محمد بركة

لقاء مع الله .. يبدأ بفاصل من الرعب!

السبت، 11 أكتوبر 2008 06:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لم يكن القارئ الشيخ مصرياً..
لم يكن صوته يحمل هذا الشجن الذى يعتصر حبه القلب وأنت تستمع إلى الشيخ صديق المنشاوى، أو ظلال الفردوس الأعلى التى تستظل بها وأنت تستمع إلى الشيخ عبد الباسط عبدالصمد، أو مياه التقوى التى تتفجر من بين صخور نهاراتك الصلدة وأنت تحلق إلى السماء على جناح صوت الشيخ محمود البنا..
لم يكن القارئ مصرياً..
لم يحمل صوته الإيمان الفطرى لأساتذة فن تلاوة القرآن الكريم فى مصر، ولا حلاوة نبرتهم الندية، ولا موهبتهم الحاذقة فى الإظهار والإخفاء والترقيق والتفخيم.
كان قارئاً وشيخاً من بلاد ما وراء الصحراء .. صوته زاعق ونبرته حادة، حتى آيات الترغيب تخرج من فمه وكأنها للترهيب!

فى كل مناسبة شبيهة، حين يتم نصب قماش الفراشة وتُرص الكراسى الخشبية بلا أى ذوق، ويصبح "الصوان" جاهزاً، كان "الحاج" حسين يأتى بنفس الشريط، ويضعه فى كاسيت قديم، ثم يأتى بالميكرفون الملفوف ببلاستر ويضعه بجوار الكاسيت لينطلق الصوت عبر السماعات الضخمة، فيهز القرية الصغيرة التى تقبع هناك وسط غيطان الدلتا. أما لماذا إصرار الحاج حسين على هذا الشريط بالذات، فلأنه – ببساطة – لا يملك غيره، كما أنه جاءه هدية مجانية من شاب لم تسعفه لحيته الصغيرة التى ترفض أن تكون كثة فى منحه الوقار الذى أراده، كان الشاب يوزع على الخارجين من صلاة الجمعة فى مسجد القرية نسخاً من شرائط كاسيت لأسماء غريبة على الأذن المصرية ومكتوب على كل نسخة: يُهدى ولا يُباع!

المناسبة هذه المرة كانت حفل توديع 67 حاجاً حسب "الموضة" الجديدة المنتشرة فى القرية والقرى المحيطة، فبعد أن كان توديع الحجاج يقتصر على الزيارات المنزلية وإعادة طلاء المنازل مع كتابة عبارات مثل "حج مبرور.. وذنب مغفور" وربما رسم سفينة أو طائرة، أصبح التقليد الجديد تجميع الحجاج فى مكان يتوسط القرية.
تُعلق الزينات، عشرات اللمبات الخضراء والصفراء الصغيرة التى تضىء وتنطفئ فى لحظة مبهجة أعادته إلى لمحة من ذكريات الطفولة فى هذه القرية التى ودعها قبل عشر سنوات ويأتى إليها فى زيارات متقطعة، متباعدة.

لكن باستثناء اللمبات الصغيرة، لم تعد القرية قريته .. لم تعد مخبأ ذكرياته وفردوسه المفقود للهرب من قسوة العاصمة التى لا ترحم .. إنه ينظر إلى قوس طويل ممتد من البيوت الخرسانية القبيحة التى تحجب الحقول الخضراء، ينظر إلى الترعة التى اختفت بدعوى التحديث لتجرى مياهها فى مواسير ضخمة تحت الأرض، تماماً كما ينظر إلى تلال القمامة وأكوام المخلفات، التى تعبث بها كلاب شريدة جائعة ينظر إلى الوجوم الذى يسكن الوجوه، والأرواح التى علاها الصدأ، للملامح التى نسيت البهجة، يتأمل كل هذا فيشعر أنه هبط فجأة على كوكب غريب فى كابوس واقعى أو واقع كابوسى، وحين يفيق سريعاً يقول: لولاك يا ست الحبايب ما كنت أتيت!

كانت والدته ضمن قائمة الحجاج الـ 67، فى البداية توافد الأقارب على البيت .. لفت نظره الانتشار الذى يصل إلى حد الهوس للخمار بين بنات العائلة اللواتى لم يجتزن عتبة الطفولة بعد! كثيرات لم يتعرف عليهن، لقد جعلهن الخمار والإسدال فى خصومة مع سنوات عمرهن الغض. "فاتن" ابنة أخته، كانت أكثر من صدمها منظره، أراد أن يفتح معها الموضوع لكن سرعان ما تراجع حين عرف من أخته أنها تنوى ارتداء النقاب العام القادم!

كانت "ست الحبايب" كما يحلو له أن يناديها تشرف على اللمسات الأخيرة لحزم حقيبتها الجلدية الكبيرة، استسلمت لنصائح الأقارب بأخذ شنطة بلاستيك مليئة بالطعام، استعداداً لمفاجآت السفر بالباخرة، اصطحبها بأغراضها فى سيارته إلى مقر "الصوان" بملعب كرة القدم الخاصة بجمعية الشبان المسلمين. كان الزحام على أشده، والضجيج بلغ ذروته، والقارئ الشيخ لا يبالى أحد بما يقوله. بحث لوالدته على كرسى خال فلم يجد! حاول أن يستأذن أكثر من شاب ليأخذ كرسى أحدهم، فهم شباب موفورو الصحة والعافية كما أنهم مجرد "مرافقين" لأحد كبار العائلة فى رحلته إلى الأراضى المقدسة، فلم يجد – لدهشته – أدنى مبالاة، وخابت توقعاته حول الشهامة والجدعنة وغيرها من مصطلحات يبدو أنه هو وحده الذى لازال يكترث لها. أحدهم يبدو أنه شعر – الحمد لله أخيراً! – بشىء من الحرج فحاول أن يمنحه بعض العزاء قائلاً: هانت .. كلها دقائق .. ويصل الأتوبيس".
لكن هذا الشاب ظل محتفظاً لنفسه بالكرسى!


وصل الباص الأول بعد نصف ساعة والثانى بعد نحو 40 دقيقة .. باصان سياحيان يتبعان للشركة التى تتولى تسفير هؤلاء الحجاج. استشعر شيئاً من الطمأنينة بسبب المستوى الفاخر لكل باص، ولمح فى عين والدته دمعة فرح فرت هاربة. احتضنها وسار بها، كان ابن عمه قد خاض معركة وضع الحقائب فى شنطة الباص. وحين بدأ العد التنازلى للقاء والدته مع الله فى رحلة إيمانية عبر مكة والكعبة وقبر الرسول "ص" استشعر رعشة وفرحة، فقد عاشت "ست الحبايب" تنتظر هذه اللحظة التى تأخرت بسبب حرصها على "سترة البنات" وزواجهن أولاً.

لكن ما حدث كان خارج العقل وفوق الخيال!

غابة متصارعة من الأيدى والأذرع والسيقان. كوكتيل من الوجوه المستنفرة الغارقة فى العرق والتربص البدائى وقد ارتفع بداخلها منسوب الدفاع عن النفس إلى أعلى مستوياته! الزعيق والشتائم المتبادلة يصم الآذان! كل ذلك لأن كل "حاج" أو "حاجة" جاءت مع عزوتها وأهلها وناسها إلى الحفلة باعتبارها نقطة التجمع، ومن بين الأهل والناس يتقدم من "خيرة" شباب العائلة 3 أو 4 ليدخلوها الباص قبل غيرها!

يحدث هذا بعنف وحشى .. واستنفار بدائى وكأننا أمام طابور يتصارع أمام فرن خبز فى زمن المجاعة .. غاب المنطق والعقل، ونسى الجميع أن كل مسافر له مكانه ومقعده، وهنا عرف لأول مرة معنى كلمة "التدافع" وكيف يلقى العشرات حتفهم أثناء أداء مناسك الحج .. والدته سيدة طيبة، تقترب سريعاً من الستين، لكنها مثل كل أم ريفية أفنت حياتها فى خدمة بيتها وأولادها وزوجها وأهل زوجها تبدو أكبر من سنها بعشر سنوات على الأقل.
هذه السيدة الطيبة أفاق على صوتها .. لا ليس صوتها.. بل "صراخها"، صرخة أطلقتها بعد أن عز الأوكسجين وأنهكها التدافع وهو يحاول بلا جدوى إنقاذها من الغابة البشرية وبالكاد سمع صوتها الواهن المحتج: ياحظى ياحظى .. مش عايزة أسافر! مش عايزة أسافر! هنا جن جنونه،
تحول هو الآخر إلى شىء آخر لا يمت بصلة للإنسانية، شىء أشبه بحيوان جريح يريد أن يحمى فرد عزيز من أفراد مجموعته، وبعد ساعة ونصف الساعة كان جسده منقوعاً بالعرق .. قميصه ممزق .. شعره هائش تماماً، وخيوط حادة رفيعة حمراء ترتسم على رقبته .. كان جالساً على الأرض يلهث .. وهو يشاهد "ست الحبايب" تشير إليه من وراء الزجاج وقد تحرك الباص الأول وتبعه الثانى فى أولى خطواتهما باتجاه لقاء ربانى ينتظره بكل أشواق العمر مسافرون يرفلون فى ثياب بيضاء ويركبون باصاً فاخراً تعلوه راية بيضاء!









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة