توجه السفير البريطانى اللورد كيلرن، إلى الملك فاروق الساعة التاسعة مساء فى قصره، واصطحب معه الجنرال «ستون» ومجموعة خاصة منتقاة من الضباط الأقوياء المسلحين تسليحا كاملا يوم 4 فبراير- مثل هذا اليوم، 1942، حسبما يذكر فى الجزء الثانى من مذكراته، ترجمة عبدالرؤوف أحمد عمرو.
كان هذا المشهد هو الفاصل فى حادث «4 فبراير» الشهير الذى أطل من يومى 2 و3 فبراير، ويصفه الدكتور محمد حسين هيكل باشا فى الجزء الثانى من مذكراته قائلا: «من الأيام حالكة السواد فى تاريخ مصر، وفى تاريخ إنجلترا، فى مصر هو يوم يؤرخ الناس به كما يؤرخون بيوم دنشواى 1906، أو بموقعة التل الكبير 1882، أو بضرب الإسكندرية 11 يوليو 1882، أو بمثل هذه الأيام التى لا تمحى ذكراها على الأجيال، بل تبقى وكأنها الكلف الأسود فى وجه الشمس المضىء، أو الخسوف الذى يطمس وجه القمر ليلة تمامه بدرا».
كان هيكل باشا وقتئذ نائبا لرئيس حزب الأحرار الدستوريين، ويكشف الساعات التى سبقت ذهاب «كيلرن» إلى «فاروق»، مشيرا إلى أنهم قبيل الساعة الرابعة عقدوا اجتماعا مؤلفا من رئيسى الشيوخ والنواب، ورؤساء الوزارة السابقين، وممثلى الأحزاب، وأعضاء هيئة المفاوضة فى معاهدة 1936، ويتذكر: «دخل الملك علينا يتبعه رئيس الديوان أحمد حسنين باشا، وألقى علينا رئيس الديوان بيانا باسم الملك، شمل تطورات الأزمة منذ أن بدأت فى اليومين السابقين، التى لم تشهد تنفيذ رغبة السفير بتكليف النحاس باشا بتشكيل الحكومة، لتمسك النحاس بأن تكون وفدية، وليست ائتلافية كما يريد الملك».
اختتم حسنين باشا تلاوة البيان بمفاجأة وهى، أن «كيلرن» قابله وسلمه إنذارا نصه: «إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس باشا قد دُعى لتأليف وزارة، فإن الملك فاروق يجب أن يتحمل تبعة ما يحدث»، يتذكر «هيكل باشا»: «تكلم الملك الشاب الذى لم يكن يومئذ قد أتم الثانية والعشرين، فقال: «دعوتكم لتتداولوا فى الموقف بعد أن سمعتم الآن تفاصيل ما حدث، وأطلب إليكم أن تقصدوا بمداولاتكم إلى مصلحة مصر وحدها، وألا تجعلوا لأى اعتبار آخر حسابا، إننى مستعد فيما يتعلق بشخصى أن أضحى بكل شىء، فلا شىء يعنينى غير مصلحة مصر وكرامتها واستقلالها».
يؤكد هيكل باشا، أن الملك تركهم، ويذكر أن النحاس طلب الكلمة، وقال إنه يود قبل بدء المناقشات أن يذكر أنه ساعة حضر هذا الاجتماع لم يكن يعرف شيئا مما حدث، وجاء ذكره فى الرسالة الملكية، فهو لم يكن يعلم أن الإنجليز طلبوا أن يعهد إليه بتأليف الوزارة، ولا يعلم بهذا الإنذار الأخير، ولم يسمع به إلا وهو فى طريقه إلى القصر كى يشهد الاجتماع، ولا يرفض تأليف الوزارة إذا عهد إليه الملك».
يصف «هيكل» حالة الجميع بعد كلمة النحاس: «سمع الحاضرون عبارات رئيس الوفد المصرى وعلى ثغر بعضهم ابتسامة ذات مغزى، معناها: «يكاد المريب يقول خذونى»، ويرى: «لو أن النحاس باشا لم يكن يعلم شيئا من هذا، لكانت النتيجة المنطقية المترتبة عليه، أنه وقد عرف ما كشفت عنه الرسالة الملكية، فإنه يرفض أن يؤلف الوزارة ولو دعاه الملك لتأليفها».
يضيف: «ساد الصمت هنيهة بعد كلام النحاس، ثم تكلم الدكتور أحمد ماهر باشا قائلا: «إننا نعرف وطنية النحاس باشا وحرصه على استقلال بلاده وسيادتها، وهذا الإنذار ضربة قاضية على هذا الاستقلال، ولا سبيل إلى رد هذه اللطمة إلا أن يرفض النحاس تأليف الوزارة»، يؤكد «هيكل»، أن ماهر توجه بكلامه إلى النحاس قائلا: «أرجوك يا رفعة الباشا، وأهيب بوطنيتك أن تنقذ استقلال بلادك وسيادتها، فأنت الذى تستطيع ذلك وحدك الآن، ولو أنك فعلت لحققت لمصر خيرا، ليس كثيرا على ماضيك ووطنيتك وعلى إخلاصك لبلادك أن تحققه»، يؤكد هيكل: «رد النحاس، بأنه لا علم له بهذا الإنذار، ولا يتلقى أمرا بتأليف الوزارة إلا من الملك».
نصح أحمد زيور باشا بقبول الإنذار «اتقاء ما هو شر منه»، واقترح «هيكل» باشا بقبول النحاس لعرض الملك بتشكيل وزارة قومية فرفض، ويذكر هيكل أن حسين سرى باشا سأل النحاس عن سبب الرفض، فأجاب: «جربت هذه الوزارات غير الحزبية مرة، ولا أريد أن أعود إلى تجربتها»، يؤكد هيكل باشا، أن المناقشات استمرت أكثر من ساعتين، وظل النحاس مصمما على موقفه، ويتذكر: «نبهنا حسنين باشا إلى أن الموعد المحدد فى الإنذار، وهو الساعة السادسة، اقترب، وانتقلنا إلى بحث قيمة الإنذار الفقهية، ورأينا أنه يتنافى مع استقلال مصر وسيادتها ووضعنا فى ذلك قرارا مكتوبا، ووقع عليه النحاس، كما وقع زيور باشا بعد تردد، وحمل رئيس الديوان أحمد حسنين القرار، وذهب به إلى السفارة البريطانية، فلما تجاوزت الساعة السابعة عاد إلينا، وقال إنه سلم قرارنا للسفير، والسفير قال: «سأوافيكم برأيى فى الساعة التاسعة، وقد أبلغكم أننى لا أحضر، وقد أبلغكم نبأ آخر، وانصرفنا جميعا».
ذهب «كيلرن» إلى القصر فى الساعة التاسعة ولم يترك للملك فرصة للكلام، ويكشف فى مذكراته وقائع مذهلة، امتدت إلى اليوم التالى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة