تابع الفريق عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة، معارك المدافع يوم السبت من مكتبه فى القيادة العامة، وفقا للكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى مقاله «الجنود القدامى لا يموتون»، المنشور فى الأهرام 10 مارس 1969، مضيفا: «تابع معارك المدافع يوم السبت من مكتبه فى القيادة العامة، وصباح الأحد ركب طائرة هليكوبتر فى طريقه إلى أحد المطارات الأمامية للجبهة، ثم ركب سيارة عسكرية معه فيها مرافق واحد غير الجندى الذى يقود سيارته، وانطلق يطوف بالمواقع فى الخطوط المتقدمة، يتحدث إلى الضباط والجنود، يسألهم ويسمع منهم، ويرى ويراقب ويسجل فى ذاكرته الواعية، وفى أحد المواقع التقى بضابط شاب، وكانت حماسته للشباب مفتوحة القلب ومتدفقة، وقال له الضابط، ولم يكن هدير المدافع اشتد بعد: سيادة الفريق.. هل تجىء لترى بقية جنودى فى حفر موقعنا؟ وقال رياض، بنبل الفارس الذى كانه طول حياته، وبالإنجليزية التى كانت تعبيرات منها تشع كثيراً سلسة وطيعة على لسانه:« Yes By all means أى: نعم، وبكل وسيلة».
يضيف هيكل: «توجه مع الضابط الشاب إلى أكثر المواقع تقدماً، موقع رقم 6 بالإسماعيلية ،وفجأة بدأ الضرب يقترب، والنيران تغطى المنطقة كلها، وكان لابد أن يهبط الجميع إلى حفر الجنود فى الموقع، وكانت الحفرة التى نزل إليها تتسع بالكاد لشخصين أو ثلاثة. وانفجرت قنبلة للعدو على حافة الموقع، وأحدث انفجارها تفريغ هواء مفاجئاً وعنيفاً فى الحفرة التى كان فيها، وكان هو الأقرب إلى البؤرة التى بلغ فيها تفريغ الهواء مداه، وحدث له شبه انفجار فى جهاز التنفس، وحين انجلى الدخان والغبار كان مازال حيث هو، وكما كان، إلا تقلصات ألم صامت شدت تقاطيع وجهه المعبر عن الرجولة، ثم خيط رفيع من الدم ينساب هادئاً من بين شفتيه، وتنزل قطراته واحدة بعد واحدة على صدر بذلة الميدان التى كان يرتديها بغير علامات رتب، كما كان يفعل دائماً حين يكون فى الجبهة ووسط الجنود، ولم يكن لدى أطباء المستشفى فى الإسماعيلية وقت طويل للمحاولة، برغم أمل ساورهم فى البداية، حين وجدوا جسده كله سليماً بلا جرح أو خدش، لكنها خمس دقائق لاأكثر ثم انطفأت الشعلة، يوم 9 مارس– مثل هذا اليوم 1969».
كان عمره 49 عاما وشهران و17 يوما يوم استشهاده «مواليد 22 أكتوبر 1919»، واختاره جمال عبدالناصررئيسا لأركان الجيش بعد نكسة 5 يونيو 1967، واختارالفريق محمد فوزى وزيرا للحربية، وقاد الاثنان عملية إعادة بناء الجيش لخوض معركة تحرير الأرض.. وينقل هيكل قول فوزى له: «عبدالمنعم ليس له مثيل، لم يكن فى الاستطاعة أن يكون لى رفيق فيما كلفت به غيره».
هو وفقا لمحمود عوض فى كتابه «اليوم السابع _الحرب المستحيلة، حرب الاستنزاف»: «لم يكن ضابطا عاديا منذ بدايته، كان عاشقا للعسكرية المصرية، مؤمنا بأنه لا حياة لمصر بغير جيش قوى يحميها، والجيش القوى الذى يستعد لحرب قادمة وليس لحرب سابقة، يعنى التبحر فى العلم العسكرى، يعنى أن يصبح القائد قدوة بسلوكه وليس بكلماته..لا يقول لجنوده تقدموا وإنما يقول لهم اتبعونى».
ظل طالب علم إلى آخر يوم فى حياته.. يؤكد هيكل: «تعدد مصادر دراساته فى بريطانيا والاتحاد السوفيتى، واستخدامه لأكثر من لغة، الإنجليزية والفرنسية والروسية كلها بطلاقة إلى جانب العربية بالطبع أتاح له فرصة رحبة غير مقيدة.. كان المتتبع لتفكيره يلحظ أشياء كثيرة تتبلور مع كل يوم وتتحدد أكثر: بدأت معرفته بالعالم العربى، وحديثه عنه، وتصوره لإمكاناته، يكتسب دقة وحدة المعرفة المباشرة، وبدأت حساباته لقدرات الجندى العربى والضابط العربى فى كل جيش من الجيوش العربية يعكس صدق التجربة التى تتم بالعمل اليدوى المباشر، ثم بدأ تفكيره الاستراتيجى يرسم الصورة».
كان متذوقا للشعر العربى والموسيقى العربية.. يذكر عبدالتواب عبدالحى فى كتابه «عبد المنعم رياض- نسر مصر حيا وشهيدا»،أنه كان فى زيارة إلى العراق قبل استشهاده بأيام قليلة لحضور اجتماع قادة جيوش الجبهة الشرقية، وأقيم له عشاء فى «كازينو كسرى» ببغداد مساء 6 مارس 1969، وانطلق صوت أم كلثوم من الراديو وهى تشدو برائعتها «الأطلال» مما فرض حالة من الشجن، وتوقف أمام مقطع: «واثق الخطوة يمشى ملكا/ ظالم الحسن.. شهى الكبرياء/ عبق السحر كأنفاس الربى/ ساهم الطرف كأحلام المساء»،وقال: «قرأت كثيرا من الشعر قديمه ومعاصره، ولم أتذوق فى أشعار الغزل أحلى من هذين البيتين».