عادل السنهورى

زمن عدوية (4)

الأربعاء، 08 يناير 2025 08:01 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

المفارقة والمفاجأة فى حالة أحمد عدوية أن المثقفين اختلفوا عليه فقد هاجموه وانتقدوه نهارا وأحبوا الاستماع إلى صوته ليلا، أو كما قال الموسيقار محمد عبد الوهاب إن عدوية هو المطرب الذى يسمعه المهمّشون فى العلن، والمثقّفون فى الخفاء..!

فبدون الحاجة إلى اعتراف رسمى من النقاد والمثقفين أو أصحاب الإعلام الرسمى به اعتلى قمة الغناء المصرى، وقدم أغانى تجاوب معها ملايين من الجمهور الذى شعر بالملل والضجر من الأغانى الرسمية مع ظهور أزمات حياتية كانت بحاجة لمن يعبر بصدق عن مشاعرها ولغتها ومفرداتها وأحلامها البسيطة وانكساراتها فى زمن الانفتاح وعصر السادات ولمن ينقل الواقع بقبحه وضجيجه فى قالب فنى جميل فيصبح مرادفا لزمن كامل و"عراب" الموجة الجديدة التى مازالت مستمرة.

فرض أحمد عدوية  بلونه الغنائى الجديد والصادم كنقطة اشتباك بين تيارات ثقافية متصارعة لكنه نال استحسان وتعاطف دفاع كبار المثقفين والملحنين والكتاب.

فقد دافع الأديب العالمى نجيب محفوظ عن اللون الشعبى الذى يمثله، فقال إنه يعبر عن المرحلة بكل ما فيها. وأطلق عليه تسمية أو لقب "مطرب الحارة" وكانت تلك التسمية التى أطلقها عليه نجيب محفوظ أصدق التسميات، بل إنها مدعاة لفخره، فقد كانت الحارة المصرية -وما زالت- مصدر الإبداع فى كل المجالات، مع تعالى المثقف اليسارى على العامة، وتعالى أبناء الطبقة الوسطى من المثقفين والصحفيين على البسطاء.

وصف الأديب العالمى نجيب محفوظ عدوية بـ"واهب السعادة" ووصفه كذلك بأنه "صوت شعبى" يجسد حال الناس، وخلال برنامجه الإذاعى "شاهد على العصر"، استضاف الإذاعى عمر بطيشة، أديب نوبل العالمى، ومن بين ما دار الحديث حوله، أزمة الفن والمسرح والسينما والغناء، وإذا ما كانت هذه الأزمات تعد ظاهرة، قال "محفوظ": "نعم، هى ظاهرة ولها أسبابها، ومما لا شك فيه أن الثقافة تعانى من أزمة، جزء من هذه الأزمة لها أسباب عالمية، وهناك أيضا أسباب محلية".

ويوضح "محفوظ": "ومن الأسباب العالمية، أن الثقافة فى العالم تتغير، فبعدما كانت قاصرة على الكلمة المكتوبة وهى الأساس، ظهرت وسائل جديدة مثل الإذاعة والتليفزيون، فتحول الكثيرين من قراء الكلمة إلى مشاهدين، وهو فى حد ذاته أزمة".

وفى لقائه مع مفيد فوزى، يسأله الأخير مندهشا من تشجيعه للفنان أحمد عدوية، عن مقال قصير نشره بعنوان "واهبو السعادة"، ذكر فيه نجيب محفوظ أن أحمد عدوية أحد واهبى السعادة، وهو ما يوضحه لافتا إلى أن واهب السعادة إن كان لا يفيد فهو لا يضر، ويسر مجموعة من البشر، وهو أمر ليس بقليل فى هذه الحياة، فى وقت من الأوقات كان أحمد عدوية هو "المسموع" الأول فهل ينافقه الشعب؟ لا، أحمد عدوية رجل من الشعب يستعمل أساليب وألفاظ شعبية، وصوت خشن شعبى لا يخلو من حلاوة.

ويتابع "محفوظ": سمعت أغنيات عدوية، زحمة يا دنيا زحمة، وسيب وأنا أسيب"
وكانت كل الأغانى التى تبدو حالة عادية لديه ولدى أبناء طبقته، تمثل صدمة لدى جمهور آخر يشهد اجتياح تلك الأغانى للشوارع والمحلات والملاهى والأفراح.

استمراره ونجاحه واعتلاؤه القمة جعل الكثيرون يعلنون رعايتهم له وأنهم من اكتشفوه وقدموه للجمهور، وهو رأى أنيس منصور الذى جهر به فى العديد من المقالات، حيث كان يرى أن أحمد عدوية صوت شجى لكنه لا يقدر موهبته ولا يحافظ على صوته، منتقدا قيامه بالغناء وهو يدخن السجائر فى الكازينوهات، معتبرا أن تلك البيئة غير صالحة للحفاظ على الصوت لما يعج به المكان من دخان، لكنه أيضا كان يرى أن أحمد عدوية موهبة كبيرة ويجب الوقوف بجوارها وتوجيهها وكان دائم الدفاع فى مقالاته عن أحمد عدوية الذى عرف ساحات المحاكم مثلما عرف جمهوره صوته وميزه عن الآخرين، حيث كان عدوية دائم الاتهام بتقديم أعمال وصفت بأنها مخلة.

دافع أنيس منصور عن رأيه فى أحمد عدوية فى الوقت الذى أخفى فيه الموسيقار محمد عبد الوهاب نفس الرأي، وهو ما كشفه أنيس منصور بنفسه، حيث قال إن الموسيقار محمد عبد الوهاب رأيه من رأى أنيس فى كون عدوية صوت شجى ولكنه لا يحافظ على صوته ولكنه لا يريد إغضاب المطربين الآخرين، وهو ما أكده عدوية بنفسه فى لقاء تليفزيونى مع عمرو الليثي، حيث قال إنه كان يسجل فى استوديو ٤٦ وقابل الموسيقار محمد عبد الوهاب والذى عبر عن إعجابه بصوته ونصحه بالحفاظ عليه، وأخبره بأنه يحب أغنية خصر العطار بصوته.

قال عدوية ذات مرة أنه التقى الأستاذ محمد عبد الوهاب أحمد عدوية فى استوديو 46 بالتليفزيون وقال لى صوتك حلو وحافظ عليه، وإنه يحب إغنية خضر العطار.

وحكت الفنانة شريفة فاضل أن الموسيقار محمد عبد الوهاب مع بداية نجاح أحمد عدوية فى نهاية الستينيات، اتصل بها لكى يأتى إلى (كازينو الليل)، فهى صاحبته ونجمته الأولى، قائلًا إنه يريد رؤية عدوية، أراد عبد الوهاب أن يلتقط تفاصيل أكثر عن هذا الصوت صاحب (الكاريزما) الطاغية.

كان عدوية حريصًا على الاستعانة بقامات إبداعية كبيرة مثل بليغ حمدى وسيد مكاوى وكمال الطويل ومأمون الشناوي، وصلاح جاهين، وهانى شنودة وحسن أبو السعود، وإن كانت تجربته تدين بالأساس للشاعر الشعبى حسن أبو عتمان العامل فى مصانع الغزل والنسيج فى المحلّة، والذى منح عدوية مذاقًا شعبيًا فريدًا و"تعابير" مبتكرة وكتب له أشهر أغانيه.

على مستوى المواويل تأثّر عدوية بفنانين شعبيين مثل أنور العسكري، وعبده الإسكندراني، لكنّه أثبت أنّه أحد سلاطين الموال الكبار بحساسية أدائه وجمال صوته.
فى أول لقاء بين الشاعر مأمون الشناوى وأحمد عدوية، قال له الشناوى: أنت ذو بحة لا شبيه لها، ثم قدمه للمنتج عاطف منتصر، الذى قدمه فى تجارب أشرطة الكاسيت، وحققا معا معجزة القبول المدهش لمحبوب الشعب، ومكروه المثقفين، ومطرب البسطاء.

أما البحة التى لفتت نظر الشناوى، فقد حملت مخزون الحزن الذى يأبى أن ينتهى فى حياة تلك الطبقة الهشة، التى تتلاعب بها السلطة والأسعار والزمن، لذلك جاء تعبيره عنها بهذه الموسيقى الصاخبة، والإيقاعات الراقصة، والصوت الذى أصبح مدرسة فى الأداء الغنائى الشعبي، ويعبر عن الفقد بصخب ورقة معا.وقد كتب له مأمون الشناوى أغنية " سيب وأنا أسيب" ولحنها الموسيقار سيد مكاوى وأغنية "روحنا السلاملك قالولنا فى الحرملك".

وينظر الشاعر سيد حجاب إلى عدوية باعتباره نجم الأغنية الشعبية المهمشة، فقبل ظهوره كان هناك غناء شعبى رسمي، أما هو فكان لونًا جديدًا يعبر عن جو شعبى مختلف، وجاءت أغنياته لتحقق ما يسميه "فورم عالمى للأغنية الشعبية من حيث بساطة الكلمات واللحن وقلة عدد النقلات فيه".

ورأى الناقد رءوف توفيق أن الاستجابة المدوية التى وجدها عدوية تعنى أنه صوت كان مطلوبا ومعبرا عن حالة اللا معنى أو حالة «كله على كله» التى كانت عنوان السبعينيات.

لحّن له العملاق بليغ حمدى 5 أغنيات، منها "القمر مسافر" و"ياختى اسملتين"، "قلقونا "و"ياواد يا بنج".
ولحن له سيد مكاوى للفنان أحمد عدوية أغنية «سيب وأنا أسيب»، من كلمات مأمون الشناوي، وكان الشيخ سيد مكاوى مستمتع كثيرًا وهو يلحن له، فكان عدوية رمزًا للفن الشعبي، وخلال لقاء تليفزيونى غنيا معًا أيضًا أغنية «اسأل مرة عليا» للفنان محمد عبد المطلب.وقال الفنان أحمد عدوية، إن الفنان سيد مكاوى هو أول مغنى شعبى أحبه: «سيد مكاوى اختارنى وعملى شغل".

وأطلق عليه الشيخ سيد مكاوى لقب "نجم الأغنية الشعبية الأصيل" وقال عنه إن «الأغنية الشعبية بالنسبة لأحمد عدوية ذات قيمة، وأغانيه كلها الشعبية جميلة جدًا، وبيغنى بطريقة أصيلة»، فغنى الكثير من الأغانى وأحيا المواويل الشعبية.

ولحن له كمال الطويل أغنية على فين كلمات حسن أبو عتمان عام 82 وهى تتر المسلسل  الاذاعى النديم بطولة أحمد زكي.
وجد أحمد عدوية رعاية وترحيبا من عبد الحليم حافظ، أيقونه الستينيات الذى تبادل معه غناء أغنياته فى واحدة من الحفلات الشهيرة. فمن بين الحكايات المعروفة أيضا والتى تؤكد الوجه الآخر لحليم فى علاقاته الفنية هى حكايته مع المطرب الشعبى نجم السبعينات أحمد عدوية.. ففى عام 1973 صدر الألبوم الأول لأحمد عدوية الأول بعنوان "السح الدح إمبو" وقد تخطت مبيعاته المليون شريط وهو أول شريط يتم توزيع هذا العدد غير المسبوق.

آثار ذلك فضول العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ وذهب لسماع هذا الصوت ومعرفة سبب نجاحه الكبير وعرف مكان الفندق الذى يغنى فيه، وجلس فى أحد الأركان البعيدة يستمع إليه وفعلا أعجب العندليب صوته. فعدوية كان صوت لا شبيه له فى ذلك الوقت ولا يقلد أحد. أثناء غناء عدوية. انتبه أحد الحاضرين لوجود العندليب وأذاع أن عبد الحليم موجود فى الصالة... فحدث هرج ومرج وحركة بين الحضور وذهب الجميع لمصافحة حليم والسلام عليه.

أدرك العندليب أن ما يحدث وهو غير مقصود لكنه ليس فى صالح عدوية وأن البعض سيذهب تفكيره أنها إحدى حركات و"مقالب" حليم ضد زملاءه أو ضد كل من يحاول سحب البساط من تحت أقدام نجوميته وشهرته، فما كان منه إلا أن قام وذهب مسرعا وسلم على أحمد عدوية وأثنى عليه، ولتشجيعه أمسك العندليب الميكروفون وجلس على المسرح وغنى إغنية السح الدح إمبو وسط نظرة الانبهار من أحمد عدوية للعندليب والتى تحمل كل معانى الود والعرفان لتصرف العندليب، فما كان من عدوية إلا أن أمسك الميكروفون بدوره وغنى أغنية "خسارة خسارة" للعندليب الأسمر وسط تشجيع العندليب وتصفيقه.
تدريجيا تراجعت نبرة الهجوم على عدوية، وبالتحديد اعتبارا من منتصف الثمانينيات عقب الحادث البشع الذى تعرض له، وتطور النقاش حول ظاهرة عدوية، للبحث فى إمكانياته الصوتية.

والمؤكد أن الإنصاف الذى ناله عدوية بصورة متأخرة لا يمكن فصله أيضا عن تحولات طالت مناهج النقد، فلم يعد هناك تمييز بين الثقافة الرفيعة وبين مايسمى الثقافة الشعبية أو الجماهيرية. كما أن تنامى نفوذ الميديا أدى إلى سقوط خطاب النخبة وبروز الطابع الشعبى بفضل الثقافة التى تنتجها «الميديا» والوسائط الأخرى، لتتسع دوائر الاستقبال ويشمل ذلك كل البشر.

وقد مثلت تجربته الفنية، وفق نقاد وخبراء، مدرسة خاصة فى الغناء لم ينافسه فيها أحد فممن المؤكد أن عدوية يعتبر نقطة فارقة فى تاريخ الغناء الشعبي، حيث استطاع تحقيق النجاح فى ظل وجود مطربين ونجوم كبار أمثال أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، والدليل على ذلك هو أن أرقام مبيعات شرائط الكاسيت الخاصة بعدوية التى كانت تفوق مبيعات هؤلاء النجوم بصورة كبيرة.

 







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة