حسين عبدالبصير

صراع الفرد بين الحرية والمجتمع في رواية "جنازة جديدة لعماد حمدي" لوحيد الطويلة

الجمعة، 10 يناير 2025 03:34 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تعد رواية "جنازة جديدة لعماد حمدي" للكاتب المصري الكبير الأستاذ وحيد الطويلة، الصادرة عن دار الشروق العريقة بالقاهرة، من الأعمال الأدبية التي تتخذ من الأجواء السياسية والاجتماعية موضوعًا رئيسًا لها، ويمثل عنوانها استحضارًا رمزيًا عميقًا حينما يفقد الإنسان قدرته على تحقيق ذاته أمام المتاهات التي تواجهه، وحيث امتزج الحزن العام بالحزن الخاص، وتمثل في حكاية عماد حمدي، نجم الشاشة المصري، الذي عاش حياة شخصية مأساوية في نهايات حياته. تجسد الرواية هذه التداخلات بين العام والخاص، بين مآسي المجتمع ومآسي الأفراد، بتركيب سردي يمزج الواقعية النقدية بالخيال، وينعكس ذلك في أسلوب الطويلة السردي القوي والدال.

قصة الصراع الداخلي

تدور بنية الرواية حول شخصية رئيسة، وهي ضابط شرطة، يعاني من صراعات داخلية بين ما يفرضه عليه عمله وبين رغباته وتطلعاته الشخصية كفنان تشكيلي. يتضح الصراع العميق بين هذا الضابط وواجبات عمله تدريجيًا؛ إذ ينشأ عن تعارض مقتضيات عمله مع تلبية حرياته الشخصية، وعجزه عن تحقيق ذاته في بيئة عمله وحياته. يتيح استخدام الطويلة لهذه الشخصية تقديم نظرة دقيقة إلى تعقيدات العمل والوظيفة والواجب وأثرها على الفرد حين يصبح البطل ممزقًا بين طموحاته وأوامر المؤسسة، وهي صورة تعكس بدقة الصراع بين الذات والآخر.

تصور الرواية تحولات شخصية الضابط، وهي تحولات تجسد المأزق الوجودي لعدد كبير من الشباب الذين يجدون أنفسهم في وظائف لا تعكس مواهبهم أو رغباتهم. يبدأ الضابط كفنان تشكيلي، يحلم بحرية التعبير وبأن يصبح جزءًا من الوسط الفني، لكنه يجد نفسه مدفوعًا قسرًا نحو عمله؛ حيث لا يُسمح له سوى باتباع التعليمات.

الشخصيات الرمزية وصراع الأجيال

يختار الطويلة أن يروي القصة بأسلوب يُبرز التناقضات، ويعرض بمهارة تفاصيل العلاقات بين الأجيال المختلفة؛ إذ ينقل وجهات نظر متضاربة بين الأب الذي يمثل القوة وبين الابن الذي يرفض القيود ويسعى للحرية. تُقدّم الشخصيات أبعادًا رمزية؛ فالأب هنا ليس مجرد شخصية فردية، بل يمثل العمل الذي لا يرحم ولا يعترف بأحلام الأفراد. بينما يظهر الابن كصوت الفن، وهو رمز لجيل يسعى للحرية الشخصية والتحرر من الضغوط المجتمعية، مما يطرح أسئلة عميقة عن الصراع بين الفن والقوة، وبين الحرية والتبعية.

مشاهد التوتر والدراما الاجتماعية

الرواية مشبعة بمشاهد تنبض بالتوتر وتتناول الصراع بتصوير درامي، يتضح في لقطات المواجهات النفسية التي يعيشها البطل. يُجسد التوتر مشاعر القهر واليأس، في رسم متقن للبيئة المجتمعية التي تُحكم بالقوة والواجب والتقاليد، والتي تعكس مدى الانسحاق الداخلي الذي يشعر به الفرد في تلك البيئة. وما يميز رواية الطويلة هنا هو قدرته على وصف هذه المشاهد بشكل حي، حيث يتفاعل القارئ معها وكأنها أحداث حقيقية، مضافًا إليها الجرعة العاطفية التي تتبدى في كل فقرة.

