فى الفاصل الدقيق بين الإشراف على الغرق، واليدِ الممدودة للإنقاذ فى آخرِ لحظة؛ تتوحَّشُ إرادةُ الحياة فى صدر الغريق؛ حتى أنه لَيَصْعَدَ على جُثَّة مُنقذِه. أمَّا فى حالة نتنياهو؛ فقد أتاه الطوقُ على صِفة الخَنق، وتجاوزت النجاةُ بالنسبة له أن يخرُجَ من المُستنقع، لتصيرَ مرهونةً باستحضار قُربانٍ بديل، وقد وجدَ فى «حماس» كبشَ الفداء المثالىَّ، ومن ورائها حزب الله بعدما ألحقَ نفسَه بالطوفان وأمواجه، ومن يومِها لم يعُد مُمكنًا افتراض أنه سيتفرَّغُ لتجفيف ملابسه، أو رَدمِ البِرْكَة التى هدَّدت مسيرتَه السياسيَّةَ الطويلةَ فى أواخرها. وخطيئةُ الدراما أنَّ أعداءه تعجَّلوا الإجهازَ عليه، ولم يدُرْ فى أذهانهم احتمالُ أن ينتشلوه بدلَ أن يُعمِّقوا مِحنتَه. وهكذا كان لهم القرارُ فى براح من الخيارات؛ لكنهم أخفقوا فى استحصال مُرادهم من العدوِّ فى حال الضعف، وعليه لا أملَ تقريبًا فى الاقتدار عليه بعدما استعادَ عافيتَه، واستجمعَ أسبابَ القوَّة، وصار مُقتنِعًا بأنَّ بقاءَه مُعلَّقٌ على إفنائهم، أو أقلّه أن يظلَّ فى دائرة النار قابضًا على شعار الإفناء؛ ولو كان مُستحيلاً.
ثاراتُ الفصائل مع الليكود عميقةٌ ومُتجذِّرة، وأكثرُها فى زمن نتنياهو وحكوماتِه المُتعاقبة. لقد تراءى لهم على الأرجح أنّه فى امتحانٍ داخلىٍّ صعب، وينسحبُ عنه غطاءُ الإجماع فى حماوةِ الصراعات السياسية الدائرة لنحو عامٍ كامل، وبهذا يصحُّ اتِّخاذُه هدفًا للتصويب المُباشر، واختصامُ الدولة العِبريَّة من خلاله؛ طمعًا فى الإرباك وتعميق الانقسامات. لكنْ ما لم يُحسَبْ حِسابُه أنَّ إسرائيل زُرِعَتْ قهرًا فى تُربةٍ كارهة، ورُوِيَتْ من يومِها الأوَّل بالعداوة والدم، ولا يزدهرُ خطابُها التأسيسىُّ الفجُّ إلَّا فى مناخات الحروب، وعلى حَدِّ السِّكين. أى أنَّ استنفارَ آلتِها الدفاعيَّةِ كفيلٌ بترميم الشُّقوق وكَبح التناقُضات، وتوحيدها فى صورة القيادة القائمة ولو كانت على شفا السقوط قبل بُرهةٍ قصيرة. وحدث ما كان مُتوَقَّعًا ويعرفُه العالمون بالصهيونية، وما تجاهله المُمانعون أو غُمِّى عليهم بقدرٍ من الخِفَّة، أو بأقدارٍ من الشعبويَّة والإملاء، والهَرولة غير المحسوبة لانتهاز الفُرَص. لقد خَدَشوا هالةَ الزعامة البنيامينيَّة بالرصاصة الافتتاحيّة قطعًا؛ لكنهم أتاحوا له بعدها أن يَتسيَّد الميدان، وأن يُمطِرَهم بالرصاص الذى يعرفُ القتلَ حصرًا، ولا يكتفى من القَنص بالاستعراض والدعايات الصاخبة.
كانت أُسطورةُ اليسار قد تفكَّكتْ تمامًا بعد أكتوبر 1973، ودخلت إسرائيلُ حِقبةَ اليمين من أوسع أبوابها مع مناحم بيجين. صحيح أنَّ بيريز ورابين ظلَّا يُناضلان على فتراتٍ قصيرة ومُتقِّطعة لأجل البقاء فى الصورة، وألَّا يزولَ تراثُ الآباء المُؤسِّسين؛ بما أضفاه من طابعٍ مُراوغ على مزيج الصهيونية والتوراتية شديد التداخُل والتعقيد؛ لكنَّ الوقائعَ كانت تشى بأنها «حلاوةُ الروح» لا أكثر. ومنذ صعود «بيبى» بحكومتِه الأُولى فى منتصف التسعينيات، لم تبتعِدْ السُّلطة عن الليكود أكثر من سِتّ سنواتٍ تقريبًا. فبدا من جِماع ذلك للناظِر على البُعدِ أنَّ التغيُّرات الكُبرى تتطلَّب انتكاساتٍ كُبرى، بينما كانت السياقاتُ تُرشِّحُ أن يحدُثَ الحِراكُ من داخل البيئة اليمينيَّة، وأن يكون للهدوء الطويل مفعولٌ لا يقلُّ أثرًا عن الصدامات الزاعقة. ولولا الإخفاق السريع لتجربة «لابيد/ بينيت» ما عاد ذئبُ الليكود لرأس الحكومة بعد ثمانية عشرَ شهرًا فقط. ورغم هذا؛ كانت العودةُ أخطرَ عليه من البقاء فى الظلّ؛ إذ اختبرَ الشارعُ إمكانيَّةَ التنويع بين تيَّارات اليمين، وعاينَ تضخُّمَ طموحات نتنياهو ونُزوعه المَلَكىِّ. وخطَّة «الإصلاح القضائىّ» التى ابتدعها مع حُلفائه التوراتيِّين، لم تكُن إلَّا عنوانًا على كتابٍ مُتخَمٍ بالمآخذ والاعتلالات، وقد تصدَّى لها الجمهور بما يتجاوزُ الإفشالَ، وصار إسقاطُ الائتلاف مسألةَ وقتٍ، وإبعادُه الكاملُ لا يتطلَّبُ سوى تخليقِ بديلٍ قادرٍ على ملء الفراغ. لم تكُن إسرائيلُ فى حال ضعفٍ وانطفاء كما رأت الفصائل؛ لكنها كانت فى مخاضٍ يُمهِّدُ لإحداث تحوُّلاتٍ عميقة فى بِنيَة السُّلطة، وطبيعة الزعامةِ بعدما أشرَفَ رمزُها الوحيد الباقى على نهايته الوشيكة. وكان على أعداء تل أبيب أنْ يُواكبوا التفاعُلات بصَمتٍ؛ لا أن يتدخَّلوا فيها بغِلظَة. إذ الدخولُ بعناصر تحفيزٍ خارجيَّة مِمَّا يُهدِّدُ بحَرف المُعادلات وتغيير النواتج تمامًا.
لنَدَعَ جانبًا مسألةَ القضيَّة العادلة والحقوق المشروعة، وما لا خلاف عليه بشأن المقاومة بكلِّ السُّبل المُتاحة والمُمكِنة. فالنزاعُ قديمٌ وأكبرُ حجمًا وعُمرًا من كلِّ الفصائل، ومن مُنظَّمة التحرير نفسها، والاختناقُ قديمٌ أيضًا. و«حماس» كانت صائمةً لنحو عشر سنواتٍ أو يزيد، وما تدخَّلت فى معارك سابقة شَنَّتها إسرائيلُ على معاقل «الجهاد» فى القطاع. والعمل على تغيير واقع الأرض ينبغى أن ينطلقَ من قراءةٍ جادّة له، ومن مُفاضَلةٍ بين منافع التريُّث ومضار التصعيد. وعلى قاعدة الحسابات الداخلية؛ كان المَنطقُ حاسمًا لجِهَة إطالة مدى الصبر، وانتظار ما تُسفر عنه مُناكفاتُ العدوِّ الداخلية والتفافُ أمعائه على بعضها. أمَّا «الطوفان» فكان استجابةً لمُثيراتٍ أبعد كثيرًا من ذلك، ولا تُراعيه أو تتوقَّفُ أمامه. ربما نشأت عن رغبةٍ حماسيَّةٍ خالصة فى التقدُّم للواجهة والانفراد بفلسطين كلها، بعدما احتكرت غزّة لعقدين، وكذلك تعطيل مُقاربات التطبيع مع بعض القُوى الإقليمية الكُبرى، ومحاولة وضع الاقتصاد بديلاً عن الحلول السياسية، أو كانت بإملاءٍ من قيادة محور المُمانَعة، بعدما أبرم اتِّفاقًا مع المملكة السعودية فى بكين؛ ولم يعُد قادرًا على التحريض ضدها أو المساس بمصالحها. ولعلَّ «السنوار» تقصَّد خلطَ الأوراق وإرباكَ كلِّ الأطراف، الصديق قبل العدو، والساحات الحليفة قبل المناوئة. والمعنى؛ أنه إمَّا قرأ حالَ المجال العام الإسرائيلى واستخلصَ منه إفاداتٍ خاطئة، أو أنه كان يُقامِرُ بكلِّ ما لديه تطَلُّعًا إلى ما لا يعرِفُ معالمَه؛ فكأنَّه إحراقٌ للأوراق الحاضرة، وذهابٌ إلى المجهول دون رؤيةٍ أو برنامج.
بعيدًا من المُقدّمات؛ فقد أفضَتْ النتائجُ إلى ما لم يكُن يتمنَّاه الحماسيِّون، أو يدُر فى أذهانهم. ربما كانت أقصى تخيُّلات «السنوار» أن يُوقِّع بالحضور فى جغرافيا العدوِّ، ويعودَ بعددٍ قليلٍ من الأسرى؛ ليكونوا ضمانةَ الأمان، ووسيلةً لصَرف رصيد القتال لصالح السياسة. كَبُرَت العمليَّةُ كثيرًا إلى درجة أنها انقلبَتْ لضدِّها، وزاد عددُ الرهائن حتى تضاءلت قيمتهم، على قاعدة أنَّ الإفراط يُقرّب الاحتمالات من بعضها، وأنَّ القيمةَ فى النُدرة لا الوفرة. فضلاً على المُتغيّر الأهمِّ؛ أنَّ نتنياهو اليومَ ليس هو ما كان فى صفقة شاليط بالعام 2011، لا فى الثقة والصلابة، ولا فى الشعبية واستقرار الأحوال. وبينما حاولت إيرانُ النأىَ بنفسها عن المُغامرة، ونَفَت كلَّ علاقةٍ بالطوفان وما سبقَه أو تفرَّع عليه؛ فإنها ألحقَتْ حزبَ الله بالجبهة بأثر الطمع لا الحصافة، والرغبة فى إمساك العصا من المُنتَصَف؛ بدلاً عن اتِّخاذ تدابير فعّالةٍ لتأمين المحور ورَدم فجواته الظاهرة. وربما دار فى مخيالها أن تكون بعيدةً وقريبة؛ فلا تتكبّدُ فواتيرَ الحرب بالأصالة، ولا تغيبُ عن طاولة التفاوض وقسمة الغنائم لاحقًا.
الهُدنةُ الأُولى فى نوفمبر الماضى كانت نقطةَ التوقُّف المثالية. لقد ذهب إليها نتنياهو على نِيّةِ الاستكشاف والتقييم، وإعادة ترتيب الأوراق لحربٍ طويلةٍ، بعد امتصاص جانب من سخونة الشارع؛ بينما اعتبرتها الفصائلُ تجسيدًا لقوَّتها، ودليلاً من العدوِّ على المِحنة والارتداع، كمُقدّمةٍ لتطويعه واغتنام ما يملأ جعبتَها ويُشبِعُ غرورَها، أكان على صِفَة «الكُلّ مُقابل الكُلّ»، أم انسحاب الاحتلال وعودة السيادة الحماسيَّة الكاملة على القطاع. فى الحالين؛ لم يكُن الذهاب إليها نابعًا من رغبة مُخلصة لدى الطرفين فى تقريب الرُّؤى، أو البحث عن مخارج حقيقية من سياق الانسداد، وما يُهدِّدُ به من استفحال الأزمة واشتداد أوار الحرب. وقد خُدِع أحدُهما فيها، وخرج الآخرُ إلى خُطّته الجاهزة سلفًا، وقد سَرَّب لبيئته أنه جاهزٌ للتوافق، وللغزّيين أنَّ سُلطةَ الأمر الواقع لديهم قادرةٌ على تخفيف مَواجعهم، وللمجتمع الدولى أنه لا يقطعُ الطريق؛ بل يختلف على معالمه فحسب. هكذا كانت تجربةً لاختلاس الوقت؛ مثلما يعملُ خلال الشهور الأخيرة على تمرير المُهلة الباقية قبل الانتخابات الأمريكية، ويُرتّب مرحلتَه التالية تحت ستارٍ من الدعم الكاسح حال وصول ترامب، أو من الأوضاع المُعقَّدة والإذعانيَّة إذا اصطدمَ بإدارةٍ تقودُها كامالا هاريس، عديمةُ الخبرة وقليلةُ المراس فى الشؤون الخارجية، وقضايا الشرق الأوسط بالأكثر.
تحرُّشُ الصهاينةِ بالأُصول الإيرانية فى سوريا كان مُقدِّمةً لما يحدثُ اليومَ. غرضُه الظاهر وقتَها أن يُقلّصَ حضورَ الشيعيَّة المُسلَّحة على خطوط التَّمَاس، ويحُدَّ من قُدرتها على تمرير اللوجستيات المطلوبة من حزب الله فى جبهة الشمال، وقُدرات التنسيق والقيادة بين الأذرُع المُمتدَّة من العراق شرقًا إلى اليمن جنوبًا. لكنّه فى العُمق كان يستنفرُ المحورَ المُمانِعَ لكى يُطلَّ برأسه خارج الخنادق والسواتر؛ إمَّا بالانخراط فى الحرب بالكُلّية، أو بالانسحاب المُطلَق من الميدان. قصفُ القُنصلية فى مطلع أبريل كان بالونةَ اختبارٍ أكثرَ منه عقابًا، وتصفية إسماعيل هنيَّة فى طهران كانت المُداولةَ الأخيرةَ قبل إصدارِ الحُكم النهائىِّ المُبرَم. فى الأوَّل اتُّخِذَ قرارُ اجتياح رفح بعدها بأيَّامٍ قليلة، وفى الثانية تقرَّر إعدامُ الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وكلاهما جرى تحت سماءٍ صافيةٍ يُعبِّئها الاطمئنان إلى انفعالات الجمهورية الإسلامية وردودِها، وأنها لن تتجاوزَ الثارات الكلاميَّةَ وتوجيهَ الرسائل الصاخبة، وفى الأخيرةِ نفسِها ما يكفى لإذكاء النار؛ حالما يُريدُ نتنياهو أن يُطوِّرَ الصراعَ. أى أنه يُحرِزُ نجاحاتٍ ميدانيَّةً بفواتير زهيدة، ولا يفقدُ إمكانيّةَ التصعيد أيضًا؛ بفضل الإدارة العسكرية والسياسية الخاطئة من الطرف الآخر.
يحترفُ المُمانِعون الغموضَ فيما بينهم، ومع حواضنهم القريبة؛ إنما يبقون كتابًا مفتوحًا للعدوِّ بما يُقدِّمونه تطوُّعًا، وما يُغصَبُ منهم قهرًا. لقد بَقِىَ رأسُ المحور عاكفًا على شعار «الصبر الاستراتيجىِّ»، كلَّما تلقَّى ضربةً قاسيَّةً؛ فأظهر رخاوةً مُشيِنَةً فى التعاطى معها، وعندما تخلّى عنه كان إلى بديلٍ أنكى، رافعًا راية «التراجُع التكتيكىِّ» بدلاً حتى من الصمت والغموض، وعلى لسان المُرشِد نفسِه؛ بما يعنى أنه قرارٌ نافذٌ من أعلى المستويات، وليس مُجرَّدَ مُناورةٍ كلاميَّةٍ أو لُعبة توزيع أدوار بين الساسة والجنرالات. ونتنياهو على خلافِ ما يتصوَّرُ البعض فيه من نَزَقٍ؛ فإنه لا يُحرِّكُ قدمًا على رقعة الشطرنج إلَّا بعدما ينظرُ لمواقع البيادق والأفيال، ويحسبُ الاحتمالات وردود الفعل وما قد تُفضى إليه. وإذ هو يتمادى إلى التنكيل بضاحية بيروت الجنوبية؛ فلأنَّه يعلمُ أنَّ قرارَها ليس فى داخلها، وهى طَيِّعةٌ وطائعةٌ عقائديًّا وعسكريًّا، ومُلزَمةٌ بالضرورة بما ألزمَ وليُّها الشرعىُّ نفسَه وحُلفاءَه به، وهكذا لا تنفعُها ذخيرتُها المُكدَّسة فى المخازن الحصينة، ولا صنوفُ الصواريخ والمُسيَّرات مُتعدّدة الأَمدِيَة والقُدرات النيرانية.
نعودُ لمسألة الغريق والمُنقِذ. فلا يهُمُّ ما تمدُّ يدَك به؛ طالما أنك لم تعرِفْ نوايا الطرف الآخر، ولا حدودَ تصرُّفه فى السِّعَة وتحت الضغط. أمَّا الخطيئةُ الكُبرى؛ فإنها فى رؤية العدوِّ من منظار الذات، وافتراض أنه يُفكّر كما نُفكِّر، ويتَّخذُ قراراته بانفعالٍ وعاطفية مثلما نفعل. لقد تسبَّب النَزَق فى افتتاحِ كثيرٍ من الحروب؛ لكنَّ الأوهام أمضى وأكثرُ تأثيرًا فى تحديد مآلاتها. وما كشفَتْه الشهورُ الماضية بعد الطوفان، ربما يُفصِحُ عن عوارٍ شديدٍ فى رُؤية الفصائل ورُعاتها، وفى كامل الحلف الشيعىِّ ومُلحقاته من السُّنَة وغيرهم. والظاهر أنهم يفترضون أنَّ العدوَّ يمضى فى الزمن بذاكرةٍ مُحنَّطَة، ويُكرِّرُ التجاربَ على صورتها الأُولى؛ كأنه لم يستفِد من السوابق ولم يُراكِم الخبرات. بينما الحادثُ أنه يربحُ وقتَما يخسرُ الخصوم، وتتمدَّدُ مُخطَّطاته مُقابلَ انحسارِ خططِهم الباهتةِ أصلاً. لقد جرَّب سابقًا أنه عندما يشطبُ قيادةً صُلبةً فقد تأتيه الأصلَبُ، كما فى حالة عباس موسوى وحسن نصر الله؛ وعليه فمن الغباوة الارتياح إلى أنَّ إزاحةَ إسماعيل هَنيَّة ارتدَّت عليه نكالاً بانتخاب السنوار بديلاً؛ كأنَّ ذلك لم يكُن بين احتمالات الموساد، ولا أنه ربما أراد أن يدفعَ الحركةَ إليه بالقَصد.
الوهَمُ كان طوقَ النار الذى أحرقَ الرفضَ العربىَّ لإسرائيل منذ البداية. دخلت الجيوشُ بقَدرٍ ضئيل من الجاهزية والاستعداد والتسليح، تحت عنوان التصدِّى للعصابات الصهيونية، كما لو كانوا حِفنةً من قُطّاع الطرق المُلثَّمين، وليسوا جنودًا وضُبَّاطًا رفيعى التدريب وشارك بعضُهم فى الحربين العالميتين، واشتُغِلَ على بناء قدراتهم العسكرية بمنطقٍ نِظامِىٍّ مُتطوّرٍ لعقدين سابقين. الحال؛ أنَّ محورَ المُمانَعة كان يرتجلُ المواقفَ كعادته، وما يزال للأسف، ويرتاحُ للتسفيه من العدوِّ وتنميطه على صورةٍ غير واقعية؛ حتى اقتنعَ بالمُعادل المُخلَّق ذِهنيًّا وتعامل باعتباره الحقَّ فعلاً، ولم يُغيّر هذا من جوهر الغريم ولا تفاوُت موازين القوى. لهذا يتدرّجُ فى مواقفِه وفقَ سلسلةٍ تتابعُ حلقاتُها بانتظامٍ: يغتالُ قيادات الصفِّ الثانى ليستنفرَ الحزب، ثمَّ يمدُّ ذراعَه الطويلةَ إلى الضاحية، ويُغذِّى رغبةَ الثأر فى نفوس الحزبيِّين؛ باعتبارها الحجابَ الأخطر على العقل، وبعدها يستهدفُ شبكةَ الاتصالات؛ فيُجبرهم على اللقاء فرادَى وجماعاتٍ من أجل المداولة والتنسيق واتِّخاذ القرار، ومن لقاءاتهم يصطادُ نُخبةَ الرضوان، وبعد أسبوعٍ واحد يُوقِعُ أمينَ عام الحزب نفسَه. ومنطقُ الوصول السهل يقطعُ بأنّه كان قادرًا عليه فيما مضى؛ إنما كان يُؤجّله لوقتٍ يحكمُه المنطقُ والمصلحة، وهذا ما يغيبُ تمامًا عن الآخرين.
يُساقُ اليومَ؛ على سبيل الفخر والتعويض، أنَّ هاشم صَفىِّ الدين حَلَّ بدلاً من حسن نصر الله، وأنه أكثر أُصوليّةً وتشدُّدًا من سَلفِه. كما حدث قبل شهرين فى قصة «السنوار وهنيّة»، وما انصلح حال غزّة ولا تقلّصت وحشيَّةُ الاحتلال؛ بل تعزّزت سرديّة الوَصْم واستفحلَ الانسداد. والحال؛ أنَّ إسرائيل قرَّرت تكسيحَ الحزب و«كَىَّ الوعى» اللبنانىّ على الصورة الغزّية، وربما يقعُ الاجتياحُ البرىُّ فى أيّة لحظة. كان «نصر الله» تابعًا مُخلصًا؛ لكنه كان يُناطِحُ الحرس الثورى فى بعض التفاصيل، ويختلف على أوامر أو يُعدّل مسارَ تطبيقها جزئيًّا، أمَّا ابنُ عمِّه ووريثُه فلديه تشابكاتٌ عائليَّةٌ مع رأس المحور، وهو أقربُ لعجينةٍ لَيّنةٍ فى يدِهم. الأيَّامُ المُقبلة ستكشف كيف تسيرُ الأمور؛ فإمَّا يُصَعِّد مُعبِّرًا عن رغبةٍ إيرانية للاستثمار فى النار، أو يتراجع تكتيكيًّا أيضًا ويُمهِّد لبدء المنحنى الهابط للحزب. الاحتلالُ لن يتعايش مع قوّةٍ كاسحة على حدوده الشمالية، مثلما يُطالب بإفناء حماس رغبةً فى نسخةٍ شديدة التهذيب والهُزال منها، وعلى الأرجح سيُراهن على الوقت وضُمور الحركة تنظيميًّا؛ حتى لو ظلَّ خطابُها الأيديولوجى حيًّا فى الصدور. أمَّا على الجانب اللبنانىِّ فإنّه يُواجه بيئةً مفتوحةً وغير مُختنِقَة مثل القطاع؛ لهذا لا بديلَ عن الترويض أو الإخضاع، وأقلّه الدفع إلى شمال الليطانىِّ، وقد يتضمَّن ذلك البقاء وإعادة احتلال الجنوب؛ لتتبخّر أُسطورة الحزب ونقطة فخره الوحيدة فيما يخصُّ التحرير. ربما نختلف فى «طوفان الأقصى» بالعقل والعاطفة؛ لكنّ الواقع أنه أعاد الخرائط وأزمنة الصراع عقودًا للوراء؛ أمَّا المأساة فأنْ تعودَ العقولُ أيضًا؛ فتدور الدائرةُ على المُحتل والمقاوم؛ إذ يُراكم أوَّلُهما مزيدًا من المكاسب، ولا يتوقَّف الأخير عن تكرار الأخطاء.