حازم حسين

حوار سوريا وورشة انتقالها.. سؤال الدولة والثورة بين دعايات طيبة وبديهيات غائبة

الخميس، 02 يناير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كان بشَّار الأسد يعلمُ أنه راحلٌ لا محالة؛ وإن فوَّتَ الإشارات فرُعاتُه الخارجيِّون لم يُفوّتوها بالتأكيد. اللحظةُ التى انكسرت فيها المُعادلة الداخلية، ترسَّمت ملامحُ مستقبلٍ لن يكون البعثُ بصورته المعهودة جزءًا منه، ولعلّها كانت فى مُنتصف المسافة تقريبًا بين اندلاع الثورة، وفراره على طائرةٍ روسية إلى موسكو.

غضبُ الصغار فى «درعا» لم يكن كافيًا لإطاحة النظام؛ لكنَّ الرئيس وزُمرتَه تكفَّلوا بإسناده وترقية مستواه إلى حالة الحرب الأهلية. احتدمَ الصراعُ، وحُشِدَ المُقاتلون من أرجاء الأرض، وما كان مُمكنًا حَسْمُ المسألة من دون خطيئةٍ كُبرى. ولعلَّها توافرت مع قرار استخدام الأسلحة الكيميائية فى غوطة دمشق، ثمَّ خروج السلطة من سياقها النظامىِّ؛ لتُديرَ حربَ عصاباتٍ مع الميليشيا، وتساوى الطرفين فى الاستعانة بالخارج.

حتى صدور القرار الأُمَمىِّ رقم 2254 أواخر العام 2015، كانت اللعبةُ فى نطاقها الأوَّل: أزمة سياسيَّة تحت سقف التفاعل الاجتماعى، وحلٌّ فى المُتناوَل؛ ما إنْ ينزل الأسدُ الابن عن غرامه القديم بتقليد والده، وعن قراءته فى كتابَى «حافظ ورفعت» وقت أزمة حماة فى أوائل الثمانينيات.

كان المطلوب من الرجل أن يتفاوض مع المُعارضة المدنية، ويُمهِّد الطريق لإعادة هيكلة منظومةِ الحُكم من داخلها، وقد تُتيحُ له المُهلةُ المنصوص عليها هامشًا لمُداواة الشروخ العميقة، أو مُغادرة الساحة بخروجٍ آمن وزهيد التكلفة.

المُكابرةُ أورثته العَنَت، والوَهمُ ألقاه فريسةً سهلةً لخصوم أكثر شراسة؛ ولو أُرجئ الافتراس قليلاً. ضحَّى بالوِفاق مع الائتلاف، فضُحِّى به فى توافقات الآخرين على المكاسب والخسائر، وعلى سلاح هيئة تحرير الشام بالتبعية.

أخطأ النظامُ فى احتواء الموجة البازغة من سياق الربيع العربى، ثمَّ تعمَّقت أخطاؤه بالتعالى على تجارب الدول المحيطة، وبالجَهل المُركَّب بطبيعة خصومِه، وقد صاروا ثلاثًا: الشارعَ المُحمَّلَ بالفوران والغضب وطموحاتٍ كتمتها العقودُ الأَسَديَّة البائسة، ونُخبتَه السياسيَّةَ القابلة للدخول فى مسار الإصلاح، وأخيرًا المجموعات الجهادية والمُنشقِّين العسكريين بخيارهم التغييرى الرافض للمُواءمة.

أراد صانعُ القرار أن يُقصِى ثلاثتَهم؛ وما كان عليه إلَّا أن يستوعب طرفًا منهم على الأقل، ولكلِّ خيارٍ كُلفتُه وعوائده. تحييدُ البنادق معناه أن تتمدَّد الجدالات النخبويَّةُ دون حَسْمٍ أو تسوية، وإرضاء الساسة يشقُّ طريقًا لترويض الثائر والمقاتل على حد سواء، أمَّا اجتذاب الشارع فإنه يُفرِّغ الثورة من مضمونها أصلاً، وقد فشل فيها جميعًا.

لم يَكُن جاهزًا لأىِّ استحقاقٍ، ولا قابلاً لسداد التكاليف المطلوبة مهما كانت زهيدة. فصعَّد حربَه على المدنيِّين؛ لتتصاعَد لوثةُ الجهاديين، وكلَّما تمادَى فى الخيارات الخشنة، كان يسحبُ البساط من المُعارضة السِّلمية، ويُراكِمُ الأرصدةَ فى حساب الجماعات الأُصوليَّة العنيفة؛ حتى وصل فى آخر المطاف إلى نُخبةٍ غائبة، وشارعٍ مُنسَحق، وميليشيا تفوقُه قوّة.

لا شىء من تُراث النظام يصلحُ لإعادة الإنتاج؛ إنما تتبقَّى منه العِبَر والاستخلاصاتُ النافعة فى إدارة الانتقال. حلَّ «الجولانى» بديلاً عن الأسد، استُبدِلَت بندقيَّةٌ بأُخرى، وما زال الشارعُ على حاله القديمة الرثّة، والمُكوِّنات المدنيَّة ربحت نصفَ المعركة السهل، وتنتظرُ نصفَها الأصعب.

لم تتبخَّر قوى السُّلطة السابقة تمامًا، وعَمَّا قريبٍ قد يتيسَّر لها تنظيمُ صفوفِها، فضلاً على تناقضات التيَّارات الأُصوليَّة الصاعدة حديثًا فيما بينها، وعن الشِّقاق العميق بين الغرب الذى حُسِمَت أمورُه، والشرق الذى لن يدينَ للقائد الجديد بسهولةٍ؛ إذ لدى الأكراد مظالم شبيهة بغيرهم، وطموحات أيضًا، وجرَّبوا الإدارةَ الذاتيَّة ومزاياها، ويحتاجون لمُعادلةٍ تزيد مكاسبهم، أو على الأقلِّ لا تخصم منها، قبل أن يذوبوا مُجدَّدًا فى المشهد الوطنى الواسع.

باختصارٍ؛ فُرَص البقاء فى سياق الأزمة أكبرُ من إمكانات مُغادرتها. والضماناتُ المطلوبة راهنًا تتجاوزُ دعايات الخلاص من العدوِّ المُشترك، وتطمينات سُلطة الأمر الواقع؛ بالنزول راضيةً عَمَّا تعتبرُ أنها اقتنصَتْه بسواعدها العارية. رحلَ السجَّانُ فعلاً؛ إنما ما يزال المسجونون جميعًا وراء قضبانه من دون تغيير.

سجنُ صيدنايا لم يكن أعظم الكوارث الأَسَديَّة، ولا دفع السوريِّون أعمارًا ودماء لا حصر لها؛ لأجل أن يُباع لهم مُستقبلٌ غامض. تتطلَّبُ اللحظةُ هندسةً عكسيَّةً لخطايا الحقبة العَلَويَّة الطويلة، واقتفاءً لأثر كلِّ خطيئة بالحَصر والتصويب، دون الاكتفاء بالعناوين العريضة، ولا مَنْح الشارع المُتأجِّج فى جانبٍ، وسَلْبه من الآخر.
تتبقَّى ثمانٍ وأربعون ساعةً فقط على انطلاق مُؤتمر الحوار الوطنى. حدثٌ مطلوبٌ فى وَقتِه وفلسفته وغاياته؛ إنما شَكلُ الإخراج فيه لا يقلُّ أهميَّةً عن المضمون. ليس مطلوبًا أن يكون جمعيَّةً عموميَّةً للوطن المُشرَّد فى الداخل والخارج، كما ليس مقبولاً أن يكون انتقاءً من جُملة الشعب بالهَوَى وتجزئة الهُويَّة، والأكيد أنه لا يُمكن أن يَمُرَّ على صورة الاحتواء وتقطيع الوقت.

قِيل فى التفاصيل؛ إنه سيدعو نحو 1200 من الفسيفسائية الوطنية العريضة، بصفاتهم الشخصية لا انتماءاتهم الحركية، مع ما بين 70 و100 مُمثّل عن كل محافظة. وكما أن الطريق للجحيم تُعبِّدها النوايا الحسنة؛ فإنّ بعض شعارات المُواطنة قد تُتَّخذ مَطيّة لنَقضها، وقد تُرتكَب جرائمُ الفرز تحت ستار الالتجاء إلى الإجماع.

تنحَلُّ الدولة إلى وحدتها الأَوّليّة: الفرد. وفى المقابل؛ فإنّ هيئة تحرير الشام ما تزال قائمة، ولعلّها الوحيدة التى تُحافظ على كيانها، وتدخلُ إلى الحوار برايتها وكُتلتها الكاملة. صحيحٌ أنّ قائدها يُبشِّر بحلِّها الوشيك، وبأنه قد يحدث فى المؤتمر؛ إنما إلى أن يُتَّخذ القرارُ، فالواقع أنها التنظيمُ الوحيد بين قطيعٍ مُشتَّت، والورقة الوحيدة التى ستُوضع على الطاولة، مُعبِّرةً عن تيَّار بعينه، وعن مصالح طائفةٍ مُغلقة على نفسها دون الآخرين.

الغايةُ النهائية أن يقف الأفرادُ أمام الدولة، مُتساوين فى الحقوق والواجبات. والواقعُ اليومَ أعقدُ كثيرًا من تلك الصورة المِثاليّة. كانت البيئةُ السورية مُركَّبةً على مقاس طائفة؛ وقد سقطت ليصعدَ بديلٌ عنها بذات الهيئة والصفات. الناس مَدعوّون إلى الطاولة فرادى، وكما واجهوا عصابة الأسد يواجهون عصبة الجولانى: آحاد أمام قطيع، وحوار له نكهة عقود الإذعان.

لا تُهدَم البلادُ بالنوايا، ولا تُبنَى بها أيضًا. كان الهدفُ المُعلَن فى ورشة الهدم أن يُزاحَ الحاكمُ المُتسلِّط، وأن يُؤسَّس البديلُ المُفارق لكلِّ ما جناه على الشام. وفى مسار البناء يتعيَّنُ الالتزام بالضوابط كلِّها، وتتحقّق المساواةُ بالسباق من نقطةٍ واحدة، لا أن يبدأ أحدٌ من الصفر، وينطلق الآخرُ من محطة الوصول.

للانتقال مهمّةٌ واحدة، يُفترَضُ أن تكون إرساء القواعد الحاملة لمنظومة الحُكم فى عصرٍ جديد تمامًا؛ لكنّه لا ينقطع عن ماضيه ولا خبراته وتُراثه المُؤسَّسى. وما يحدثُ أنّ الحوار صار بين حاكمٍ ومَحكومين، لا بين ثوّارٍ يُرتِّبون حدود العلاقة فيما بينهم. هو الشارع مُجدّدًا فى مُواجهة القصر؛ ولو أطلّ تحت عنوان الاستثناء والظرفية العابرة.

مفهومٌ أنّ اللحظةَ انتدبَتْ الطرف الأكثر جاهزية للإمساك بمقاليد الأمور، أو انتدَب نفسه تحت غطاء الظرفيّة القاهرة. هذا فيما يخصُّ استيعاب السيولة الطارئة، ومَنْح الدولة جسدًا انتقاليًّا تتحرّك به، وتُخاطبُ العالم. إنما على صعيدِ الداخل؛ فالجميع مُتساوون تمامًا. وعلى الجولانى أن يتجرَّد من سُلطته قبل أن يُحاور شركاءه فى المشروع الوطنى؛ هذا لو اعتبره شراكةً أصلاً، وليس تأسيسًا لدولةٍ رَعويّة بديلة عن التصوُّر الأبوىِّ فى نسخة البعث.

والقصد، ليس أن يتنحَّى عن الإدارة المُؤقّتة، ولا أن يُشرِك الجماهير الحاشدة فى الأدوار السياسية والتنفيذية. كان المدخل الأكثر موثوقيّة للحوار، أن يسبقه تشكيلُ هيئةٍ تنظيمية مُكوّنة من كلِّ التيّارات، بالمساواة والتكافؤ؛ لتتولّى بدورها وضعَ المحاور، والأفكار محلّ النقاش، واختيار المُمثّلين عن المُكوّنات الجِهَويّة والهُويّاتيّة، بما يُحقِّق عدالةَ التمثيل واتساعه وتعبيره عن كلّ الأطياف.

المؤتمر على صورته المُعلَنة، لم يَعُد حوار السوريين ما بعد الثورة على الأسد؛ بل محاورة بين الجولانى وأفراد، مهما كان عددهم فإنهم لا يُمثّلون المجموع، ولا يحملون همومَ بيئاتهم وطوائفهم باتفاقٍ مُسبَقٍ وصفة نظامية مُرتَّبة، وفى إطار التزاماتٍ لكلّ الأطراف على بعضها، ومعايير واضحة لِمَا سيسير إليه الكلام، وما يُستخلَص فيه من إفاداتٍ ونتائج.

هُنا تُثار أسئلةٌ إلزاميّة عن طبيعة الانتقال، ولا تغيب المخاوف بشأنه. قِيل صراحةً من بعض المُنتمين للتيّار الأُصولىّ وداعميه إنّ «مَن يُحرِّر يُقرِّر»؛ وعليه فالنظرة إلى الإدارة المُؤقّتة لا تنبع من كونها الأكثر جاهزية، والأقدر على الاضطلاع بأعباء المرحلة؛ إنما لأنها الطرفُ القابض على البندقية، والقادر على إملاء إرادته، وما عداه غير مَدعوّين للقرار؛ لأنهم لم يكونوا طرفًا فى الحرب الأهلية، كما لا سبيل لديهم إلى الاعتراض.

رسائل الجولانى حتى الآن منضبة للغاية، ومطمئنة فى وجهها الظاهر؛ إنما الاعتبار للأفعال قبل الأقوال، وأهم منها لمنطقية الأمور وتراتبها وفق حساب دقيق. قال الرجل إنه يسعى إلى إرساء عقد اجتماعى جديد، وصياغة دستور يقود إلى الانتخابات وتكوين السلطة، لكنه يُفرِّق على ما يبدو بين القواعد والأعمدة فى بنية أى نظام، ولعله يجهل طبيعية الميثاقية الاجتماعية، أو يتجاهلها قصدًا.

العقد الاجتماعى اتفاق ضمنى فوق دستوى؛ إن جاز التعبير. بالفلسفة هو تعاقد بين أفراد، وبالمعنى فإنه يُنظِّم علاقة المواطنين ببعضهم، وبالمجال العام، ويُحدِّد المشتركات العريضة وملامح الدولة التى لا تقبل الفصال أو التحريف.

وعليه؛ فإنه الأساس الذى يتعيَّن أن تنطلق منه المحاورات لا عليه، وفى الثورة وتجربتها ما يكفى لإنتاجه من دون جدل ومشاغبة وإهدار للطاقات.
خرج الشعب على الأسد لأنه كان ظالما غشوما، أمَّم السياسة، وألغى تكافؤ الفرص، وحولهم من مواطنين إلى رعايا. كان الغضب من طائفية النظام لا من الطوائف نفسها، وعلى تحريف أدوار المؤسسات لا على وجودها وأدوارها الطبيعية، وكان موجّها إلى البطش والشمولية وانعدام الحرية. كانوا يرفضون العلويّة المضمرة لا المدنية، والشعارات الصاخبة لا القضايا، وكل ما يُعاكس ذلك إنما يُمثِّل العقد الاجتماعى فى صورته السليمة.

باختصار؛ لا يُمكن أن ينطلق حوار بمعزلٍ عن التسليم بحقائق الجغرافيا والديمواغرافيا، ونهائية الوطن فى صورته القائمة، وبالمدنية والعدالة والمساواة، وحجيّة الدستور والقانون على الجميع، وفوق أية اعتبارات استثنائية أو ظرفيّة. لا يُمكن أن ينطلق الحوار على ثوابت العقد الاجتماعى، إنما على تفعيلها وتثبيتها بالنصوص والممارسات.

وما يُطرَح من جانب الجولانى وعصبته؛ أنهم يسعون إلى ابتداء الأمور كلها من نقطة الصفر. ولا دليل أكبر من تفكيك الجيش، وإلغاء التجنيد الإلزامى، واستبعاد العسكريين من كل الطوائف دون تقييم حقيقى جاد، مقابل إدماج المقاتلين الأصوليين خارج أية معايير أو اعتبارات نظامية، وآخرها ترفيع رتبة 7 من جنسيات أجنبية، وما خَفى وراءهم من مئات وربما آلاف المرتزقة الأجانب أكبر.

يتعذّر الانتقال من دون إرساء عاجل للعقد الاجتماعى، وتركيز للمؤسَّسات فى صورتها الأوليّة الضامنة لانتظام يوميّات الدولة. الدستور سيتولَّى الضبط والتحجيم وتنظيم العلاقات؛ لكنه لن يؤسِّس لركائز هى من صُلب الصيغة الدولتية، وسابقة عليه، وحاكمة له بقدر ما يحكمها. بمعنى أنه امتلاك القوّة الشرعية أصلٌ لا يُمكن أن يُفرِّط فيه الدستور، ووحدة الإقليم وسلامته أيضًا، وفيها تتساوى النظرة للاحتلال الصهيونى جنوبا، مع شبيهه العثمانى فى الشمال.

قد يكون مفهومًا أن الحُكَّام الجُدد آتون من خارج فكرة الدولة أصلاً، ويتسلَّط عليهم ماضيهم الأصولى بطبيعته الميليشياوية؛ إنما لا يصح أن يتعاملوا مع سوريا على أنها وليدٌ جديد، أو مُجتمع بدائى يحبو فى مرحلة التقاط الثمار، وينتظر أصحاب الأدوار الرسالية ليُعيدوا بناءه من الصفر.

قبل أيام، خرج الجولانى فى حوار على شاشة قناة العربية؛ ليقول كلاما بعضه منطقى مفيد، وأغلبه مُزعج ويُضمر أكثر ِممَّا يُبطن. قال إن سوريا تحتاج سنةً ليشعر المواطن بتحسُّن الخدمات، وهو مُصيبٌ، وربما تتخطَّى المُدَّة هذا الحد.

إنما بجانب ما سبق، فقد بشَّر بأن الدستور قد يحتاج لثلاث سنوات، وتزيد لأربعٍ فيما يخص الانتخابات. والمعنى؛ أنه سيبقى حاكمًا فردًا دون مُنافس ولا قيودٍ قانونية عليه، وتلك صفات تتجاوز الديكتاتورية، وتُلامس حدود السلطات الإلهية، أو ملوك العصور الوسطى على الأقل.

قرابة الشهر على رحيل الأسد، ليست فترة كافية لبناء الدولة؛ لكنها أكثر من اللازم لحصر الركام. لم تنقطع المناوشات فى الساحل وبعض المحافظات الكُبرى، وتُرافقها تجاوزات من المقاتلين، وخروقات لفظية وعملية من التنفيذيين التابعين لهيئة تحرير الشام، تنُمّ عن افتقاد الرؤية الواحدة، والواضحة، وغياب البرنامج السياسى الجامع.

فرحة النصر لا تعمى عيون السوريين فحسب؛ بل تُغطى أيضًا على التناقضات الداخلية بين الميليشيات الصاعدة حديثًا لأدوار لم تعهدها. مسألة السلاح، والاندماج فى الجيش، ومواقع التنظيمات من دائرة السلطة، ومقدار ما تتحصَّل عليه من الكعكة، كلها أمور مُرشَّحة للانفجار وإثارة القلاقل.

وما لم يُدعَ الشارع إلى الشراكة فى الجدل؛ فإن طاقة السلطة الجديدة قد تنصرف إلى اختصام بعضها من الداخل، بما يُهدِّد لا بتعويق المسار فحسب؛ إنما بالتداعى وإذكاء حال الحرب، أو بانقلاب قصرٍ يُعيدُ الأمور لأسوأ مِمَّا كانت عليه.

التوصل إلى آلية حوار شاملة ومُستدامة ضرورة لا رفاهية، احتياج للسلطة الجديدة قبل الشارع، وللدولة قبل الطرفين. ميراث الأسد ضخم ومُعقَّد، ولن يتجاوزه فريق بمفرده، ولا بتصوّره عن المهلة الزمنية المطلوبة للتجاوز ما لم يتوافق عليها الجميع.

الخلافات طبيعية ومُتوقعة؛ بل ربما تكون مطلوبةً لإثارة كل المخاوف وتصفيتها؛ إنما الواجب ألّا يُصار لفَتحها قبل امتلاك آلية لاحتواء الصراعات وترشيدها، وطمأنة الخائفين، واتِّخاذ الضمانات الوثيقة على المنفردين بالقرار دون تفويض أو اختيار شعبى؛ مع العلم بأنها ستتفجّر حتمًا، أرادوا ذلك أم لم يُريدوه.
مؤتمر الحوار الوطنى يجب أن يكون شاملاً، وأن يُعبِّر عن التناقضات، واستبعاد الائتلاف السورى وهيئة التفاوض وبقيّة كيانات الثورة بالخارج منه؛ ليس خيارًا صائبًا، كما أن تغييب المكونات المدنية والطائفية لا يردم الفجوات؛ بل يُعمِّقها خارج دائرة النظر والمُداواة.

لقد برَّر الجولانى إمساكه بخناق الحكومة منفردًا؛ بأنه يحتاج إلى اللون الواحد حاليًا لتسيير أمور الدولة، وعليه فلم يَعُد من مُتنفَّس لإظهار التنوّع وتبايناته إلا عبر الفعاليات الاجتماعية، وحرمان البيئة المُتأجِّجة من النافذة الشرعية لتصريف المخاوف وفوائض القوة، قد يُوجّهها فى مسارات خاطئة.

حاضر الرجل جيِّد؛ إنما ما العمل مع ماضيه الردىء؟ كلام اليوم يُقابله كلام فى الماضى، دعا فيه إلى هجمات واسعة وعشوائية ضد العلويين، وشىء من هذا يتحقق الآن بدرجة من الدرجات، وفى حوار سابق قبل سنوات قليلة، قال إن سياستهم تنضبط بالشريعة، وإنهم آتون لإقامة الدولة الإسلامية، وهذا ما يتنافى مع دعاياته الأخيرة تمامًا.

والخوف كلّه من اللعب على وتر استنزاف الوقت، وإدخال الخديعة على الجمهور؛ لمفاجئتهم لاحقًا ببرنامجٍ لا يوافق تطلّعاتهم، وتستحيل بالضرورة تعبئة الشام الواسع فى عباءته الضيّقة.

عقب إسقاط الأسد، قال الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب إن أنقرة مارست استيلاءً غير ودى، وإنها لطالما أرادت السيطرة على جارتها الجنوبية، ولا غضاضة فى ذلك. والإشارةُ فيها ما يُثير الغبار ويُهدِّد الانتقال، ولا معنى لهندسة الحوار الوطنى من دون قواعد؛ إلا إفساح المهلة لاستكشاف نوايا البيت الأبيض.

كما لا معنى لتمديد حبل الدستور والانتخابات لأربع سنوات؛ إلا أن السلطة الجديدة ورُعاتها الخارجيين يُريدون تمرير ولاية ترامب برسائله الصاخبة وردود فعله غير المُتوقَّعة، وبعدها سيكون لكلّ حادثٍ حديث، مع وريثٍ جمهورى أضعف، أو بديل ديمقراطى يُحبُّ لعبة الإسلاميين ويُدمن الاكتواء بنارها.

وإذا صدق أنّ مقدِّمات الحوار أقربُ إلى استشراف المواقف الأمريكية، فضلاً على مواكبة بقيّة التداعيات الناشئة عن طوفان الأقصى، وما قد تمتدّ إليه من حربٍ إسرائيلية مباشرة مع إيران؛ فالأرجح أن قرار الأناضول يُملَى على دمشق لأجل البقاء فى مرحلة السيولة، والتسرُّب الناعم حاضرًا، على أمل أن تتلاقى الظروف المستقبلية على تثبيت الحقبة الجولانية، وإنتاجها نظاميًّا فى بعثية جديدة، بطائفية سُنيَّة، ومشروع أُصولىٍّ يحلّ بدلاً من القومية، ويُستثمَر فى إسناد التيّارات الرجعيّة، وتعويض خسائر الربيع العربى على العثمانية الجديدة وأطرافها الرديفة من الإخوان وغيرهم.

الجميع مُنفتحون على السلطة الجديدة، ولا أحد يعترف بهم رسميًّا. كان لافتًا أن يرفض الوفدُ الأمريكى لقاء الجولانى فى قصر الشعب، ويصرّ على ملاقاته فى أحد فنادق العاصمة. المعنى أنه لا يراه حاكمًا، ولا يُقرّ له باكتمال الصفة النظامية؛ ولو على التأقيت والاستثناء.

وأغلب العواصم الكُبرى والرزينة لديها موقفٌ شبيه. الشرعيّة ستتولَّد عن الشعب؛ لو أجاد الحُكّام إقناعه بأنهم ينوبون عنه لميقاتٍ معلوم، وليسوا آتين لمصادرة حقوقه باحتيالٍ ناعم، وأجندة أشدّ شراسة مِمَّا جناه الأسد عليهم وعلى الشام.

فى حواره سابقِ الإشارة، تقمّص الجولانى شخصية المدنىّ عريق التجربة، وقال إن المُحاصَصة ستُدمِّر سوريا. أصاب فى القول وأخطأ فى الفعل؛ إذ فى المقابل صادر سوريا بما عليها لصالح لونه العقائدى والتنظيمى، والفارق كبير بين مُصالحة الطوائف وإلغائها. وإلى اليوم، حديث التصالح نفسه ما زال غائبًا عن التداول؛ ناهيك عن التطبيق.

عليه أجوبةٌ إلزاميّة لا تقبلُ الإرجاء، بشأن مستقبل هيئة تحرير الشام بعد الحلّ، وهل تكون حزبًا أم تُغادر المشهد، وهل سيكون هو ذاتُه رئيسًا بعد منافسةٍ عادلة، أم مُرشدًا أعلى بوضعيّة فوق دستورية. القرار الأُمَمى 2254 توافَق فيه العالمُ على الحاجة إلى سنتين لتجاوز الأسد بكلِّ جبروته وأبدية سُلطته؛ فلماذا تتضاعفُ المُدّة وما عاد الأسدُ حاضرًا أصلاً؟ فراغاتّ كثيرة وواسعة يعجزُ الرجل عن سدّها، وما فى صدره أضعافُ ما باح به، والموضوعيّة لا تمنع النقد، والقلقُ واجب، وسوءُ الظنّ فيه وفى غيره أوجبُ الواجبات، كما أنه من حُسن الفِطَن.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة