طوال العشر سنوات الماضية كان هناك سؤال محير يدور في ذهني وفي أذهان الكثير من العارفين ببواطن السياسة و العلاقات الدولية، وهو " هل يليق تاريخيا واستراتيجيا أن تتباعد القاهرة وانقرة وتحدث القطيعة والخلاف بين مصر وتركيا، أكبر دولتين إسلاميتين في منطقة الشرق الأوسط ومنطقة جنوب البحر المتوسط...؟" و" هل القيادات السياسية والشعبين في البلدين راضون وسعداء بهذه القطيعة السياسية طوال تلك الفترة..؟"
في الحسابات السياسية والجغرافيا مصر وتركيا تمثلان ركيزتين أساسيتين وقوتين كبيرتين في رسم سياسة ومستقبل الشرق الأوسط، واذا أضيفت إليهما ايران فهذا هو المثلث الأكبر والأقوى والأكثر تأثيرا في المنطقة. وهناك قوى إقليمية ودولية يهمها كثيرا أن تتباعد أضلاع المثلث المصري والتركي والإيراني وتتقاطع مصالحه، فالتقارب والتعاون والتنسيق المشترك يهدد مصالح قوة إقليمية ويجبرها على الأقل على مراجعة سياساتها قبل الإقدام على أية خطوات متهورة تهدد استقرار المنطقة، وتجعل دولا كبرى تراعي وجود هذا " المثلث السياسي والاقتصادي" وتأخذه في اعتباراتها السياسية ومواقفها غير العادلة تجاه المنطقة وقضاياها وخاصة القضية الفلسطينية.
وأقول إن تدهور العلاقات بين مصر وتركيا والتباعد بين القاهرة وأنقرة لم يسعد أحدا في البلدين وكان الرهان على الحكمة والهدوء من القيادة المصرية والرهان على المستقبل القريب في عودة مياه العلاقات المصرية التركية إلى مجراها الطبيعي تأسيسا على المقولة المشهورة للزعيم والسياسي البريطاني الراحل ونستون تشرشل.." في العلاقات بين الدول لا عداء دائم، ولا صداقة دائمة، بل مصالح دائمة". وهو ما آمنت به القيادة المصرية وأصوات عاقلة كثيرة في الطبقة الحاكمة التركية بأنه لا يصح أن تتخاصم مصر وتركيا ..الدولتان المحوريتان في المنطقة وليست هناك أسباب منطقية لهذا الخصام . حتى أن بعض التصريحات التركية خرجت لتنادي بالتقارب الفوري مع القاهرة " فليس من أجل جماعة نخسر مصر".
من الطبيعي أن هناك طرفا واحدا في المنطقة كان يسعده ويبهجه استمرار القطيعة والعداء بين القاهرة من جانب وأنقرة وعواصم إقليمية أخرى من جانب آخر، لأن التصالح والتقارب يزعجه كثيرا ..وهذا الطرف هو " إسرائيل" بالطبع.
السنوات الماضية تشهد للرئيس السيسي منذ توليه مقاليد الحكم بالحديث دائما عن أمن ومصلحة مصر وابتعاده دائما عن الدخول في مهاترات كلامية والمساس بأشخاص قادة ورؤساء دول، بل دائما ما كان يحمل في كلامه وتصريحاته رسائل سياسية تدعو إلى التقارب والتصالح على قاعدة المصالح المشتركة والعلاقات التاريخية، وهو ما كان له صدى طيب في السنوات الثلاث الأخيرة بالدبلوماسية الراقية والناعمة لتحقيق الأهداف الوطنية والاستراتيجية، فالدبلوماسية أكثر فاعلية في تعزيز المصالح في كثير من الأحيان.
الرسائل السياسية المصرية ودبلوماسية المصالح والعلاقات التاريخية نجحت في السنوات الأربع الأخيرة من تجسير الفجوة وتقريب وجهات النظر بين القاهرة وانقرة بداية من اتفاقيات الحدود البحرية في المتوسط وفي المحافل الدولية وصولا الى اللقاء التاريخي الأول والمصافحة الودية الشهيرة بين الرئيسين السيسي وأردوغان على هامش افتتاح كأس العالم في قطر في 20 نوفمبر 2022 بحضور أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والتي حازت على النصيب الأكبر من اهتمام وسائل الإعلام العربية والأجنبية وكان الخطوة الأهم في طريق عودة العلاقات الطبيعية، فيما أطلق على اللقاء " دبلوماسية المصافحة " والتي تكررت في المملكة العربية السعودية بعد ذلك.
منذ عام 2020 وهو بداية عام التحول في العلاقات بين البلدين الصديقين أدركت مصر وتركيا أن الخلافات و العداء ليس في صالح أحد من الطرفين ولا بد من العودة، أو كما قال ذات مرة إبراهيم قالين كبير مستشاري الرئيس أردوغان والذي يشغل حاليا رئاسة جهاز المخابرات التركي بـ" العزلة الثمينة" للسياسة الخارجية التركية مع الأطراف العربية المؤثرة ومع اليونان وقبرص ومع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وانعكس الخلاف على ملفات كثيرة مثل الأوضاع غير المستقرة في ليبيا والتي تضر بالأمن القومي المصري على الحدود الغربية علاوة على ملفات افريقية مؤثرة أخرى.
جاءت " دبلوماسية الزلازل" لتذيب الجليد في العلاقة بين الجانبين فقد بادر الرئيس السيسي بالاتصال بالرئيس التركي أردوغان مباشرة للتأكيد على وقوف مصر شعبا وقيادة الى جانب تركيا عقب كارثة الزلازل التي ضربت تركيا وسوريا في 6 فبراير 2023، وشاركت القاهرة بإرسال مساعدات إنسانية إلى تركيا وزار وزير الخارجية السابق سامح شكري تركيا لفحص الأماكن المتضررة من الزلزال وتنسيق المساعدات مع نظيره التركي. وتم تتويج كل ذلك بعودة العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء وتكثيف العلاقات الثنائية وزيارة الرئيس رجب أردوغان الى مصر في فبراير الماضي والاتفاق على الارتقاء بمستوى العلاقات الثنائية في كافة المجالات والتنسيق التعاون في الملفات الخارجية وفي مقدمتها الملف الليبي والقضية الفلسطينية.
الاهتمام البالغ من وسائل الاعلام الدولية ومراكز صنع القرار في المنطقة وخارجها بالزيارة الحالية للرئيس عبد الفتاح السيسي لتركيا – وهي الزيارة الأولى منذ 12 عاما-مع وفد رسمي رفيع المستوى والاستقبال الرسمي له، يعكس الأهمية السياسية والاستراتيجية للزيارة وعمق العلاقات التاريخية بين البلدين في مناسبة اقتراب مرور 100 عام على العلاقات الدبلوماسية الرسمية عام 1925، وتأثيرات هذا التقارب وعودة الدفء الى العلاقات على مسار قضايا كثيرة في المنطقة في ظل التطور اللافت والسريع في علاقات البلدين والاعلان عن " مجلس التعاون الاستراتيجي" برئاسة الزعيمين المصري والتركي، لبحث سبل الارتقاء بالعلاقات الثنائية في مختلف المجالات، إضافة إلى تبادل الرؤى إزاء القضايا الإقليمية والدولية محل الاهتمام المشترك، وعلى رأسها جهود وقف إطلاق النار بقطاع غزة وإنهاء المأساة الإنسانية بالقطاع، وخفض التصعيد في الشرق الأوسط. والتوقيع على عدد من مذكرات التفاهم بين حكومتي الدولتين في مختلف مجالات التعاون.
فمن المقرر توقيع نحو 20 اتفاقية بين مصر وتركيا في مجالات الدفاع والطاقة والسياحة والصحة والتعليم والثقافة، ويستهدف البلدان زيادة حجم التجارة بينهما من 10 مليارات دولار حاليا إلى 15 مليار دولار خلال المرحلة الأولى من خطة دعم العلاقات بين البلدين. وتنفيذ مشروعات مشتركة في مجال الصناعات الدفاعية مع مصر، والتعاون في مجال الطاقة، خاصة في مجالات الغاز الطبيعي المسال والطاقة النووية والمتجددة، والاتفاق على توسيع نطاق اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا ومصر، وإعادة تشغيل خدمات النقل البحري بين "مرسين" و"الإسكندرية".
المصالح المشتركة و تطبيع العلاقات وتطورها بصورة كبيرة بين مصر وتركيا بالتأكيد له تداعياته وآثاره الإيجابية والتي بدت في خطوات و صور عديدة اتفق عليها الجانبان سواء فيما يتعلق بأنشطة جماعة الإخوان الإرهابية أو ملف شرق المتوسط والملف الليبي. والملف الأخير طرأ عليه تطورا لافتا وملحوظا فقد تواصلت تركيا مع الجانب الشرقي الليبي في بنغازي التي تدعمها مصر ودول إقليمية أخرى، وألمحت الى إمكانية إعادة فتح القنصلية التركية في بنغازي في القريب العاجل.
التقارب المصري التركي والزيارة التاريخية الحالية للرئيس عبد الفتاح السيسي يؤسسان لمرحلة جديدة تماما في مسار علاقات الصداقة التاريخية والتعاون المشترك والمصالح الدائمة على المستوى الثنائي، وعلى مستوى قضايا المنطقة فالقضايا والملفات المتشابكة والمتداخلة بين البلدين كثيرة وتحقق المصالح الوطنية العليا للقاهرة وأنقرة، مثل قضية حرب الإبادة على غزة واحتمالات توسع دائرة العنف والحرب في المنطقة والأوضاع في السودان.
زيارة الرئيس السيسي التاريخية لتركيا تمثل محطة جديدة في مسار تعزيز العلاقات بين البلدين، وتأسيساً لمرحلة جديدة من الصداقة والتعاون المشترك بين البلدين، سواء ثنائياً أو على مستوى الإقليم...وطيا لصفحة القطيعة والعداء في العلاقات المصرية التركية، وتأكيدا على قاعدة " الصداقة التاريخية والمصالح الدائمة".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة