عادل السنهورى

زمن عدوية

الخميس، 02 يناير 2025 01:20 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

رحل أحمد عدوية وترك زمنه الذى فاض على كافة مناحى الحياة فى مصر وصبغ لونها منذ أواخر الستينات وحتى بداية التسعينات . ربع قرن تقريبا ظل عدوية بلونه الغنائى الشعبى المفاجئ عنوانا لمرحلة سياسية واقتصادية واجتماعية كاملة فى تاريخ مصر المعاصر ومرادفا لكل التغيرات والتحولات والانقلابات الحياتية مع بداية عصر الانفتاح الاقتصادى ومعبرا بصوته وكلماته الغريبة عن شريحة وطبقة اجتماعية من البسطاء المهمشين نصبته بإرادتها ورغبتها زعيما لها- رغما عنه - للتعبير عن همومها وأحزانها وأحلامها المجهضة.


زمن أحمد عدوية.. كان هو العنوان الموجز والكاشف والملخص لمرحلة كاملة فى تاريخ مصر من الفوضى والزحام والعشوائية وانفلات الأخلاق وتدنى الذائقة الغنائية والفنية المصرية وإعلان انتصار زمن الانفتاح وهزيمة أو خفوت المشروع الناصرى واليسارى عموما ورموزه فى السياسة والثقافة والفن والغناء خصوصا. فعدوية بزغ نجمه وهيمن على ساحة الغناء فى مصر فى وجود أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد وباقى رموز الغناء والطرب وسيطر على سوق الكاسيت فى مصر فى الوقت الذى حاربته المؤسسة الإعلامية الرسمية ومنعت أغانيه فى الإذاعة أو ظهوره فى التليفزيون ورفضته لجان الاستماع فى المبنى ومع ذلك تسلل الى الآذان عبر الإعلانات مثل "خضر العطار" و"زجمار" وغيرها واستعانت به السينما فى موجة أفلام المقاولات - حوالى 27 فيلما - لزيادة الإيرادات فهو نجم الشباك الأول و"عراب" زمن السبعينات والثمانينات وحتى قبل نهايته حيا قبل الأوان نهاية قبل الأوان فى صيف 1989 عقب تعرضه لحادث مأساوى فى احدى الفنادق الشهيرة.


حالة أحمد عدوية تسببت فى صدمة مهولة للمشهد الثقافى والسياسى والغنائى المصرى فتصدى له اليسار وهاجمه وانتقده رموز اليمين على اعتبار أن يمثل تدنى الذوق والانحطاط الفنى وتعبيرا عن المرحلة الساداتية..!
لم ينتبه الا القليل من كبار الكتاب فى نهاية الستينات وعقب نكسة 5 يونيو 67،  لنشوء " نبتة غنائية" غريبة وسط غابة الغناء التقليدى لشاب جديد يغنى فى الملاهى الليلية فى أواخر الستينات وكان يعمل كعازف لالة المزهر خلف الراقصات وبدا مواكبا بغنائه وكلماته الغريبة وألحانه المربكة لمرحلة الاغتراب الاجتماعى فى مصر عقب النكسة.


يحكى الكاتب الكبير الراحل الأستاذ محمد حسنين هيكل أنه: "ذات مرة طلب منى الصديق العزيز والكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين ألا أنام مبكرا كما هى عادتى وأنه سيمر على لأمر هام وأنا أحب بهاء ولا أرفض له طلب وبالفعل ذهبت معه الى أحدى فنادق القاهرة الكبرى وجلسنا الى احدى ترابيزات صالة الملهى الليلي. وقال لى بهاء جئت بك لكى تستمع الى مطرب جديد مدهش وفجأة وبعد فترة زمنية قليلة ظهر على المسرح المطرب أحمد عدوية ..اندهشت من " عزومة" بهاء وسألته عن سر دعوتى للاستماع الى عدوية . قال بهاء " عدوية هو مطرب المرحلة القادمة والتعبير عنها..!"


ربما كان يقصد بهاء بمرحلة ما بعد النكسة وربما أيضا كان يعنى مرحلة ما بعد عبد الناصر وتولى السادات وبداية الانقلاب على المرحلة الناصرية والبحث عن صوت غنائى يعبر عن المرحلة الجديدة مثلما بحث عبد الناصر عن صوت حليم ليعبر عن مرحلة الثورة..!
تنبأ بهاء وبشهادة هيكل بعنوان المرحلة المقبلة المختزلة فى صوت عدوية وغنائه وليس شخصه وكانت دعوة بهاء لا تعنى عدم ترحيبه بصوت عدوية وبإعجاب خفى غير معلن له وتوقعه باكتساح الساحة الغنائية وفرض شخصيته ولونه الغنائى على الجميع. فعقب واقعة الدعوة بحوالى 13 عاما كتب أحمد بهاء الدين مقالا فى عموده الشهير "يوميات" بصحيفة الأهرام فى أغسطس 85 قال فيه عن أحمد عدوية: "أن الموسيقار محمد عبدالوهاب كان دائما معجبا بصوت عدوية، ويجد دائما فى صوته، صوت ابن بلد، ومغنيا مصريا صميما، ففوق ما فيه من حلاوة وشجن، نجد كسرة فى صوته تجعله مختلفا عن الصوت المستقيم الأساسي".‬‬


لم يكن ذنب عدوية الذى صادف لحظة تاريخية استثنائية، أن طوفان آخر لثقافة جديدة بدأت تنتشر كالنار فى الهشيم فى أرجاء الأرض خلال الستينيات، فقد أنتجت الفترة التالية لنكسة 1967 طبقة وشريحة اجتماعية فى مصر تربعت على عرش الثقافة فى مصر، وأزاحوا من المشهد النخبة الحقيقية الموهوبة من المثقفين المصريين وكما يذكر الكاتب اليسارى الكبير والمؤرخ صلاح عيسى فى كتابه «مثقفون وعسكر»، أن هؤلاء دخلوا التاريخ من باب السيكولوجيا لا من باب الأدب أو الفن أو الفكر بعد هزيمة يونيو 1967.


قاد المثقف اليسارى الشهير صلاح عيسى وعدد من كتاب اليسار حملة هجوم ضارية ضد أحمد عدوية وزمنه وكان المستهدف ليس عدوية وانما رئيسه السياسى وسخر عيسى من عدوية ووصفه بظاهرة العندليب الأخنف ساخرا منه، كما سخر منه الدكتور مصطفى محمود منه، قائلا إن صوته يشبه صوت "دكر البط" واتسعت دائرة الهجوم على " زمن عدوية" مع اطلاق أحمد عدوية أغنيته الشهيرة والأيقونة "السح ..الدح امبو ادى الواد لأبوه" التى صعدت به الى قمة المشهد الغنائى واكتسحت الشارع المصرى وكل من كان يسير ليلا فى شارع الهرم كان لا بد أن تحاصره من كل اتجاه فى ملاهى الشارع المعروفة أغنية عدوية "السح الدح امبو" الذى ألفها ولحنها " الريس بيرة" الى درجة أن الدكتور عبد القادر حاتم الذى تولى منصب وزير الثقافة فى الفترة من 71 وحتى يناير 72 اعتبر فى تصريحات صحفية له أن أحمد عدوية " خطر على المجتمع المصري" وأصدر تعليماته بتشكيل لجنة لمكافحة ظاهرته..!


فى الوقت ذاته كانت شرطة الآداب تستعد للاتجاه إلى أحد ملاهى شارع الهرم لاعتقال المطرب أحمد عدوية بسبب كلمات أغانيه..!
وجد عدويه نفسه دون قصد وسط دوامة من العداء السياسى والثقافى لا يعى معناها ولا يدرك أبعادها فهو شاب صعيدى هرب من قريته، أقصى طموحه أن يغنى للناس بلونه الخاص الذى تربى عليه وأبدع فيه ببحة صوته الحزين المنكسر والمهزوم .


لم يكن أحمد عدوية يساريا ولا يمينيا ولا منتميا للتيار الإسلامى ولا حتى مثقفا أو مدعيا  للثقافة أو رفيق وصديق المثقفين . مجرد مطرب أو مغنى يرى فى نفسه أنه  يملك موهبة ومنحة إلهية، وصوت مميز ومتفرد قادر على الأداء المؤثر.


لم يكن عدوية صاحب مشروع غنائى أو رسالة فنية وثقافية بقدر ما كان " بتاع مزاج غنائى " خاص به فقط دون غيره  يطمح الى الاستمتاع به وامتاع من حوله ولم يعنيه أن تعترف به الآلة الإعلامية الرسمية أو يلتف حوله المثقفون فأصبح " السلطان" فى قصر الغناء المصري...

عادل السنهورى، زمن عدوية، أحمد عدوية الغناء الشعبى، تاريخ مصر المعاصر.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة