تتجاوز رواية "كل ما أعرف" للروائي المبدع علي قطب، والصادرة عن دار العين العريقة في القاهرة، كونها مجرد عمل روائي يتبع تقنيات السرد المتعدد الأصوات أو حبكة بوليسية معقدة. إنها رواية عن الإنسان في أقصى تجلياته من حيث الهشاشة، والتناقضات الداخلية، والبحث المستمر عن الهوية والمغزى. من خلال بطلها "أحمد علي"، الذي ينجذب إلى عالم الكتابة بطريقة مرضية، تنكشف لنا قضية أساسية تكمن في تضحية الإنسان بعلاقاته الشخصية وحياته النفسية من أجل الإبداع، ومن ثم يتم دفع الثمن بأعلى سعر.
تبدأ الرواية بتسليط الضوء على الشخصية الرئيسة، "أحمد علي"، الذي يبدو للوهلة الأولى ضحية لخيانات زوجته "غدير" مع صديقه المقرب "ياسر الغنّام". ولكن سرعان ما تتكشف طبقات متعمقة للشخصية التي لا تُظهر تلك الصورة المبدئية إلا كجزء من فقاعة تختفي عند الغوص في أعماق الشخصية، حيث تتحول الخيانة إلى نتيجة منطقية لما فعله أحمد بحياته وحياة زوجته. إنه رجل يسعى لخلق عالمه الخاص من خلال الكتابة، وفي سبيل ذلك، يتلاعب بالآخرين. في ذلك، يعكس أحمد علي إحدى أكبر قضايا الرواية: هل الإبداع مبرر لتدمير النفس والآخرين؟ وهل يمكن للكاتب أن يكون محايدًا في رؤيته لعلاقاته الشخصية؟
تعتمد الرواية على تقنية السرد المتعدد الأصوات، وهو الأسلوب الذي يعكس تعددية الرؤى والتفسيرات المختلفة للأحداث. كما يتضح من العنوان، "كل ما أعرف"، والذي يُترجم جملة عامية مصرية تُستخدم عادةً بعد أن يروي الشخص جزءًا من قصة، مما يوحي بتعدد الآراء والوجهات التي تنبثق من كل سارد. هنا، يقدّم كل راوٍ رأيه فيما يخص الأحداث التي تدور حوله. لذلك، تتحول الرواية إلى فسيفساء من الأصوات التي تمثل كل واحد من الشخصيات، مما يعطي القارئ فرصة للتعرف على وجهات نظر متعددة حول الحقيقة.
تظهر "غدير" زوجة أحمد علي في شكل الضحية أولاً، مع تبرير خيانتها بزواج يعاني من التفكك العاطفي والفكري بسبب هوس زوجها بالكتابة، وتبدأ الرواية في الكشف عن كيف أن "أحمد" كان السبب في دفع "غدير" نحو الخيانة، حيث كان يُعطي الكتابة أولوية قصوى على حساب العاطفة والمشاعر الإنسانية. تصبح شخصية "غدير" مركزًا لفهم العلاقة بين الزوجين، وتكشف عن تناقضات الكتابة لدى "أحمد". ففي أحد المقاطع المؤثرة، تقول "غدير" إنها كانت مجرد "فأر تجارب" في يد زوجها الذي جعل منها شخصية ضمن روايته، واستخدمها في تجاربه الأدبية، حيث تعتقد أنها كانت مجرد أداة لتحقيق طموحاته الأدبية. تفتح هذه التبريرات المتبادلة المجال لتساؤل فلسفي أعمق حول الحدود بين الإبداع والأنانية.
يستمر السرد عبر الشخصيات الأخرى، حيث يتناوب كل راوٍ في تقديم وجهة نظره حول ما يجري. هناك "ياسر الغنّام" الذي أصبح جزءًا من حياة "أحمد" وزوجته، لكن لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن كل شخصية تُقدّم رؤيتها الخاصة للأحداث بناءً على خلفيتها الاجتماعية والنفسية. وعلى الرغم من تعدد الأصوات السردية، فإن الرواية في النهاية تكون خاضعة لما يمكن تسميته بـ"الراوي المتكلم"، حيث يبدو أن الكاتب هو الذي يوجه الأحداث بشكل غير مباشر، مما قد يُضعف بعض الشيء التعددية التي سعى إليها قطب.
مع تقدم الرواية، يكتشف القارئ كيف أن كل هذه الشخصيات تتداخل لتخلق شبكة من الصراعات النفسية التي لا تقتصر على الخيانة الزوجية، بل تشمل الرغبات والطموحات التي تدفعها الشخصيات نحو اتخاذ قرارات مدمرة. تنكشف جوانب من شخصية "أحمد علي" الذي بدأ كضحية ليجد نفسه بعد فحص عميق أكثر كجانٍ، حيث إن تركيزه على الكتابة والنزاع الداخلي الذي يعصف به يؤديان إلى فقدان كامل للمسؤولية تجاه علاقاته.
يكشف تطور الحبكة البوليسية عن عمق الكارثة التي عاشها "أحمد علي". عندما ينكشف تورطه مع عصابة لتهريب الأموال، يتحول هذا العنصر من الحبكة البوليسية إلى مشهد مأسوي في سياق الرواية، حيث يبدأ الموت في الظهور كنتاج لما زرعه "أحمد" في حياته. تُختتم الرواية بمأساة كبيرة تُعرض في صورة موت "أحمد علي" على يد العصابة، بينما تجد "غدير" نفسها أمام مخطوط روايته، وهي تقرر نشره باسمها في فعل انتقامي من "أحمد" الذي حولها إلى مجرد أداة في سياق إبداعه. تُعمق هذه النهاية المأساوية من السؤال الذي تطرحه الرواية حول تأثير الكتابة والإبداع على الشخصيات الحقيقية.
في نهاية المطاف، تبرز "كل ما أعرف" كرواية عن صراع الإنسان مع نفسه، حيث يصبح الإبداع سلاحًا ذا حدين. بين السطور، ينكشف التساؤل المركزي حول ماذا يحدث عندما يتغلب طموح الكاتب وحبه لعمله على علاقاته الإنسانية؟ هل يمكن للكتابة أن تكون مبررًا لتحطيم الآخرين؟ هذه هي الأسئلة التي لا تقدم الرواية إجابة حاسمة عليها، بل تدع القارئ يغوص في أعماق النفس البشرية ليستنبط الجواب بنفسه.
الرواية، بذلك، تعكس نظرة عميقة في الطبيعة البشرية، وتستعرض بأسلوب سردي معقد وصادق المدى الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان في سعيه وراء الإبداع، حتى لو كان ذلك يعني التضحية بكل ما هو إنساني في سبيل هدفه الخاص. في النهاية، يقدم علي قطب عملًا فنيًا يعكس المأساة الإنسانية في ظل واقع معقد، كما يثير العديد من الأسئلة التي تبقى مع القارئ طويلاً بعد الانتهاء من القراءة.