يعد اختيار عثمان بن عفان خليفة للمسلمين عقب استشهاد عمر بن الخطاب أول انتخاب حر في التاريخ للتوافق على خليفة للمسلمين فقد أبى ابن الخطاب وهو مطعون أن يترك الأمر دون أخذ الحيطة للمسلمين حتى لا ينشب الخلاف بينهم واستبعد ابن الخطاب أهل بيته من الترشيح بحسب ما روي عنه أنه قال بحسب آل عمر أن يُسأل واحد منهم عن المسلمين، وقد حصر عمر الاختيار في ستَّةً من صحابة رسول الله (ص) كلُّهم يصلحون لتولِّي الأمر.
وهم : عليُّ بن أبي طالبٍ، وعثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، والزُّبير بن العوَّام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعاً . وترك سعيد بن زيدٍ، وهو من العشرة المبشَّرين بالجنَّة، لحرصه ، على إبعاد قرابته عن قائمة المرشَّحين للخلافة.
وحدد الفاروق وهو يحتضر ثلاثة أيَّام، لاختيار الخليفة
وأمر الستة أن يجتمعوا في بيت عائشة
ويتشاوروا، وفيهم عبد الله بن عمر حكما فحسب ويصلِّي بالناس أثناء التَّشاور صهيب الرُّوميُّ، وقال له : أنت أمير الصَّلاة في هذه الأيام الثَّلاثة . حتَّى لا يولِّي إمامة الصلاة أحداً من السِّتَّة، فيصبح هذا ترشيحاً من عمر له بالخلافة، وأمر المقداد بن الأسود، وأبا طلحة الأنصاريَّ أن يرقبا سير الانتخابات.
وأخرج ابن سعدٍ بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ : أنَّ عمر رضي الله عنه قال لصهيبٍ : صلِّ بالنَّاس ثلاثاً، وليخل هؤلاء الرَّهط في بيتٍ، فإذا اجتمعوا على رجلٍ ؛ فمن خالفهم فاضربوا رأسه، فعمر رضي الله عنه أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرَّهط ويشقَّ عصا المسلمين، ويفرِّق بينهم، عملاً بقوله (ص) : « من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ منكم، يريد أن يشقَّ عصاكم، أو يفرِّق جماعتكم فاقتلوه ».
و قال عمر لهم : فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم، وثلاثة رجلاً منهم، فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأيُّ الفريقين حكم له ؛ فليختاروا رجلاً منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر، فكونوا مع الّذين فيهم عبد الرَّحمن بن عوف، ووصف عبد الرَّحمن بن عوف بأنَّه مسدَّدٌ رشيدٌ ؛ فقال عنه : ونعم ذو الرأي عبد الرَّحمن بن عوف مسدَّدٌ رشيدٌ، له من الله حافظ، فاسمعوا منه.
وأسند عمر مهمة حماية صناديق الاقتراع إلى أبي طلحة الأنصاريَّ، مع خمسين رجلاً من الأنصار،
ولم يكد يفرغ النَّاس من دفن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه حتَّى أسرع رهط الشُّورى وأعضاء مجلس الدَّولة الأعلى إلى الاجتماع لحسم أمر الخلافة الراشدة.
وعندما اجتمع أهل الشُّورى قال لهم عبد الرَّحمن بن عوف : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم . فقال الزُّبير : جعلت أمري إلى عليٍّ . وقال طلحة : جعلت أمري إلى عثمان . وقال سعد : جعلت أمري إلى عبد الرَّحمن بن عوف . وأصبح المرشَّحون ثلاثةً، عليَّ بن أبي طالب، وعثمانَ بن عفان، وعبدَ الرحمن بن عوف . فقال عبدُ الرحمن : أيكما تبرَّأ من هذا الأمر، فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرنَّ أفضلهم في نفسه، فأسكت الشَّيخان . فقال عبد الرحمن بن عوف : أفتجعلونه إليَّ والله عليَّ أن لا آلو عن أفضلكما ؟ قالا : نعم!
فبدأ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ومشاوراته ، حتَّى فجر يوم الأربعاء الرَّابع من المحرم، وهو موعد انتهاء المهلة الّتي حدَّدها لهم عمر، وبدأ عبد الرَّحمن بعليِّ بن أبي طالبٍ، فقال له : إن لم أبايعك فأشر عليَّ، فمن ترشح للخلافة ؟ قال عليٌّ : عثمان بن عفَّان، وذهب عبد الرَّحمن إلى عثمان، وقال له : إن لم أبايعك، فمن ترشِّح للخلافة ؟ فقال عثمان : عليَّ بن أبي طالب.. وذهب ابن عوف بعد ذلك إلى الصَّحابة الآخرين، واستشارهم، وكان يشاور كلَّ من يلقاه في المدينة من كبار الصَّحابة، وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد، ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاوراته النِّساء في خدورهنَّ، وقد أبدَيْنَ رأيهن، كما شملت الصِّبيان، والعبيد في المدينة .
وكانت نتيجة المشاورات أنَّ معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفَّان، ومنهم من كان يشير بعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وفي منتصف ليلة الأربعاء، ذهب عبد الرحمن بن عوف : إلى بيت ابن أُخته : المسور بن مخرمة، فطرق البيت، فوجد المسور نائماً، فضرب الباب حتَّى استيقظ، فقال : أراك نائماً، فوالله ما اكتحلت هذه اللَّيلة بكبير نوم ! انطلق فادع الزُّبير، وسعداً. فدعوتهما له : فشاورهما ثمَّ دعاني، فقال : ادع لي عليّاً، فدعوته، فناجاه حتَّى ابهارَّ اللَّيل، ثمَّ قام عليٌّ من عنده … ثم قال : ادع لي عثمان، فدعوته فناجاه حتَّى فرَّق بينهما المؤذِّن بالصُّبح.
وبعد صلاة صبح يوم البيعة وكان صهيب الرُّومي الإمام، إذ أقبل عبد الرَّحمن بن عوف، وقد اعتمَّ بالعمامة الّتي عمَّمه بها رسول الله (ص) ؛ وكان قد اجتمع رجال الشُّورى عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين، والأنصار، وأمراء الأجناد، منهم : معاوية أمير الشَّام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، وصاحبوه إلى المدينة.
وجاء في رواية البخاريِّ : ( … فلمَّا صلَّى للنَّاس الصُّبح، واجتمع أولئك الرَّهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين، والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجَّة مع عمر، فلمَّا اجتمعوا ؛ تشهَّد عبد الرحمن، ثمَّ قال : أمَّا بعد : يا عليُّ ! إنِّي قد نظرت في أمر النَّاس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلاً . فقال: أبايعك على سنَّة الله، ورسوله، والخليفتين من بعده . فبايعه النَّاس : المهاجرون، والأنصار، وأمراء الأجناد، والمسلمون. وجاء في رواية صاحب التَّمهيد، والبيان : أنَّ عليَّ بن أبي طالب أوَّل من بايع بعد عبد الرَّحمن بن عوف.
وهكذا تمت البيعة لعثمان بن عفان رضي الله عنه، عن شورى من المسلمين صغيرهم وكبيرهم، وبتوافق وتراض منهم، وبالطريقة التي حددها سلفه عمر، وعليه فإن توليه لأمر المسلمين تم بشكل مشروع لا شبهة فيه، وبانعقاد الإجماع من كبار الصحابة قبل غيرهم على بيعته، ولم تعل أصوات معارضة أو منتقدة لطريقة انعقاد البيعة إلا بعد مرور أعوام على خلافة ذي النورين، وذلك في سياق الأباطيل التي أثارها أهل الفتنة ضد الخليفة، وهذا ما سنعرض له في المقال المقبل بإذن الله