في تصويره للمجتمع المصري، يُحيل الكاتب إلى تجارب واقعية متمثلة في أحداث تاريخية مؤثرة، مثل ثورة يناير 2011، والتوترات التي شهدتها مصر بعدها. حيث يستخدم تلك الأحداث كخلفية لتسليط الضوء على التحولات الاجتماعية الكبيرة، والتي تعكس تغييرات في العلاقة الشعب بالقوة، والتحولات في وعي الناس وإدراكهم للمخاطر.

الأسلوب السردي وأدوات التعبير الأدبي

يتميز أسلوب الطويلة بلغة بليغة مليئة بالتشبيهات العميقة، والمعاني التي تثير تأمل القارئ وتدفعه للتفاعل مع النص بشكل عاطفي وفكري. اللغة في الرواية شديدة الإيحاء، متقنة البناء، حيث تبدو بعض الجمل كأنها مقاطع شعرية تترك تأثيرًا طويل الأمد. كما يستخدم الكاتب أسلوب "الاستدعاء" بتكرار مشهد شخصية عماد حمدي، الذي يظهر هنا كرمز للحالة العامة، والضياع الذي يعاني منه بعض الأفراد.

كما أن الكاتب يعتمد على الرمزية العالية في شخصياته وتفاصيلها، فصورة "البطل الفنان" تتجاوز حدودها الفردية لتصبح رمزًا للفرد المتأرجح بين التزاماته المهنية ورغباته الشخصية، وهو استعارة واضحة لوضع المثقف والفنان العربي في الأغلب الأعم.

النقد الاجتماعي: بين الوظيفة والهوية الفردية

رواية "جنازة جديدة لعماد حمدي" ليست مجرد سرد لقصة شخصية، بل هي نقد اجتماعي عميق لمجتمع يعاني من تسلط السلطات على الفرد، ويكبل حرية الإنسان في التعبير عن ذاته. يناقش الكاتب تأثير السلطات على حياة الناس ويطرح أسئلة عن العلاقة بين الفرد والمؤسسة، وكيف أن خضوع الفرد يؤدي إلى عزلة اجتماعية وتدمير للهوية الشخصية.

من خلال تسليط الضوء على المعاناة الداخلية للبطل، يبرز الطويلة ما يعانيه الأفراد في المجتمعات التي تتغذى على القيود والتقاليد الصارمة، وكيف أن ذلك قد يؤدي إلى نتائج مدمرة على المستويين الفردي والاجتماعي.

"جنازة جديدة لعماد حمدي" كمرآة للواقع العربي

تُظهر هذه الرواية ببراعة كيف يمكن للأدب أن يصبح مرآة لواقع اجتماعي معقد؛ إذ يُسجل الطويلة معاناة الفرد في وجه العمل والواجب والسلطة. كما ينجح في مزج الخاص بالعام في أسلوب يعكس أصداءً ثقافية تمتد خارج حدود النص لتلامس حياة الكثيرين. يُقدم وحيد الطويلة في "جنازة جديدة لعماد حمدي" نموذجًا للرواية الاجتماعية التي تُعري آلام المجتمع وتدفع القارئ لإعادة النظر في مفاهيم عديدة مثل العمل، والحرية، والهوية.

لقد نجحت الرواية في تحقيق رسالتها كعمل فني وفكري متكامل، يربط بين الفضاءات الاجتماعية والرموز الأدبية، ليضع القارئ أمام تجربة قراءة مثيرة، تثير لديه الرغبة في التأمل، والاستفهام، وربما إعادة النظر في بعض القيم التي اعتاد المجتمع تقبلها دون مساءلة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة