار فى بقايا جسدها الممزق، كل ذلك باعتبار أنها «وثنية ملعونة» تستحق مصيرها إرضاء لإله برىء هو ودينه من تلك الجريمة.
«3»
الزمان.. فجر يوم من عام 661م
المكان.. مسجد الكوفة
دلف إلى المسجد رجل ستينى قصير القامة متين البنية، وهو ينبه الناس برفق للاستعداد لصلاة الفجر، فجأة داهمه صوت صارخ: «الحكم لله يا على لا لك ولا لأبيك»، أعقبته ضربة سيف على رأسه شقت أعلاه، وفجرت منه الدماء حتى أغرقت لحيته.
استسلم صاحب ضربة الغدر للأيدى التى تكاتفت على صرعه وانتزاع سيفه، وحمل الخليفة على بن أبى طالب إلى داره سريعا، استدعى الطبيب على عجل، فنظر الجرح ثم قال للخليفة بصوت يمزقه الألم أن الضربة قاتلة.
وهو يجود بأنفاسه الأخيرة، نظر الإمام قاتله المكبل وسأله: «أى عدو الله ألم أحسن إليك؟» فأجابه هذا بثبات مزعج كأنما لم يرتكب جرما: «شحذت سيفى ودعوت الله أن أقتل به شر خلقه! ».
شر خلقه! على بن أبى طالب أول من آمن بالإسلام من الصبيان، فارس الإسلام، هو فى نظر القاتل المنتمى لفرقة الخوارج شر خلق الله.. هكذا كان القاتل مقتنعا.. لهذا لم يكن غريبا أنه عندما قتل قصاصا كان يلقى مصيره وهو يذكر الله!! بل وعندما اضطرب، إذ أراد المقتصون منه قطع لسانه برر ذلك بأنه لا يريد أن يموت وعضو منه لا يذكر الله!
«4 »
عام 683م
مدينة رسول الله ترتعد رعبا وغضبا.. جنود جيش يزيد بن معاوية قد اجتاحوها بالنار والحديد عقابا لأهلها لتمردهم على حكم بنى أمية.. لا حرمة اليوم لدم ولا لعرض بل الجنون وشهوة الدم هما سيدا الموقف.. يقود جوقة سفكة الدم الحرام رجل اسمه مسلم بن عقبة، اشتهر ببغضه قريشا، وهذا بالذات ما رشحه ليزيد ليعينه قائدا لجيش نقمته على أهل المدينة المقدسة.
تعرف تلك المجزرة بـ «وقعة الحرة »، والحرة هى الحجارة البركانية السوداء التى خلفتها عصور چيولوچية سابقة وميزت بها المدينة.
كان مسلم بن عقبة- الملقب بـ «مسرف بن عقبة » لإسرافه فى سفك الدم- مؤمنا بأنه إنما يقيم شرع الله فيمن خرجوا على الخليفة، وإذ أنهى مجزرته بالمدينة توجه على رأس جيشه إلى مكة لاستكمال مهمته، وبينما هو فى الطريق إلى مكة داهمه المرض وراح يحتضر، وفى احتضاره سأله بعض رجاله: «بم ترجو لقاء ربك؟»- ما العمل الصالح الذى تلقى به الله- فأجاب بثقة: «بيوم الحرة ».
«5 »
شمال غربى أوروپا.. النصف الثانى من العاشر الميلادى
مناطق الحكم النرويجية قد اجتاحتها جيوش الملك النرويجى أولاف تريجفاسون، الذى بدأ حياته وثنيا يؤمن بآلهة الڤايكينجز أودين وثور وبالدر ثم ارتحل إلى إنجلترا وأيرلاندا، حيث اعتنق المسيحية وتعصب لها.
عاد إلى النرويج وتربع على العرش ليجعل من مهمته الأولى فرض المسيحية الكاثوليكية على رعاياه، لم يفعل ذلك بالدعوة والجدال بل وضع شعبه أمام خيارين: الإيمان بالكاثوليكية أو التعذيب والقتل، أحرق معارضى دعوته وهدم معابدهم على رؤوسهم وحول بلاده لموطن للرعب والدمار، أخيرا اتحد عليه أعداؤه فخاض معركة بحرية يائسة ضدهم انتهت بهزيمته واختفائه، قيل إنه قد قتل فى المعركة، وقيل إنه قد انتحر بعد الهزيمة، بل قيل إنه قد هرب للمشرق العربى وتخفى وأصبح راهبا فى بعض الأديرة بها، لكن المؤكد أن الآلاف قد تنفسوا الصعداء بنهاية عهده الدامى المتسم بالتعصب الدينى الرهيب!
«6 »
الحرم المكى 908م
لا بد أن حجاج البيت الحرام قد أصابهم الذهول وهم يحسبون أن أبرهة قد بعث من موته، وعاد يعيث فى الحرم فسادا، ففى يوم التروية من موسم الحج لذلك العام، روعتهم جحافل القرامطة وهى تقتحم مكة وتضع السيف فى أهلها وضيوف كعبتها المشرفة.
القرامطة الذين تحمل حركتهم اسم مؤسسها «حمدان قرمط » حركة باطنية متطرفة، أعلنت تكفير من خالفها وعلى رأسهم خلفاء العباسيين، ونشرت الرعب والإرهاب فى العراق والشام قبل أن تستقر فى الإحساء فى جزيرة العرب، رفعوا شعار أنهم «المؤمنون حقا» دون غيرهم، واعتادوا قطع الطريق على الحجاج كل عام، لكن لم يتوقع أحد أن يبلغوا حد مهاجمة الحرم المكى نفسه، وأن يسفكوا فيه الدم، وهم يصيحون بتهكم فى الحجاج المتعلقين بأستار الكعبة: «يا حمير! ألم تقولوا أن الله قد جعل هذا الحرم آمنا؟!»
بعد انتهاء المجزرة، أمر قائد القرامطة رجاله بأن يلقوا جثث القتلى فى بئر زمزم، جلس عند باب الكعبة وهو ينشد «أنا بالله وبالله أنا.. يخلق الخلق وأفنيهم أنا »، ثم أشار لبعض رجاله فراحوا يضربون الحجر الأسود لخلعه وهم يصيحون: «أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ».
انتزع القرامطة الحجر الأسود وحملوه معهم عائجين لقواعدهم، وهم يحمدون الله أنه من عليهم بهذا «النصر العظيم »، وكان على الحجر الأسود أن ينتظر 22 عاما قبل أن يرجع لموضعه المقدس بعد تهديد من الفاطميين بالانتقام منهم إن لم يعيدوه.
«7 »
القدس الشريف 1099م
لم تعد المدينة المقدسة مدينة للسلام، فقد اجتاحها الفرنجة القادمون من أوروپا، وعاثوا فيها لاعبين بالسيوف فى رقاب أهلها وهم يصرخون «الله يريدها !/Deus vult! »،
ذبحوا المسلمين بغير تمييز بين كبير أو صغير أو رجل أو امرأة، أحرقوا الآلاف من اليهود المحتمين بمعبدهم، أما المسيحيون الشرقيون من أهل البلد، الذين أجلوا عنها قبل الاجتياح فقد حكم عليهم الغزاة غيابيا بالإعدام واحتلوا كنائسهم وكثلكوها.
بلغت الدماء منتصف قوائم خيل الفرنجة، وبعد انتهاء المذبحة وارتفاع أعمدة دخان المحرقة البشرية وقف «المنتصرون» فى قلب المدينة الثكلى، ورفعوا أيديهم المخضبة بالدم إلى السماء، وأقاموا قداسا شكرا للرب وهتفوا بأنه «يريدها».
«8»
25 فبراير 1994
مدينة الخليل فى فلسطين المحتلة
توافد المصلون على المسجد الإبراهيمى يؤدون صلاة فجر اليوم الـ15 من شهر رمضان المبارك.
غير بعيد عنهم، وقف مستوطن يهودى متطرف اسمه باروخ جولدشتاين، طبيب عسكرى أمريكى الأصل يقطن مستوطنة كريات أربع، تحسس سلاحه الآلى منتظرا اللحظة المناسبة،
عند سجودهم اقتحم عليهم الحرم الإبراهيمى مطلقا العنان لرصاصاته التى حصدت منهم 29 نفسا وخلفت 125 مصابا، قبل أن يتمكن بعض المصلين من انتزاع سلاحه وقتله وقد ميزوا فيه المستوطن الذى كان يشاهد متسكعا قرب مسجدهم، انتفض الفلسطينيون فى عدد من المدن المحتلة، غضبا منهم لهول المذبحة، فاستشهد منهم 60 فى مواجهات مع قوات الاحتلال الإسرائيلية، وحتى الآن ينظر المتطرفون اليهود لباروخ جولدشتاين باعتباره بطلا وشهيدا لـ«قضيتهم»، ويقيمون احتفالا بذكراه.
أديان متنوعة.. معتقدات مختلفة.. مع تطابق للإجرام والثقة العجيبة من المجرم بشرعية جريمته.
الأديان والمذاهب إذن ليست العامل المشترك.. فما هو ذلك العامل المشترك الغامض؟
هذا ما أطلب من القارئ العزيز أن يفكر فيه إلى حين نشر المقال المقبل إن شاء الله.. يتبع.