هناك عدد من الدارسين في العلوم الإنسانية، ومنها علم الاجتماع، لم تخل دراساتهم من روح إبداعية. وفي هذه الوجهة يمكن أن نستعيد، على الفور، عالم الاجتماع الراحل الدكتور سيد عويس (1903 ـ 1988) في كتبه المتعددة. وكنت قد كتبت عنه مدخلا في (قاموس الأدب العربي) الذي أشرف عليه الدكتور حمدي السكوت، وكان مما كتبته في هذه المدخل:
"الدكتور سيد عويس عالم اجتماع مصرى، حصل على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع عام 1940، وعلى ماجستير علم الاجتماع من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1954، وعلى دكتوراه علم الاجتماع من الولايات المتحدة أيضا عام 1956.
تدرج سيد عويس عبر وظائف عدة، فى هيئات متنوعة، فكان أول من عمل في مهنة الخدمة الاجتماعية مديرا لمؤسسة العباسية من مايو 1939 حتى أول يناير 1944، ثم مدير مكتب الخدمة العامة لمحكمة الأحداث بالقاهرة من 1944 حتى 1953، كما كان عضوا فى هيئات كثيرة، منها مجلس إدارة المراكز والمجالس القومية المتخصصة، وأكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا، وجمعية الخدمات الاجتماعية بحى بولاق التي أسهم في إنشائها عام 1947.
خلال عقود طويلة، لم يتوقف فيها سيد عويس عن عمله، قدم نتاجا وفيرا ومهما فى مجال الدراسة الاجتماعية لظواهر متنوعة فى الحياة المصرية. من هذا النتاج كتبه: (من ملامح المجتمع المصري المعاصر – ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى) 1965، (الخلود فى التراث الثقافى المصرى) 1966، (حديث عن المرأة المصرية المعاصرة ـ دراسة ثقافية اجتماعية) 1977، (حديث عن الثقافة – بعض الحقائق الثقافية المعاصرة)، (أهم السمات الثقافية الموضوعية للشخصية المصرية)، (الازدواجية في التراث الديني المصري: دراسة ثقافية اجتماعية تاريخية)، (هتاف الصامتين: ظاهرة الكتابة على هياكل المركبات في المجتمع المصري المعاصر) 1971،(الخلود في حياة المصريين المعاصرين- نظرة القادة الثقافيين المصريين نحو ظاهرة الموت ونحو الموتى) 1972، (عطاء المعدمين : نظرة القادة الثقافيين المصريين المعاصرين نحو ظاهرة الموت ونحو الموتى) 1973، (الإبداع الثقافي على الطريقة المصرية) 1980، (قراءة فى موسوعة المجتمع المصرى) 1988، (لا للعنف: دراسة علمية فى تكوين الضمير الإنسانى) 1988. وصدر بعد وفاته: (من وحي المجتمع المصرى المعاصر) 1989، (أمثال وتعبيرات شعبية مصرية: دراسة علمية ثقافية اجتماعية) 1990، كما نشر سيد عويس سيرته الذاتية (التاريخ الذي أحمله على ظهري) قبل وفاته بسنوات قليلة فى ثلاثة أجزاء: (البذور)، (الثمار)، (ماء الحياة).
فى هذه الكتابات اهتم سيد عويس بالبحث فى الظواهر الاجتماعية التى تميز حياة المصريين، ورصد هذه الظواهر بطرائق غير تقليدية على مستوى اختيار المادة وعلى مستوى منهج تحليلها، معا. كان من هذه المادة ما يتصل بالتقاليد المتوارثة التى يؤمن بها المصريون ويعبرون عنها بطرائق خاصة، مثل التعليقات التى يكتبونها على مركباتهم، أو الرسائل التى يرسلها بعضهم إلى الأضرحة الدينية، فضلا عن الممارسات المصرية الاجتماعية التى تتجسد فى مناسبات متعددة؛ مثل الاحتفالات والموالد الشعبية والتجمعات التى تعقد بأشكال متنوعة، مرتبطة بالتجارب الأساسية؛ الميلاد والزواج والموت.. إلخ. وقد حلل سيد عويس تلك الظواهر بنزوع إبداعى يجاوز الاكتفاء بأدوات الإحصاء ودلالات الأرقام، فكان يمزج الحقائق العلمية بتأملاته فى السياق الثقافى والتاريخى للمجتمع، ويقرأ فى الممارسة المحدودة دلالاتها المفتوحة على مجالات رحبة، ويصل بين الواقع المرجعى، القائم، الراهن المعاصر، من جهة، والتاريخ الممتد إلى أزمنة سحيقة، من جهة أخرى".
كتابات الدكتور سيد عويس بلورت نموذجا كبيرا يجعلنا نعيد النظر في تصور شائع يرى أن دراسات العلوم الإنسانية هي محض دراسات باردة، ويقدم مثالا ناصعا لإمكان المزاوجة بين هذه الدراسات وبين الإبداع، سواء في اختيار الموضوعات التي يمكن دراستها، أو في طرائق معالجة هذه الموضوعات. وأتصور أن هذه التوجه، الذي يجمع بين النزعة العلمية والنزعة الإبداعية، قد امتد مع بعض علماء الاجتماع التالين الذين يعيشون بيننا الآن، ومنهم الدكتور أحمد زايد، والدكتور سعيد المصري.. ولعلنا بحاجة إلى تنمية هذا التوجه في كل مجالات العلوم الإنسانية المتنوعة.