حازم حسين

الانتقال ولعبة توزيع الأدوار.. عن التناقض الوهمى بين الإعمار والإصلاح فى سوريا

الأربعاء، 08 يناير 2025 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ما تزال الاشتباكاتُ حاضرةً فى شمال شرقىِّ سوريا، وخلال الأسبوع الجارى أسفرت عن نحو 100 قتيل فى غضون يومين فقط. وما من أُفقٍ لانحسارها فى القريب، بينما تتنازعها رؤيتان من مشكاةٍ واحدة: الإدارة الانتقالية فى حديثها عن المُصالحة واحتواء بقيّة المُكوّنات الوطنية، والميليشيات المُوالية لتركيا فى سلوكها بشأن إزاحة قوات قسد، وإنهاء سيطرتها على مناطق الحُكم الذاتى.

يُدعَى الأكرادُ لتسليم أسلحتهم، ويُهدّدهم الجارُ الشمالى بالدفن معها. وكلاهما محاولةٌ للتطويع بوسائل مُختلفة، فإمَّا أنْ يُوقِّعوا عقدَ الإذعان بهدوءٍ مع دمشق، أو  يُجبَروا عليه بخشونةٍ من الأناضول. ومهما قِيل فى وحدة الأراضى السورية، ونَبذ الانقسام والفيدرالية تحت أيّة لافتةٍ أو مُبرِّر؛ فليس الحلّ إطلاقًا فى أن تُدار المسألةُ بالاحتيال أو القوّة العارية، ولا أن يُستعان فيها على الداخل ببندقيّةٍ من الخارج!

نارُ الأبديّة البعثيّة طالت الجميع بمن فيهم العرقيّةُ الكُردية، والهواجس تسلَّطت عليهم تجاه المُختلفين دون فرزٍ أو تصنيف. القوميّةُ العربية أورثتهم تهمشيًا لا يُمكن إنكاره، والطائفية العَلَويَّة سحقتهم مع بقيّة المُنسحقين. صارت لديهم مخاوفُ عميقةٌ مُتجذّرة، كما لهم حقوق ضائعةٌ أيضًا، وعلى سُلطة الانتقال أن ترى الصورةَ من كلِّ زواياها، وأن تتصدَّى لها بموازنةٍ دقيقة بين ما للناس وما عليهم؛ إذ ليس شرطًا أن يُبنَى الوطنُ العَفىُّ على أنقاض طوائفه، كما لا سبيلَ لصحّة البدن انطلاقًا من إعلال سائر الأعضاء.

تصلحُ المُنازعة الدائرة شمالاً؛ لتكون مدخلاً إلى قراءة المشهد السورى الراهن، واستشراف ملامح الحقبة الانتقالية ما بعد إطاحة الأسد. تلاقَى الناسُ جميعًا على غاية الخلاص من النظام؛ لكنَّ طرفًا بعينِه أدارَ الخصومةَ على مستوى أعقد، حلّ فيه الوجود الكُردىُّ غريمًا ثانيًا؛ فما عادت الجولةُ الأخيرة من الحرب الأهليّة استكمالاً لثورةٍ شعبية بطابعٍ سياسى وطنى، إنما توسَّعت لتصير حركةً أيديولوجيّة تُعبّر عن طيفٍ واحدٍ، وتنتمى لجزءٍ من الكُل، ولو رفعت عنوانًا مُشتركًا مع بقيّة الأجزاء.

انطلقت الهجمةُ من إدلب. وليس تفصيلاً عابرًا أنها انقسمت على نفسها، أو بالأحرى كانت انطلاقتين فى وقتٍ واحد: هيئة تحرير الشام تقود عملية «ردع العدوان» باتجاه حلب وما بعدها إلى العاصمة، وفصائل الجيش الوطنى السورى إلى الشرق بعنوان «فجر الحرية». وبالنظر لنقطة البداية، ووحدة الراعى، ومُواصلة التنسيق بين الطرفين؛ فإننا إزاء معركةٍ واحدة قُسِّمَت على اثنتين، والقسمة ليست اعتباطيّةً على الإطلاق.

ساعةُ الصفر تُؤشِّر لغرفة عمليّاتٍ واحدة، أو قائدٍ أعلى مُشترك. والفلسفة المضمَرة أنَّ مناطق الإدارة الذاتية فى الشرق لا تقلُّ خطرًا عن النظام فى القلب والساحل؛ ولو كانت على خلافٍ عميقٍ معه مثل الآخرين.

وإذا كان الحديثُ عن انفلات السلاح؛ فإنّ الخطّة لم تشمل فصائل الجنوب ولا بعض الميليشيات السنيّة المُوالية للولايات المتحدة شرقًا، وإن على التمايز الطائفى فقد جنّبت دروز السويداء. وغالبُ الظن أنها لعبةٌ عِرقيّة، تنبعُ من أجندة العثمانية الجديدة وحساباتها؛ بأكثر مِمَّا تخصُّ السوريين فى مشهدهم الجديد.
عِلّةُ التقسيم أنَّ صاحب القرار لم يُرِد ربطَ الهدفين ببعضهما، ولا تحميل «الجولانى» مسؤولية استمرار القتال وإراقة الدم على ضِفّتى الفرات. تنطوى الخطّةُ على تدرُّجٍ فى التكتيك والاستراتيجية، بحيث ينفُذُ الفصيلُ الأقوى إلى قلب العاصمة، ويتوسَّد مقعدَ القيادة النظاميّة، بينما تتواصلُ أنشطةُ رديفِه الأقل حجمًا والأكثر ارتباطًا بأنقرة، فتتأمَّن له الحماية من السلطة الانتقالية، بينما لا تكونُ الأخيرةُ مُحمّلةً بأعبائه، ولا مُلتزمةً بالبحث عن مخارج آمنةٍ، مع انتظار أن تجنى المكاسبَ فى الحالين: يُسلِّم الأكرادُ لها طَوعًا، أو تأتيها الميليشياتُ الحليفة برؤسهم على أسنّة الرماح.

واللعبةُ على هذا الوجه، صيغةٌ من توزيع الأدوار المُعتاد بين الجماعات الأصوليّة. تشدُّ إحداها الحبلَ؛ فترخيه الأُخرى، ولا تنقطع شعرة معاوية. وما يُدلِّل على هذا؛ أنَّ «الجولانى» تحدَّث عن «قسد» بالاسم والصفة، ولم يأت على ذِكر الحرب الدائرة أو طرفها الآخر. دعا إلى إلقاء السلاح ودَمْج الفصائل فى الجيش، بينما يُرجئ النظرَ فى عصابات الجيش الحُرّ المُنتدبة لمهمَّة صاخبةٍ فى الشمال.

ولا يُعبِّر الصمتُ عن رخاوةٍ إزاء ميليشيا كثيفة العدد وعالية التسليح؛ إنما يَنُمُّ عن التزامٍ مفروضٍ عليه من سيِّدهما المُشترك، وحدودٍ مَرعيّة ولا يُسمَح بتخطّيها فيما يخصُّ الدورَ المرسوم لكلٍّ منهم فى المسرحية الجارية. إذ على «الجولانى» أن يُتَمِّم ابتلاعَ تركة النظام الساقط، وعلى شُركائه الآخرين أنْ يُنظّفوا بقيّة المسرح من المُناوئين، أو المُنافسين المُحتمَلين.

والعقلُ المُدبِّر يُؤسِّسُ خطّتَه على بواعث عِدّة، أوّلها أنَّ وجود الأكراد يُشكِّل خطرًا عميقًا على العثمانية الجديدة، لا فى أجندتها الامبراطورية المُعدّة للمستقبل؛ إنما فى سلامة القلب الصلب للمشروع، من جهة إذكاء الحماسة العِرقيّة لدى بقية أضلاع المُربّع الكردىِّ فى تركيا والعراق وإيران؛ والأخطر أنَّ «قسد» محميّة بمظلّة أمريكية.

أمَّا الأهمّ؛ فأنّ بقاءَ قوّتها على حالها الراهنة بمثابة عقبةٍ مُؤجّلة فى طريق أىِّ تصوُّرٍ لهندسة المشهد السورى الجديد، وابتلاع الدولة أو إعادة تركيب النظام على وجهٍ يُناسب طموحات الأُصوليّة السنيّة البازغة حديثًا.

أُطِيحَ النظامُ فعلاً؛ لكنها أسهلُ تفصيلةٍ فى المهمّة. سيكون على الإدارة الانتقالية أن تتلاعب بالجغرافيا والزمن، وأن تشتغل على تطويع البيئة الاجتماعية بكلِّ صخبها وتنوُّعاتها، واستيلاد تركيبة حُكمٍ تسمح للجولانى أو من ينوب عنهم بأنْ تكون لهم اليَد العُليا فى مستقبل البلاد. وعاجلاً أو آجلاً سيقعُ الصدام؛ والفارق كبير بين أن ينحصر فى مواجهةٍ بين حاكمٍ ومحكومين، ميليشيا ومدنيِّين، وأن يدخل على الخطِّ فصيلٌ مُتماسكٌ وجاهزٌ لامتحان الحَسم بالقوّة.

لو انتفضَ الشارعُ اليومَ أو فى القريب، فما زال خزّان النظام القديم مُمتلئًا، وبقايا الميليشيات الإيرانية، وفائض القوّة المخبوء لدى بعض القوى والتيارات.
ورشة الاحتواء وتصفية التركة نشطةٌ للغاية، ولن يطولَ الوقتُ قبل إتمام السيطرة على شطر الشام العريض؛ لتتبقّى المُعضلة الكُبرى مع القوّة الكُردية بهُويِّتها الصلبة وقُدراتها المُتقدّمة.

وإلى ذلك؛ فبإمكانها أن تكون قوّةَ التصدِّى والمُقاومة حال انكشاف نوايا الجولانى، أو استفحال تناقضاته مع الشعب وعموم القوى الاجتماعية والمدنية، وهنا لا سبيلَ لتنقية الأجواء وتأهيل البيئة الداخلية للوريث الجديد؛ إلّا بعد تغيير التوازانات القائمة، أى بعد كَسر «قسد» وإخراجها من المُعادلة تمامًا.

سيكون على قوات سوريا الديمقراطية أن تختار بين أمرين؛ إمّا أن تُلقى سلاحَها دون مُقاومةٍ أو تحمله إلى جيش الجولانى الجديد وفقَ شروطه. المطلوب الآن أن تُردَع وتتقلّص مساحاتُ نفوذها، ماديًّا بحرمانها من عوامل القوّة، ومعنويًّا بإنهاء أىِّ ظلٍّ سياسى أو فاعليّة إداريّة لديها فى مناطق سيطرتها.

الخيارُ بين أن تتصلَّب حتى تُهزَم، أو تلين وتتلوَّن لأجل أن تنجو؛ والمُحصّلة أن تكون خارج الصورة تمامًا، أو تأتى للتوافق من موقع التابع لا الشريك.

تستغلُّ السلطةُ المُؤقّتة تضارُبَ الرُّؤى والمشاعر لدى السوريين، وضيقهم من حصيلة العقود الأسديّة بما أورثتهم إيّاه من طائفيّةٍ وانقسامٍ وتخوينٍ مُتبادَل. تُراهن على ضيق الناس من الفرز باللون والاعتقاد، ومن دعاوى المُحاصصة وشبهات الفَدرَلة والتقسيم.

وهُم فى هذا ينطلقون من عنوانٍ صافٍ؛ ليُدبِّروا مَتنًا لا يخلو من المآخذ والتناقضات. يضربون التنوُّع من ثغرة العَرقَنة والتطييف، ويختصمون تعدد الألوان؛ لأجل اختزال المجال العام بكامله فى لون واحد.

النمذجة الجارية على صعيد الورقة الكُردية، يُمكن تضخيم مقياسها وعلاقاتها لاستشراف ما يُعَدُّ لبقية الأوراق والمكوّنات. لعبة تقسم الأدوار بين السياسة والسلاح هناك، يسهل أن يُعاد إنتاجها فى صورة أقل خشونة هنا، ليقول الجولانى ما يُطمئن، ويفعل وزراؤه ما يُثير القلق والانزعاج.

وبينما يُبَشَّر الرجل بالحوار الوطنى، تتواصل إجراءات هندسته تحت الطاولة، وفى زحام الوعود بالبناء القويم للنظام، تتمدَّد مُهلة الانتقال لأربع سنوات كاملة، بما يكفى لتطبيع المؤقت والاستثنائى، وسرقة الأحلام من عيون أصحابها رويدًا رويدًا.

بهذا؛ تصير كل الشعارات البرّاقة حمّالة أوجه، ومُوجبةً للتوجس وإثارة التساؤلات على كل أشكالها. صحيح أن البلد فى حاجة إلى الإجماع، ومن الخطر البحث فى تقاسم السلطة قبل إعادة تكوينها على قاعدة سليمة؛ إلا أن البديل المُقترَح عن هذا أن تُحتكر لصالح فصيل واحد، وأن يُمكَّن بكل سُبل الفاعلية وقوّة المؤسسات، من تثبيت دعائم أيديولوجيته فى أركان الدولة ومفاصلها، وبدلا من أن تكون شريكًا مُتقدِّمًا فى مسار التأهيل، تصير وصيًّا مُهيمنًا على العملية فى تعريفها ومُنطلقاتها ومُحدِّدات إدارتها ظرفيًّا وعلى المدى الطويل.

تحتاج سوريا إلى مظلّة جامعة؛ لكن التماسك المطلوب ليس معناه بالضرورة أن تُستبَعد بقيّة الأطياف تماما، ولا أن يجرى تلزيم مقاولة الهدم والبناء لتيَّار مُغلق على نفسه. فى هذا ما يُجنِّب البلد فتنة الانتقال بكل مخاطرها، من السيولة والانقسام وغياب القرار، إلى تفريع القضايا وتخليق المنازعات وإطالة فترة النقاهة والتعافى.
والواقع أن المطروح يميل للفرقة على حساب الإجماع: يُديرُ مهمة تصفية البعث بصورة رديئة لا يغيب عنها الثأر خارج القانون، ويستعجل تعديل المناهج الدراسية قبل ما يتقدَّم عليها من أولويات، ويصدم الجمهور المُتحمَّس بأنهم باقون على تلك الحال لسنوات مقبلة.

خطاب الجولانى مُفاجئ بكل المقاييس، ولم يكن أكثر الناس تفاؤلا يتوقع أن يتفوّه بكل ما جاء على لسانه؛ لكن الكلام هواء يتطاير فى الهواء، والرجل ما زال مربوطًا إلى حجرٍ أُصولىٍّ ثقيل، لن تتبدَّل هيئته أو يتخفف من كتلته الضاغطة لمجرَّد أنه شذّب لحيته وارتدى بدلة أفرنجية ورابطة عُنق.

وبعيدًا من جدليّة الأقوال والأفعال؛ فإن ما يتوجّب عليه إعلانه صراحة، والتدليل عليه بكل الصور الممكنة، أن سوريا لا تحتاج لصيغة عقائدية فى سُلطتها المؤقتة، مهما حاولت التحلُّل من النزعة الصاخبة فى خطابها، أو أنكرت حقيقة جذورها الرجعية العميقة، وتلبّست أقنعة المدنيّة وزايدت على المدنيِّين.

سيطول أمد الدستور كما أوضح دون مُداراة؛ لكن البديل أن يتوافق مع دائرة ضيّقة من القوى الوطنية على وثيقة إعلان دستورى مؤقتة، وليكن عبر اللجنة التحضيرية للحوار الوطنى بعد توسيعها وضبط التمثيل فيها. إذ لا معنى للإدارة دون نصٍّ واضح ومُلزِم؛ إلا أنها صارت مَلكيّة أوتوقراطية بشرعية غير شعبية؛ ولو لفترةٍ محدودة، لكن مهمّة الأطر الناظمة لمراحل الانتقال أن تُقيِّد المؤقت، بقدر ما تسعى لبناء الدائم، حتى لا تُبنَى المرافقُ على تشوّهات عميقة، أو يصير العارض مُقيمًا، وينتقل هامش الحاضر إلى متن المستقبل.

الوثيقةُ ستُنظم السلطة وهياكلها؛ إنما لن تخترعها من العدم. الواقع أن الدولة فى أشدِّ مراحلها سيولة، وبعد سقوط نظام أبدىٍّ عَمَّر عقودًا طويلة، لا تخلو اليوم من سلطة ومؤسسات. الواجب أن تُحَدَّ الصلاحيات بحدود، وأن تتأسَّس الأبنيةُ على قواعد واضحة. أى أنّ الامتحان فى مَأسَسة المرحلة، وهو امتحان عصىّ على الإنجاز من داخل طيفٍ واحد، أو فى غيبة التمثيل العادل والمتوازن لأصحاب الحقوق جميعًا، على تنوّعهم واختلافهم.

أُنجزت عملية تفكيك المؤسسات؛ لكنها سطَّحت الدولة إلى نقطة الصفر، ولم تُرشَّح بدائل مُقنعة أو صالحة للتطمين فى معناه العميق. تحدَّث الجولانى عن انتهاء الخصومة الطويلة بمجرَّد إسقاط النظام، وعن الانتقال من الثورة إلى الدولة؛ لكنه يتعثّر عمليًّا فى رسائله، مع استمراره فى استمراء الشرعية الثورية والتعيُّش عليها، وإخفاء الدولة وراء الميليشيا حتى الآن.

وإذ تتقدَّم الأخيرةُ بالسلاح وقوة الأمر الواقع؛ فلا يمكن أن تبزغ الأولى إلا من الميثاقية والتوافق، ومن التوصل إلى شرعيّة تمثيلية مُباشرة، وعلى أُطر حقيقية من القبول الاجتماعى الواسع، شريطة أن يكون حُرًّا ووفق أدوات سياسية طبيعية.

ليس مطلوبًا بالقطع أن يذهب إلى الانتخابات اليوم، ولا أن يطرح نفسه على بطاقة التصويت قبل أن تُبنَى الصناديق أصلاً. شرعيّة التمثيل يُمكن أن تتحقَّق مرحليًّا بالجلوس إلى طاولة واحدة، ورضاء الجمهور عن الحوار الوطنى مثلاً كفاعلية جامعة، لتكون شرعية الحالة النقاشية دليلاً على مقبولية المرحلة كلها، وينتقل الاعتراف بين المتحاورين والهيئة الانتقالية، جيئة وذهابًا، وفى عملية تبادليّة تّغذّى كل منهما الأخرى، فلا يعود مُمكنًا أن يُدار المشهد بمعزلٍ عن أطرافه، ولا أن يُسحَب الاعترافُ من الداعى طالما يلتزم بأُصول التشاركية وواجب الضيافة.

الانتقالُ ليس عبورًا من بشّار إلى الجولانى أو أى بديل آخر، ولا ينحصرُ فى انتزاع لافتة البعث وتثبيت الهيئة أو ترك المكان من دون عنوان. تتّسع المسألةُ فى الفهم الصحيح لتشمل تصفية الحسابات القديمة على قاعدةٍ واضحة، وإنهاء المُنازعات العالقة، ومُصالحة المكوّنات على بعضها، بِمَن فيها دوائر النظام القديم نفسه.
وعليه؛ تشملُ العملية إغاثةَ الناس وإعاشتَهم، بأهمية انشغالها بتركيز هياكل الإدارة المُؤقّتة، ودون انصراف عن العدالة الانتقالية وتفعيل المواطنة الكاملة، وهى صيرورة دائمة لا تقبل الإرجاء تحت أى ظرف؛ ولو كان الثورة.

يصعُب الحديثُ عَمَّا يُريده السوريون؛ إذ لا يُمكن اختزالهم فى تيّارٍ، ولا فى رسالة هُنا أو اعتراضٍ هُناك. وقد تمتدُّ صعوبةُ الإحاطة للشعب نفسه، وهو فى بقايا مرحلةٍ مُرهقة، ويدخل مخاضًا لم تتّضح معالمه بعد.

الأغلبيّة ستتحدَّث عن العناوين العريضة: الوطن والقانون والتعافى والمستقبل الحُرّ؛ لكنّ الوصفةَ الدقيقة قد تغيبُ عنهم، والطريق إليها لم تُرصَف بعد، أكان فى الوجهة والإيقاع، أم مجرّد الوعى بها والإلمام بتفاصيلها المأمولة.

يحتاجُ المُجتمع إلى إعانةٍ عاجلة. والجولانى يُقدِّم الاقتصاد على السياسة، وهذا ما قد يُعجب العوام فى الأمد القصير؛ لكنهم سيكتشفون سريعًا أنّ الإعاشةَ لا تغنى عن المُكاشفة، ولا تُبدِّد الهواجسَ الراسخة، كما أنه لا تعارُض فى فلسفة إعمار الدولة بين أجزائها الصلبة والناعمة، أى تأهيل البيئة والمرافق والخدمات، وترسيم ملامح النظام السياسى وسلطة الحُكم.

الإرجاءُ ليس بريئًا من الغايات المُضمَرة، والتناقض بين المسألتين محضُ وَهمٍ خالص، لا يتولَّد عنه إلّا تعطيل الانتقال، أو إطالة الآجال بما يسمح مستقبلاً بالهيمنة والابتلاع.

جُمِعَ السلاحُ وما زال، وتُواصل مراكزُ التسجيل استقبالَ المُهمّشين والنكرات من دائرة النظام القديم. ما طُرِح إلى الآن كيف تُدار العلاقة مع ملايين وقعوا فى قبضة الأسد قهرًا أو اختيارًا، وكيف تُصَفَّى الإِحَنُ العميقةُ دون تهوينٍ أو تهويل، وبما لا يُبرّئ مُجرمًا أو يجور على برىء.

العدالةُ الانتقاليّة هُنا مدخلٌ ضرورىٌّ يتقدَّم على كثيرٍ من الأولويات، وفى ضوء الفحص الدقيق والاعتدال فى المُقاربة والتقويم، على أن تُوضَع المصالحةُ على قدم المساواة مع المُساءلة، ويُفتَح البابُ للاعتراف والاعتذار وفقَ برنامجٍ مرسوم بدقّة، من المُسامحة إلى العفو المشروط والدمج والعقوبات المُقنَّنة؛ ليعرف الداخلون إليه ما سيقع على عاتقهم، بعيدًا من الهوى والمشاعر الشخصية وإرادة الحاكم ومندوبيه.

واجبُ الضحايا أن يتشاركوا فى توثيق معاناتهم، وفى بناء ذاكرةٍ وطنية جماعيّة لِمَا طالهم فى أزمنة البعث والعائلة الأسديّة؛ إنما بما لا يُبقيهم تحت رحمة المُخلّص المزعوم، أسرى للماضى ومعزولين عن الحاضر، ويقبلون السىء لمُجرَّد أنَّ السابق كان أسوأ. مهمّة التوثيق ليست إثارة الأسى والبكاء على الأطلال، ولا العِظَة والاعتبار على المستوى الشخصىِّ بما أَلَمَّ بالسلطة الراحلة؛ إنما أن تُعالجَ المحنةَ من جُذورها، بما يمنعُ تكرارَها، ويُؤسِّسُ بديلَها المُقترحَ على أوفق الأُسُس وأكثرها عدالةً واعتدالا.

الأسدان، والدًا وولدًا؛ كانا فرعين على جذرٍ واحد، والدودةُ فى أصل الشجرة. فارقُ الأشخاص يُغيِّر العَرَض لا المرض، فيكون البطش محسوبًا فى حالة حافظ وطائشًا مع بشّار، والتحالفات مُنضبطةً بشىء من الندّية أو مُتورّطةً فى الاستتباع الكامل.

لكنّ العُقدة كانت فى البعث وخطابه، وقد أورث العراقَ ما لا يختلف عن سوريا. والقَصد ينصرفُ إلى الفكرة لا الكيان، بمعنى أنّ الأيديولوجيا أنتجت الحزبَ بعِلّاته الخفيّة والظاهرة، وما يحلّ بديلاً عنه اليوم يتدثّر بعقيدةٍ أشرس وأشدّ تناقضًا، ولا يُمكن افتراض أنّ تحدّيات الشام الموروثة ستذوبُ مع حُكمٍ أُصولىٍّ؛ هذا إذا لم تستفحل وتتضاعف حدّتها.

تبدأ قصصُ الحب والعلاقات الدافئة بوعودٍ وتطمينات، ويتجمَّل فيها الناس، ثم تنتهى أمام المحاكم. أفضل ما لدى الجولانى يُقدّمه اليوم؛ بكلِّ ما يظهر فيه من رومانسيّةٍ أو ثغرات؛ أمّا الأسوأ فإنه للأسف لم يأتِ بعد.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة