توجه الكاتب والناقد رجاء النقاش وبصحبته الكاتب والناشر اللبنانى سهيل إدريس إلى الشاعر نزار قبانى فى مكتبه صباح 31 أكتوبر «مثل هذا اليوم» 1967، لاستلام رسالة نزار إلى جمال عبدالناصر «راجع ذات يوم 30 أكتوبر 1967»، وحسب النقاش فى كتابه «ثلاثون عاما من الشعر» عن «دار سعاد الصباح - القاهرة»: «زرته مرة ثانية مع سهيل إدريس فوجدته قد أعد الرسالة وكتبها بأسلوبه الرائع «وقع عليها وأرخها بـ30 أكتوبر 1967» وأخذت نسختين.. أصلية موجهة إلى عبدالناصر، وصورة منها مازلت أحتفظ بها».
يذكر «قبانى» نص الرسالة فى كتابه «قصتى مع الشعر» ومما جاء فيها: «سيادة الرئيس جمال عبدالناصر: فى هذه الأيام التى أصبحت فيها أعصابنا رمادا، وطوقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربى يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية فى الجمهورية العربية المتحدة «مصر» لنوع من الظلم لا مثيل له فى تاريخ الظلم، وتفصيل القصة أننى نشرت فى أعقاب نكسة الخامس من حزيران «يونيو» قصيدة عنوانها «هوامش على دفتر النكسة»، وأودعتها خلاصة ألمى وتمزقى، وكشفت فيها عن مناطق الوجع فى جسد أمتى العربية، وإذا كانت صرختى حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة.؟».
يضيف: «لم أقل أكثر مما قاله غيرى، ولم أغضب أكثر مما غضب غيرى وكل ما فعلته أننى صغت بأسلوب شعرى ماصاغه غيرى بأسلوب سياسى أوصحفى، وإذا سمحت يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحا وصراحة، قلت إننى لم أتجاوز فى قصيدتى نطاق أفكارك فى النقد الذاتى، يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة، وتعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، لذلك أوجعنى يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتى من دخول مصر، وأن يفرض حصارا رسميا على اسمى وشعرى فى إذاعة الجمهورية العربية المتحدة «مصر» وصحافتها، قصيدتى أمامك يا سيادة الرئيس، أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق وبعد رؤية، ولسوف تقتنع برغم ملوحة الكلمات ومرارتها بأننى كنت أنقل الواقع بأمانة وصدق، وأرسم صورة طبق الأصل لوجوهنا الشاحبة والمراهقة، يا سيدى الرئيس لا أصدق أن هذا يحدث فى عصرك.
عاد «النقاش» بالرسالة إلى القاهرة وعرضها على أحمد بهاء الدين رئيس مجلس إدارة «دار الهلال»، وكان النقاش رئيسا لتحرير إحدى مطبوعاتها «الكواكب»، وأخذها بهاء وأوصلها إلى عبدالناصر بطريقته الخاصة، ويؤكد النقاش، أن محمد فائق وزير الإعلام استدعاه بعد أسبوع ليطلعه عليها، ومعها تعليق بخط يد الرئيس بإلغاء مصادرة القصيدة، ورفع أى حظر على اسم نزار أو أى قرار بمنعه من دخول مصر.
يتوقع «النقاش» أن بهاء- أمانة منه- روىالقصة كاملة عند تسليم الرسالة إلى مكتب عبدالناصر، ولهذا استدعاه فائق الذى طلب منه إبلاغ نزار برد الرئيس، وفى مساء ذلك اليوم كتب بهاء رسالة قصيرة إلى نزار بما حدث، وانتهز النقاش دعوة له إلى بيروت من عاصى الرحبانى لحضور افتتاح فيلم «سفر برلك» بطولة «فيروز»، وسافر، وأبلغ نزار رسالة فائق الشفوية، وسلمه رسالة بهاء المكتوبة.
ويرى نزار: «روى لى أحد المقربين منه «عبدالناصر» أنه وضع خطوطا تحت أكثر مقاطع الرسالة، وكتب بخط يده: 1 - لم أقرأ قصيدة نزار إلا فى النسخة التى أرسلها إلىّ، ولا أجد أى وجه من وجوه الاعتراض عليها 2 - تلغى كل التدابير التى قد تكون اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته، ويطلب إلى وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة 3 - يدخل نزار إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد، ويكرم فيها كما كان فى السابق»، ويستخلص نزار من هذا الموقف: «كسر الرئيس عبدالناصر بموقفه الكبير جدار الخوف القائم بين الفن وبين السلطة، بين الإبداع وبين الثورة، واستطاع أن يكتشف بما أوتى من حدس وشمول فى الرؤية أن الفن والثورة توأم سيامى ملتصق»، أما النقاش فيقول: «المعنى الكبير الحقيقى فى هذه القصة هو أن الحركة الثقافية فى عصر عبدالناصر كانت قادرة على أن تحاور وتعارض حتى ولو كان هناك موقف رسمى من قضية ما، وأنه ليس صحيحا أن الكتاب والمثقفين كانوا قطيعا من الأغنام أو مجرد كورس كومبارس يرددون ما تقوله السلطة، وما يقال عن الإرهاب الفكرى فى عصر عبدالناصر لم يكن كله صحيحا، فقد كان مجال الجهاد والاجتهاد أمام أصحاب الأقلام مفتوحا حتى لو كان الثمن عاليا وغاليا».