طبيبات وممرضات: نتجرع مرارة الشتات تحت نيران الحرب..فوجئنا بذوينا بين الجثث..والاحتلال أطلق الكلاب علي الجرحى
"أطباء بلا حدود" لـ"اليوم السابع": توفير الحماية للطواقم الطبية فى غزة أمر مستحيل
طبيبة بالمستشفى الإندونيسى لـ"اليوم السابع": أمضيت 46 يوما بالمستشفى..أيام الحصار أشبه بالموت..الاحتلال حول طابق العناية المركزة لمجزرة و"كأنه يوم القيامة"..استشهد 45 مصابًا..احتجزونا أثناء نزوحنا بالمصابين واعتدوا على الأطباء واعتقلوا الجرحى
طبيبة بمستشفى ناصر لـ"اليوم السابع": نجرى العمليات الجراحية على الأرض..تكدس المصابين والنازحين أدى لانتشار الأوبئة..أحتاج أن أقطع 40 كيلومترا سيرا على الأقدام تحت القصف لأرى أسرتى.. تبرعت بيوم راحتى لأساعد زملائى
رسالة الطفل محمد لوالدته (ممرضة): "ماما زعلان منك..صحيت بالليل خايف من صوت المسدس ومكنتيش جنبى لتاخدينى فى حضنك..امته راجعة"؟
ممرضة بمستشفى "كمال عدوان": قوات العدوان حاصرت المستشفى وأخرجت جثث الشهداء من مقابر فناء المستشفى وسحقوها بالجرافات وأطقلوا الكلاب على الجرحى
طبيبة "حامل" بشهرها الرابع: أعمل بالمستشفى طوال اليوم ..ولن أتخلى عن واجبى
طبيبة لـ"اليوم السابع": حوصرنا لأيام فتحول الجرحى لشهداء أمام أعيننا..أجرينا جراحات للمصابين دون تخدير..تلاوات القرآن امتزجت بصرخاتهم لشدة الألم
ممرضة بمستشفى الشفاء لـ"اليوم السابع": ظللت لأسابيع متواصلة أسعف المصابين وفوجعت بعائلتى بين الجثث .. نتجرع مرارة الشتات تحت نيران الحرب
رسالة طبيبة عبر "اليوم السابع": لا تتركوا أهل غزة يواجهون الإبادة.. ساندونا
إحصائيات
205 شهداء من الكوادر الطبية بين طبيب وممرض ومسعف(المكتب الإعلامى الحكومى بغزة)
94 مسعفا يعملون في الهلال الأحمر الفلسطيني في غزة بينهم 24مصابا
21 ألف شهيد و55 ألف جريح فى غزة منذ بدء العدوان حتى الآن (وزارة الصحة الفلسطينية)
22 ألف نازح تقريبا فى مستشفى ناصر ما أدى لانتشار العدوى والأوبئة
صافرات سيارات الإسعاف لا تهدأ على مدار الساعة، تمتزج مع صرخات الجرحى المدوية، وجثث ملقاة على الأرض بجوار آخرين مصابين، ينتظرون على أمل الفوز بفرصة للحياة؛ رُبما يكون حظهم أوفر ممن سبقوها فى طابور الموتى، وبالجهة المقابلة أطباء يجرون عمليات جراحية على الأرض فى الاستقبال والممرات، وكوادر طبية طبع الإعياء الشديد بصماته على وجوههم، يركضون بكل اتجاه؛ محاولين إنقاذ العدد الأكبر من الضحايا؛ بينما سيارات الإسعاف تأتى كل ثانية مُحملة بمصابين جدد.
هذا هو المشهد داخل مستشفيات قطاع غزة، وفى مسرح الأحداث الدامية هذه، يستوقفنا الدور البطولى لفلسطينيات تركن بيوتهن وأسرهن وأطفالهن، واخترن خطوط الدفاع الأمامية مكانًا لهن، سواء كانت طبيبة تداوى الجرحى أو ممرضة تغيث المتضررين من الحرب فى غزة يشاركن بكل ما لديهن من قوة فى إنقاذ الأبرياء، مستعدات للاستشهاد فى أى لحظة فى سبيل تأدية رسالتهن، بينما القلق والخوف على مصير أبنائهن وذويهن، فى ظل انقطاع الاتصالات لفترات طويلة، يزيد عباءً إضافيًا على أجسادهن المنهكة.
على مدى 85 يومًا من القصف الإسرائيلي المتواصل على غزة، كانت الطواقم الطبية فى مستشفيات القطاع تعمل كخلية نحل على مدار الساعة؛ لاستقبال المصابين والجرحى والعمل على إنقاذهم، وكانت الطبيبات والممرضات عنصرًا أساسيًا وفاعلا ضمن الطواقم الطبية فى المستشفيات، بل وشاركن فى حمل المرضى والجرحى على ظهورهن، فكن "مقاتلات" بشجاعة فى ميدان المعركة، ورغم أن مدافع العدوان الإسرائيلى وقذائفه حصدت أرواح 205 شهداء من الكوادر الطبية؛ إلا أنها لم تستطع صد عزيمة مقاتلات "البالطو الأبيض"، ولم تثنيهن مشاهد القتل والحرق، المتواصل فى القطاع منذ السابع من أكتوبر، عن استكمال أداء واجبهن.
فى هذه الحلقة من سلسلة تحقيقات "المرأة الفلسطينية أيقونة المعارك" نسلط الضوء على مساهمة المرأة فى إنقاذ ضحايا حرب غزة.
تحدثنا إلى نماذج منهن ـ رغم صعوبة الوصول لهن بسبب انقطاع الاتصالات من ناحية ولكونهن يعملن على مدار الساعة فى حالة طوارئ ـ للتعرف على تجاربهن عن قرب، والتحديات التى يواجهونها، خاصة أوقات حصار المستشفيات، وهل لا يزال لديهن الإصرار على استكمال المهمة الإنسانية رغم التحديات المتزايدة؟
تحدثنا أيضًا إلى بعض المصادر للوقوف على أهمية مساهمة المرأة الفلسطينية ضمن الكوادر الطبية بقطاع "غزة" منذ اندلاع الحرب، وتفاصيل أخرى حول الأوضاع الحالية بالمستشفيات نطرحها فى هذا التحقيق...
تحديات كبيرة
تقول منظمة"أطباء بلا حدود"، لـ"اليوم السابع" إن عمل الطواقم الطبية فى "غزة"، يواجه تحديات جسام، فى مقدمتها توفير الحماية ، ففى القطاع غطاء "الحماية" أمر مستحيل لأى فئة، ما يجعل تنقل فرق الإنقاذ الطبية من مكان إلى آخر مخاطرة كبيرة فى ظل القصف المستمر، إضافة إلى صعوبة الوصول إلى الميدان وإنقاذ الحالات الحرجة؛ بسبب الوضع الأمنى الذى تفرضه قوى العدوان، وأيضًا صعوبة الحصول على المعدات الطبية اللازمة، وصعوبة توفير المواد الغذائية لعائلات العاملين فى القطاع الطبى؛ حيث تفرض إسرائيل حصارًا على غزة، يُحرم على إثره الناس من الحصول على الكهرباء أو الغذاء أو الماء أو المواد الطبية، هنا فى غزة يحاول الناس البقاء على قيد الحياة في ظروف في غاية الصعوبة.
تواجه "الطواقم الطبية" يوميًا مواقف قاسية ـ تقول "أطباء بلا حدود" ـ فقد تمت محاصرة فريق عمل المنظمة أكثر من مرة ، كما اُستشهد بعض زملائنا، كل يوم نسمع عن استشهاد أحد من الأقارب أو الأصدقاء، ويظل أفراد فريق العمل لأيام كثيرة لا يمكن لأى منهم التواصل مع أسرته، لكن رغم كل المخاطر التى نواجهها لكننا مستمرون فى تأدية مهامنا الإنسانية لآخر لحظة فى حياتنا.
"يوم القيامة" !
"وكأنه يوم القيامة" ! هذا ما قالته هداية زعنون، الطبيبة بقسم الطوارئ فى المستشفى الإندونيسى شمال غزة، حينما سألناها عن مشاهداتها يوم القصف العنيف الذى تعرض له المستشفى الإندونيسى، وهو المستشفى الذى شهدت أروقته أبشع المجازر بحق المرضى والمصابين فى نوفمبر الماضى، قبل أن يتم إخلاؤه.
تروى "هداية" أحداث ذلك اليوم المشؤوم، لـ"اليوم السابع"، والارتباك يغلف كلمات بالكاد تنطقها وكأنها تحاول جاهدة استحضار مشاهد مبعثرة تكدست فى ذاكرتها، قائلةً "كنا نواصل العمل لأيام دون نوم، أمضيت 46 يومًا متواصلة بالمستشفى منذ بداية الحرب، فمع الساعات الأولى للحرب تركت منزلى متوجهًة إلى المستشفى لأكون فى خدمة المصابين، ومنذ ذلك اليوم لم أذهب لمنزلى ولم أرَ أسرتى ـ المكونة من والدى ووالدتى و6 أشقاء ـ وشاءت الأقدار قبل أيام من بداية القصف أن أترك قسم الطوارئ لأداوم فى قسم العناية المركزة؛ نظرًا لنقص الأطباء هناك، وفى يوم القصف عصراً غادرت الطابق لأبحث عن بعض الأدوية التى يحتاجها المرضى، بعد خروجى بدقائق معدودات، شعرت كأن زلزالًا ضرب المستشفى كله، وفوجئنا بأصوات قذائف مرعبة، والأسقف تسقط فوق رؤوسنا، ظلام دامس حل فى المكان، وصرخات المرضى فى طابق العناية الذى تم قصفه كانت أعلى من أصوات القصف، سارعت أنا وزملائى من الأطباء والممرضين لمحاولة إنقاذ المرضى، فأُصبنا بصدمة كادت أن تغيبنا عن الوعى، لقد تحول الطابق إلى مجزرة، سارعنا بحمل بعض المصابين فوق ظهورنا لنقلهم إلى الطابق السفلى، حيث كان القصف مستمرًا على طابق العناية، وفى غضون لحظات تراكمت الجثث فوق بعضها البعض، والأشلاء تناثرت فى كل مكان، كنا نعبر من فوقها لننقل المرضى الذين لا يزالوا على قيد الحياة.
الدكتورة هداية حرصت على رسم البسمة على وجه إحدى الطفلات عقب نجاح علاجها من إصابات نتيجة القصف
تستكمل "هداية" رواية تفاصيل ما عايشته داخل المستشفى فتقول، لـ"اليوم السابع": " كان المشهد مروعًا، تعرضت على أثره لصدمة عصبية لا تزال آثارها بداخلى، كما أُصبت بإصابات عديدة بأنحاء متفرقة من جسدى وأيضا أصيب جهازى التنفسى بسبب الغازات والأدخنة المتصاعدة جراء القصف والحريق، استمر الحصار المدقع من قبل قوات الاحتلال على المستشفى لـ3 أيام مع تكرار القصف من وقت لآخر، كما اعتلى القناصة الإسرائيليون أسطح البنايات المواجهة للمستشفى لقنص أى فرد من الطواقم الطبية يحاول إسعاف الجرحى، وظللنا لأيام لم نتمكن من إخراج جثامين الشهداء بطابق العناية وتكفينهم، وصل العدد 45 شهيداً بينهم أطفال، وظل الوضع هكذا حتى أن بعض الجثث تحللت، ثم تمكنا من إخراجها.
آثار دماء الأبرياء تلطخ حوائط المستشفى الإندونيسى عقب قصفه
انفجرت "هداية" فى البكاء، وهى تقول: "أمضينا أيامًا تحت الحصار أشبه بالموت، بدون أدوية ولا مياه ولا طعام؛ فتحول المصابون إلى شهداء، والجثث كانت تجاور من بقى على قيد الحياة من المرضى والمصابين، واضطررنا إلى إجراء جراحات بدون تخدير، كنا نبكى مع الجرحى، الذين من شدة آلامهم كانوا يتلون آيات من القرآن ممتزجة بصرخاتهم لتعينهم على التحمل، إلى أن جاءت أتوبيسات تابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر لتنقلنا إلى جنوب غزة، وللأسف لم تتوفر سيارات إسعاف لنقل المرضى ذوى الحالات الحرجة، بل فُرض عليهم الجلوس مع النازحين والطواقم الطبية فى الباصات العادية".
قسم العناية المركزة فى المستشفى الإندونيسى عقب قصفه
تُكمل "هداية"حديثها الذى يقطر ألماً، قائلةً: "سلكنا الطريق الذى يدعى الاحتلال أنه ممر آمن للمدنيين النازحين من الشمال إلى الجنوب، ولكن ما وجدناه عكس ذلك تماماً، فبمجرد وصولنا إلى المنطقة الحدودية بين الشمال والجنوب (نت ساريم)، تم إنزالنا من الأتوبيسات تحت تهديد السلاح وخضعنا لتحقيقات استمرت لأكثر من 14 ساعة، لم يرحموا المرضى والجرحى واعتقلوهم، ولم نتمكن من أخذهم رغم أن أوضاعهم الصحية حرجة، كما اعتدوا على زملائى الأطباء والممرضين بالضرب، واحتجزوا بعض الكوادر الطبية، ثم سمحوا للباقين بالمرور إلى الجنوب.
"كانت من أصعب ما مر علىَّ أن أضطر لترك المرضى والمصابين مع قوات الاحتلال دون أى رعاية طبية وأنا أعلم أن مصيرهم الموت"، تقول هداية.
"الآن أستكمل رحلة عملى فى المستشفى الأوربى بمدينة خانيونس جنوب غزة، بينما إخوتى ووالدتى ووالدى مقيمون بعيدًا عنى فى إحدى المدارس بمنطقة الدير، لا أتمكن من رؤيتهم لأن عليَّ التواجد هنا فى ميدان العمل، والاطمئنان عليهم عبر الهاتف "مسألة حظ"، لانقطاع الاتصالات لفترات طويلة".
ممرضات تعتنى بحديثى الولادة
لا تزال "هداية" تعانى نفسيا بسبب ما مرت به من أحداث فى المستشفى الإندونيسى، وتصف تلك المعاناة، قائلة: "كلما حاولت الخلود للنوم، شاهدت شريط الأحداث المروعة أمام عينى، أسمع أنين الجرحى وصرخاتهم بأذنىَّ طوال الوقت، أرى وجوه أفراد من عائلتى وأصدقائى ماتوا بين يدى لعدم توفر مستلزمات العلاج، خاصة أن كثيرين يصلون إلى المستشفى فى حالة متأخرة لتركهم ينزفون لفترات طويلة، ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إليهم، فغالبية عائلتى استشهدت ولاد عمتى وأعمامى وابنة عمى".
"إن ما نعيشه يفوق قدرات تحمل البشر، حتى ما تنقله الصور ومقاطع الفيديو المتداولة من داخل غزة لا يمكنها أن توضح حجم المأساة الحقيقية التى نعيشها فى غزة، والألم الذى نتجرع مرارته لا يمكن أن ينتزع". تقول هداية.
تُنهى "هداية" حديثها بمناشدة للإنسانية: "لا تتركوا أهل غزة يواجهون الإبادة..ساندونا..اوقفوا الحرب".
تترك الأحداث التى تعيشها الطبيبات والممرضات فى غزة آثارًا نفسية، تصفها رحاب برهومة رئيسة جمعية المرأة والطفل بالضفة الغربية، بـ"المدمرة"، مضيفًة أن الطبيبات والممرضات بحكم عملهن ووجودهن في قلب الحدث وتعاملهن المباشر مع المصابين وتكرار مشاهد الاستشهاد أمام أعينهن، قد يصبن بصدمات عصبية عنيفة ونوبات هلع، وهلوسة سمعية وبصرية، وكل هذا يؤثر بالتأكيد على تعاملهن مع أطفالهن وعائلاتهن، فيصبحن غير قادرات على التعامل معهم بشكل طبيعي.
إجراء عملية جراحية لطفل مصاب فى القصف على الارض بمستشفى الشفاء
وفى هذا الصدد قدمت الجمعية منذ اندلاع الحرب، بالتعاون مع مؤسسات أخرى، مجموعة من ورش العمل وجلسات التفريغ النفسي في ظل الوضع الراهن، ودعينا كافة شرائح النساء ومن بينهم الطبيبات والممرضات للمشاركة أونلاين لمن يتعذر حضوره، وهى ورش مجانية من أجل دعم المرأة الفلسطينية التى تتكبد معاناة غير مسبوقة هذه الأيام.
بين مشقة العمل وحرقة الفراق!
"منذ اليوم الأول للعدوان ونحن هنا بين المصابين والجرحى، نعمل لأكثر من 19 ساعة يوميًا دون توقف، وقد نبقى لأسابيع متواصلة فى المستشفى دون أن نرى أبناءنا، الخوف والقلق على مصير عائلاتنا وأطفالنا يقتلنا فى كل لحظة، خاصًة فى ظل انقطاع الاتصالات، حيث لا نتمكن من الاطمئنان عليهم لأيام طويلة، كلما سمعنا أصوات القصف تساءل كل منا بداخله: هل أحد أفراد أسرتى صار شهيدنا ؟ "، هكذا تلخص"مروة محمد" ظروف عملها كممرضة ضمن الطاقم الطبى لمستشفى الشفاء شمال غزة، قبل توقفه عن العمل.
"مروة" أم لثلاثة أطفال، فرضت عليها ظروف الحرب البقاء بعيدًة عن أطفالها لمدة عشرين يومًا متواصلة منذ اندلاع تلك الحرب؛ حيث ظلت بداخل المستشفى، لإسعاف المصابين ومداوة جراحهم، وبعد هذه المدة والتى لم تتمكن خلالها من الاطمئنان عليهم هاتفيًا سوى مرة واحدة، لانقطاع الاتصالات فى شمال غزة، كانت الصدمة الكبرى حينما فاجأتها سيارة الإسعاف بقدوم أطفالها وزوجها ووالدتها ووالدها مصابين إلى المستشفى، بعد أن قصف العدوان البناية التى يقيمون بها.
الكوادر النسائية فى غزة تسعف الأطفال
تقول مروة بأنفاس متقطعة: "كان القلق يمزقنى والخوف يكاد يقتلنى مع كل لحظة أسمع فيها أصوات القصف والصواريخ، وأتساءل: هل صغارى بخير؟ هل عائلتى لا تزال على قيد الحياة؟ وذات يوم، بعد مرور حوالى ثلاثة أسابيع من العمل المتواصل داخل أروقة المستشفى، وبينما كنت منهمكة فى تقديم الإسعافات الأولية لعدد من المصابين الذين وصولوا للتو إلى المستشفى فى حالة خطيرة، فوجئت أن أطفالى وزوجى ووالدى ووالدتى بين هؤلاء، جميعهم استشهدوا خلال دقائق من وصولهم، باستثناء أطفالى الذين كانوا فى حالة حرجة، لم أتمالك نفسى، ولم تستطع قدامى أن تحملنى، فسقطت على الأرض غائبةً عن الوعى لساعات لا أعرف عددها.
طبيبات غزة فى ميدان العمل
تستكمل مروة روايتها، والدموع تغلبها: "استفقت وأنا أصرخ: "فين ولادى؟ فين أمى؟ فين زوجى ؟"..حينما استرددت وعى كاملاً علمت باستشهادهم باستثاء أولادى ، كنت أنظر إلى زملائى الأطباء وأستحلفهم بالله أن يخبرونى الحقيقة، هل لا يزال أطفالى على قيد الحياة؟، لم أصدق أنهم أحياء، إلا بعد أن رأيتهم وضممتهم إلى صدرى.
تستطرد مروة، قائلة "الحمدلله، أطفالى لم يصبهم مكروه وتعافوا من إصاباتهم، وبعد أن أطمأنيت عليهم مع أسرة أحد أقربائنا، عدت لأواصل عملى مع أعضاء الطاقم الطبى".
"سنستمر فى ميدان العمل ما دام هناك من يحتاجون لمساعدتنا"، تؤكد مروة .
بعيدًا عن أهالينا!
"مروة" لم تكن الحالة الوحيدة التى استقبلت أفرادًا من عائلتها شهداءً أثناء قيامها بواجبها فى المستشفى، فهناك العشرات بل المئات من أعضاء الطواقم الطبية الذين فوجعوا بذويهم.
تقول "أروى"، غالبية زميلاتنا عشن صدمة الفقد أثناء العمل، فإحداهن استقبلت جثث زوجها وأبنائها من سيارة الإسعاف، إن هذا تحدٍ كبيرٍ نواجهه جميعًا.
تستكمل أروى حديثها، قائلةً "ليس هذا التحدى الوحيد، لكن البعد عن الأهل وفراق الأسرة، لفترات طويلة دون أن نعرف أخبارهم أو شيئا عنهم، هذا أيضًا تحدٍ مرعب؛ فأنا أعمل بالمستشفى منذ بداية الحرب ولم أرَ أهلى الذين يقطنون أحد ملاجئ النزوح"، بهذه العبارات وصفت أروى البغدادى، ممرضة بمستشفى شهداء الأقصى، تحديات عملها كعضوة فى الطواقم الطبية.
الطبيبات والممرضات فى الصفوف الأولى لإنقاذ مصابى الحرب فى غزة
"جميع أقسام مستشفى شهداء الأقصى وسط غزة اكتظت بالمصابين والنازحين، في الوقت الذي أوشك فيه الوقود في المستشفى على النفاد". تقول أروى.
لقد تسبب النقص الحاد في الوقود وانقطاع الكهرباء، في موت الأطفال في الحاضنات دون أن نستطيع إنقاذهم، كم هى لحظات لا يمكن وصف قسوتها!
قالت "أطباء بلا حدود": إن ما يحدث فى غزة مذبحة بشعة، واستخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق" النقض الأمريكي" الفيتو ضد إيقافها يتناقض بشكل سافر مع القيم التي تتشدق بها الولايات المتحدة الأمريكية ويجعلها متواطئة في هذه المذبحة؛ فمن خلال الاستمرار في توفير الغطاء الدبلوماسي لتلك الفظائع، تؤكد الولايات المتحدة أن حياة بعض الناس أقل أهمية من حياة الآخرين، وأن القانون الإنساني الدولي يُطبق بشكل انتقائى.
استهداف الكوادر الطبية!
رُبما العمل تحت وطأة آلات حرب لا تفرق بين أفراد الطواقم الطبية التى تؤدى واجبها الإنسانى وعناصر المقاومة المسلحة، أشد قساوة على النفس، فهؤلاء يدركون أن السماء قد تُمطرهم، ومن معهم من مصابين بوابل من الصواريخ أو القذائف أى لحظة.
هذا ما تؤكده "رواء جودة"، طبيبة فى أحد المستشفيات بخانيونس، التى عاشت لحظات قاسية ـ على حد وصفها ـ عندما التقت بأسرتها للمرة الأولى بعد غياب استمر لأكثر من 40 يوماً قضتها في إسعاف المرضى وإنقاذ الأرواح في غزة.
"فى تلك اللحظات كنت أراقبهم لأتأكد من أن جميعهم لا يزالوا على قيد الحياة، كنت أفحص أجسادهم بعينى لأطمئن إذا أحدهم أصيب أثناء غيابى، أم كان الحظ حليفهم فلم يدخلوا بعد فى عداد المصابين !"، هكذا وصفت "رواء" لقاءها بأسرتها.
طبيبات وممرضات مستشفى الشفاء يرفعن لافتات رفض جرائم الحرب والإبادة
وتستطرد رواء، قائلًة:" لم أجد والدى بينهم، لم أكن أعلم أنه أُصيب فى إحدى الليالى التى أمطر فيها العدوان منزل جيراننا بوابل من الرصاص ، كان والدى على الشرفة حينما أصابته إحدى الشظايا المتطايرة ، نُقل على إثرها إلى أحد المستشفيات لتلقى العلاج .
تواصل رواء وصف معاناتها: "فى تلك اللحظة توقف الزمن بى وشعرت أن روحى مذبوحة، فلا أعلم شيئا عن والدى الذى يرقد ضمن المصابين فى أحد المستشفيات ، بينما أنا أداوى جروح آخرين فى مكان آخر، شعور لا يمكن للكلمات أن تصفه، إنها مرارة الشتات الذى نعيشه فى غزة تحت نيران الحرب".
ورغم قساوة المشاهد المتكررة بشكل يومى، تُصر "رواء" على الصمود فى ميدان مداوة الجرحى وإسعاف المرضة، مؤكدًة: "هذه رسالتى أمام الله".
يصف الدكتور بشار مراد مدير مستشفى القدس والمدير التنفيذى الهلال الأحمر الفلسطينى لـ"اليوم السابع"، دور المرأة فى المستشفيات، قائلًا: " تتقدم الطبيبات والممرضات الصفوف الأولى للأطقم الطبية، منذ أن اندلعت الحرب وهن يقدمن من التضحيات ما يعجز اللسان عن وصفه، فكثيرات تركن أطفالهن، والبعض منهن تركن أسرهن لفترات طويلة؛ للتواجد فى صفوف مقدمى الخدمة فى المستشفيات، ورغم صعوبة الظروف التى نعمل فى ظلها، إلا أنهن ملتزمات بواجبهن على مدار الـ"24 ساعة".
رسالة طفل لوالدته الممرضة: ماما زعلان منك
ورقةُ صغيرةُ ملقاةُ على وسادة، تحتوى على رسالة بخط بالكاد تقرأها؛ فكاتب الرسالة لم يتجاوز السابعة من عمره، لكن رُبما لم يجد الطفل "محمد" سوى هذه الوسيلة ليخاطب والدته التى تعمل ممرضة بمستشفى كمال عدوان فى بيت لاهيا شمال غزة والذى توقف منذ أيام عن العمل، ولم يراها لمدة أسبوعين، معاتباً إياها على بعدها عنه، بينما يواجه الخوف من صوت قصف باغت المنطقة التى يقطن بها ليلاً، والذى وصفه محمد بـ"صوت المسدس".
رُبما لم يدرك محمد أن والدته تركته لتحارب فى جبهة إنقاذ أبناء وطنه، وأن انتقال والدته من المستشفى للمنزل أضحى رحلة طويلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر؛ فلا يمكن للعاملات في القطاع الطبي بالمستشفيات القيام بهذه الرحلة بشكل يومى، ولم يدرك أيضًا أن تلك الأصوات التى يسمعها صادرة عن أسلحة ومعدات أشد فتكًا من المسدس.
تصف أريج يوسف، التي عملت ممرضة في مستشفى كمال عدوان، معاناتها، قائلًة: "كان وقع الألم على نفسى ونفوس زملائى فى الطواقم الطبية يجعلنا بالكاد نتحكم فى المشرط وقت إجراء الجراحة ، فالضغوط علينا من كل اتجاه جعلت رعشات تسرى بأجسادنا من القدمين حتى أصابع اليدين، كنا نواصل العمل لأيام دون توقف والمحظوظ منا يقتنص ساعة للنوم ، لم نجد فى أوقات كثيرة تخدير حتى للأطفال، ومن المشاهد التى لن أنسى ألمها، صرخات طفل لم يتجاوز عمره الـ8 سنوات، أُجريت له جراحة لبتر أحد قدميه دون تخدير.
تقول أريج يوسف، "استمر العمل بهذه الوتيرة إلى أن جاءت الأيام العجاف، حيث حاصرتنا آلات الاحتلال وقواته لـ8أيام دون رحمة، كدنا نختنق من رائحة الجثث المتناثرة فى كل مكان بالمستشفى، بينما أخرجت قوات العدوان جثث الشهداء من المقابر التى فى فناء المستشفى وسحقوها بالجرافات، وتم إطلاق الكلاب على المرضى، بينما أصابت طلقات الرصاص عددا من الكوادر الطبية.
تستكمل أريج سرد الأحداث، قائلةً:"ظللنا محاصرين إلى أن تم إخراجنا ومن تبقى من المرضى والمصابين، بمساعدة الصليب الأحمر".
تقول هرعت إلى منزلى ، لأرى ابنى ( 7سنوات)،الذى كنت غائبة عنه لأكثر من أسبوعين، فأعداد المصابين والجرحى المتدفقة على المستشفى لم تترك لنا خيارا آخر، فالواجب المهنى والإنسانى حتم علينا الواجب البقاء كل ثانية من وقتنا بين الجرحى ، لإنقاذهم ".
تستطرد أريج، قائلة: "حينما دخلت إلى المنزل وجدت محمد نائما وبجواره رسالة صغيرة يعاتبنى فيها على غيابى عنه ، بينما كان يستيقظ ليلا على صوت القصف والمدفعيات ، دون أن يجدنى لأطمئنه، حيث كنت أضطر لتركته مع والدتى وزوجى، لفترات طويلة ، كتب محمد في رسالته":"ماما أنا زعلان منك..صحيت بالليل خايف من صوت المسدس ومكنتيش جنبى لتاخدينى فى حضنك..امته راجعة"؟.
أخذته في حضنى وانفجرنا في البكاء، حينها استرجعت شريط الأحداث المؤلمة التي عشتها في المستشفى ، ثم اضررنا أنا وأسرتى للنزوح إلى الجنوب، حيث أواصل عملى في المستشفى الأوربي في خانيوس،
تؤكد أريج:"لن أتخلى عن الجرحى مهما كانت المصاعب " .
طبيبات نازحات
تنسج كلمات أميرة قديح، الطبيبة المتطوعة بقسم الطوارئ فى مجمع ناصر الطبى جنوب غزة، مشاهد مؤلمة، حيث تقول: "نضطر لعلاج المصابين فى الممرات على الأرض، بسبب تكدس الجرحى والنازحين داخل المستشفى مما يعيقنا عن عملنا، كما أدى ازدحام المستشفى بهذه الأعداد الكبيرة فى ظل عدم أدوات التعقيم والتطهير لانتشار العدوى حتى بين الطواقم الطبية، إضافة لانقطاع المياه والكهرباء عن المستشفى".
الدكتورة أميرة قديج تباشر عملها فى مستشفى ناصرجنوب غزة
تضيف أميرة، لـ"اليوم السابع"، قائلًة: "اضطررت للنزوح من مدينة غزة إلى مدينة خانيونس جنوبًا، أسرتى بمركز إيواء يبعد عن المستشفى حوالى 40 كيلو مترًا، وأحتاج أن أقطع هذه المسافة سيرًا على الأقدام لأراهم وأطمئن عليهم، وهذا يتعذر فى ظل ظروف القصف، إضافة لظروف عملى طوال أيام الأسبوع، حيث إننى تبرعت بيوم راحتى، لأساعد زملائى الأطباء، فأعداد الجرحى تتزايد كل دقيقة، والعمل فى ظل نقص الأدوات والمعدات يضيف على كاهل الأطباء أعباء مضاعفة".
من الأيام التى لا تنسى ـ تقول أميرة ـ اليوم الذى تعرض مستشفى الولادة داخل مجمع ناصر الطبى للقصف، فقوات الاحتلال لم ترحم الأمهات الحوامل وحديثى الولادة، صارت حوائط المستشفى ملطخة بالدماء والشظايا فى كل مكان، أسعفنا المصابين بكل ما أوتينا من قوة وجهد، لكن طاقاتنا لا يمكن أن توفى باحتياجات هذا العدد الهائل من المصابين، كما أن المصاب الواحد يحتاج إلى عدة تخصصات لتعدد أنواع وأماكن الإصابات .
تؤكد "أميرة"، أن العمل داخل المستشفيات أضحى مخاطرة كبيرة، كالعمل فى ميدان الحرب، حتى سيرنا فى ممرات المستشفى قد يعرضنا لقصف مفاجئ، بالأمس على سبيل المثال تعرض محيط المستشفى للقصف 5 مرات، إضافة للتهديد بالإخلاء بشكل متكرر من قبل الاحتلال، نحن نعمل تحت ضغط نفسى لا يمكن لأحد تصوره؛ ولكن هذا لن يدفعنا لترك المصابين الذين هم فى حاجة لنا، بل إننا أكثر إصرارا على العمل من أجلهم.
حامل ومستمرة في إنقاذ الجرحى..
تقدم "أمانى درويش" الطبيبة في مجمع ناصر الطبي، نموذجا مختلفا للصمود وقوة التحمل ، فهى أم لطفل عمر 4 سنوات، وحامل في شهرها الرابع، ولا تتوقف يوما عن عملها في المستشفى .
أمانى درويش
تقول أمانى: "أنا من سكان شرق رفح، اضطررت للنزوح من رفح إلى خانيونس تحت القصف الإسرائيلي، حيث أننى أقيم حاليا مع والدى ووالدتى في بيت بدون سقف لأنه قُصف في وقت سابق، لكن لم نجد مكانا آخر يأوينا فاضررت للعيش فيه، بينما زوجى لا يزال في رفح، ومنذ اندلاع الحرب أعمل على مدار اليوم دون توقف، فحالات الإصابات لا يمكن حصرها، وتتوافد بشكل مستمر، في ظل نقص في الكوادر الطبية والأدوات والأجهزة الطبية".
تصف أمانى حالتها النفسية، قائلة: "بُعد ابنى عنى يؤلمنى، وأعيش الرعب والفزع طوال الوقت خشية أن يصيبه مكروه، كما أن ما أشاهده من حالات الأطفال الجرحى والحوامل والشيوخ، يجعل قلبى بركان نار، فهذه المشاهد لا تغيب عن أعيننا ، حتى وأنا نائمة أراها، كما أن العمل المتواصل يؤثر على حالتى الصحية، وألجأ للجلوس 10 دقائق فقط كلما شعرت بالإعياء ، لأعود مسرعة لعملى ، سوف أستمر في أداء واجبى ولن أتخلى عن الجرحى ، فأشعر أن كل دقيقة قد تنقذ حياة جريح".
تقول "أمانى":"لدى خوف كبير من الولادة في هذه الظروف القاسية، خاصة أنه لا يوجد مكان مناسب للولادة ، والجو شديد البرودة ، بقول يارب الحرب تخلص قبل معاد ولادتى " .
قدمنا في هذا التحقيق نماذج للتضحيات التي تقدمها المرأة من خلال عملها في المستشفيات ، منذ اندلاع الحرب في غزة، لكن لا تزال هناك عشرات بل مئات النماذج التي لم تتسع المساحة لسرد قصصهن..لتؤكد المرأة الفلسطينية أنها من مجال إلى آخر ستظل تصنع بطولات يرصدها الميدان ويسجلها التاريخ ..
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة