كان الله رحيما بالأطفال الرضع الذين ماتوا بعد انقطاع الكهرباء عن وحدة الأطفال المبتسرين بمستشفى المطرية التعليمى، على اعتبار أن من يموت فى مصر "يستريح ، ويريح" ، فكثير من سكان المحروسة يرون الآن أن حياتهم " زى قلتها "، بل إن بعضهم يتمنى الموت ، يأساً من الحياة الصعبة.
المشكلة الحقيقية ، فى رأيى ، ليست فيمن ماتوا ولكنها فى الحقيقة فيمن كتب له النجاة من هذه المهزلة، التى لو حدثت فى دولة غير مصر ، حتى لو فى أدغال أفريقيا لاستقالة بسببها حكومة بأكملها ، لأن الخطورة الحقيقية التى قد لايظهر تأثيرها مباشرة ، هى فى أن خلايا المخ تتلف إذا انقطع عنها الأكسجين، وبقدر طول الانقطاع يكون حجم الضرر .لذلك فمن الأهمية ألا يقتصر التحقيق فى هذه القضية على التسبب فى وفاة عدد من الأطفال ، الأخطر الآن هو فى العاهات التى يسببها انقطاع الأكسجين عن المخ !
ما حدث جريمة تتعدى حدود الوصف، لكنها فى النهاية تجسيد لمجتمع انهار فى كل شىء ، ولم يعد للإنسان فيه قيمة ، فالروح التى كرمها الله ، لاقيمة لها عند طبيب يقول لزميله " كده اتنين باى باى "عند اكتشاف موت رضيعين فى الوحدة وقت انقطاع الكهرباء . تصورت نفسى أبا لأحد هؤلاء الأطفال الذين جاءوا إلى الدنيا ، وتركوها بعدها بساعات، بلاجريرة ، تصورته يذهب إلى بيته قرير العين أن رضيعه الذى تمناه من الله ، وربما استدان لإجراء عملية تخصيب مجهرى ، حتى حملت فيه زوجته وعايشته فى بطنها تسعة أشهر ، وهى تعد الثوانى حتى وضعته ، ثم لكى يخرج من الحضانة لتلمسه بيدها وتتحس بوجهها جلده الرقيق ، وتتنسم أنفاسه . تصورتها وهى تعد نفسها لاحتضانه، وتذهب فى الصباح لربما تسمع كلاما من الطبيب عن قرب خروجه من الحضانة إلى صدرها بعد أن اكتمل نموه ، فاذا بها تسمع خبراً آخر: نعم اليوم يمكنك أن تأخذى رضيعك ليس من الوحدة ولكن من المشرحة ، البقية فى حياتك !!أى حياة تلك التى لاقيمة للروح فيها والإنسان .
أتذكر وأنا فى زيارة إحدى المدن الصغيرة فى جنوب سويسرا قبل عدة سنوات، وكنت أشارك فى تغطية أحد النشاطات الثقافية المصرية، وعلى هامش النشاط أقيمت مدينة ملاهى صغيرة ، ومكان لتزلج الأطفال، وأثناء ذلك ، سقط طفل عمره 12 عاما أثناء اللعب من فوق الزلاجة ، ولم تمض دقائق حتى كانت فى المكان سيارة إسعاف مجهزة ، ومعها فريق مدرب ، أحدهم نفخ مخدة هوائية أحاطت بقدم الطفل الذى كان يتألم بسببها ويبكى وآخر اتصل بأهله وثالث أقام " كردونا " حول المكان لمنع المتطفلين، ولم تمر دقائق أخرى حتى تم رفع الطفل إلى سيارة الإسعاف ، ومع صوت " السارينة " التى أطلقتها سقطت دموعى ،ليس على الطفل السويسرى ، ولكن على حال أطفال مصر .
الصورة عكس ذلك تماما فى مصر ، إهمال فى كل شىء ، وفى كل مكان، ولن تجد موظفا يؤدى عمله على أتم وجه حتى لو كان "إخونجيا" ، فسمة المصرى ألا يتقن عمله. قال لى زميل ذات مرة إنه دائما عندما يغير كاوتش سيارته لابد أن يراجع وراء العامل لأنه لايثق فيه ، أيا كان هذا العامل ، وقلت له إنك "مزودها حبتين"، ومرت الأيام وكدت أن أفقد حياتى أنا وأفراد أسرتى بعد أن نسى صبى الميكانيكى أن يربط صواميل العجل بعد أن فرغ الميكانيكى من الإصلاح. نفس الإهمال الذى وقعت بسببه كل حوادث الطرق المروعة، وحوادث القطارات التى يروح ضحيتها المئات. ستتوقف كل هذا المآسى عندما يستشعر المصرى أن هذا البلد بلده.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة