قال لى بقال حارتنا وهو فى غاية الخجل والارتباك "معلهش يا باشا علبة لبن جهينة بقت بسبعة جنيه". لم أرد عليه واكتفيت بالامتعاض فسألنى سؤالا بدا لى خارجا عن السياق تماما: هى مصر قبل يوليو 52 أحسن ولا مصر بتاعة اليومين دول؟ قلت له أحنا فى أيه ولا فى أيه ياحاج.. خلينا فى حليب جهينة .. قلت لى بقى بكام؟
طاردنى سؤال البقال وأنا فى الأسانسير، طاردنى وأنا أبدل ملابس الخروج بملابس النوم، لدرجة أننى ظللت فى نص هدومى لمدة ساعة، تصببت عرقا وأنا أبحث عن الإجابة، لكننى فى النهاية فشلت فشلا ذريعا، جعلنى أرتكب حماقة غريبة، فقد اتصلت بالبقال وقلت له: بالنسبة للسؤال بتاع الثورة قل لى بصراحة ياحاج أنت عارف الإجابة ولا بتختبرنى؟ بالتأكيد كان الرجل مشغولا مع زبون آخر لأنه رد علىّ بطريقة تكسف: سؤال أيه يا باشا صلى ع اللى هيشفع فيك، وتصبح على خير.
لم أنم تلك الليلة، استعرضت مشوار حياتى الذى بدأ عام 1958، استعدت أحاديث أبى العامل فى هيئة قناة السويس، وهو يقارن بين وضع عمال الهيئة المهين أيام الإدارة الفرنسية ووضعهم المحترم بعد التأميم، تذكرت المدارس والجامعة التى تعلمت بين جدرانها مجانا، تذكرت الفلاحين الذين حولتهم الثورة من أجراء إلى أصحاب أرض ثم أدخلتهم مع العمال إلى البرلمان، تذكرت مئات المصانع على امتداد خريطة مصر، تذكرت كل ذلك وأكثر، فأيقنت أن سؤال البقال غلط، لأنه افترض أن الفترة من عام 52 حتى الآن محسوبة على الثورة، مع أن الثورة انتهت تماما بموت صاحبها، ولم يعد متبقيا منها الآن إلا شيئين: نظام الحكم الجمهورى ونسبة الـ50% فلاحين وعمال فى البرلمان، ومع أن هناك قولين فى هذين الشيئين بعد الحديث عن التوريث، وبعد أن دخل رجال الأعمال البرلمان بصفتى العمال والفلاحين، إلا أننى سأتجاوز وأعتبرهما من البقية الباقية من ثورة جمال عبد الناصر.
لكننى تخيلت عبد الناصر وقد بعث من مرقده ليرى مصر بعد مرور56عاما على ثورة يوليو، وهى على حال أسوأ مما كانت عليه أيام الملك الفاسد والحاشية الخائنة الظالمة والأحزاب العميلة للاستعماروالإقطاع، الذى يلهب ظهور الفلاحين بالكرابيج ورجال الأعمال الذين يمصون دم الشعب، والجهل والفقر والمرض الذى لا يقدر على مواجهته إلا أصحاب القدرة.
تصورت جمال عبد الناصر وهو يبحث عن زملائه من الضباط الأحرار، ليقول لهم ليتنا ما حملنا رؤسنا على أكفنا وقمنا بالثورة، تخيلته سيعتذر للملك فاروق على الطريقة التى أخرج بها من مصر، رغم أن المصريين لم يعرفوا على أيامه عشر العذاب الذى يلاقونه الآن، رأيت دموع جمال عبد الناصر وهى تنهمر لأن الغلابة الذين قامت الثورة من أجلهم، أصبحوا على شفا مجاعة.
لا.. لا تعتذر أيها الرئيس لأحد فما فعلته لمصر لن ينسى، بل إننا نتذكره كل يوم، ونحن نرى الفاسدين والمفسدين وسماسرة الدم وهم يبيعون الوطن قطعة قطعة فى عز الضهر، فلا أحد يوقفهم، ولا قانون يردعهم، لأنهم الأقوى ولأنهم الأعلى ولأنهم الأشرس: هم الذين يسنون القوانين وهم الذين يراقبون أداء الحكومة، وهم أنفسهم الذين جعلوا مصرنا أضعف من أصغر دولة عربية، وأخفت صوتا من دول شقيقة، نحن الذين علمناها الكلام.
نعم يا أخ عادل يابقال حارتنا، مصر والمصريون يوم 22يوليو1952 أسعد وأفضل من مصر والمصريين النهاردة وبكرة وياريت مايكونش بعد بكرة، نعم هناك بنية أساسية وطرق وكبارى وتليفونات أرضية ومحمولة وقرى سياحية بالمئات، وشقق لمحدودى الدخل بمائة ألف جنيه، وهناك فى الوقت نفسه فساد للركب وضرائب تقصم الظهور ومرتبات لا تكفى خمسة أيام فى الشهر ومستشفيات حكومية بدون شاش وسرنجات ومستشفيات قطاع خاص لا يقدر على دخولها إلا الأثرياء، مصر ياحاج عادل فى يوليو الحالى لا تحب الفقراء، وتعتبرهم عبئا ثقيلا ينبغى التخلص منه، لأنهم عايزين يتعلموا ويتعالجوا ويشتغلوا ويكلوا ويسكنوا ويحلموا بمستقبل أفضل لأبنائهم، مع أنهم لا يدفعوا سوى 75% ضرائب من رواتبهم "المحترمة". والوقت يا حاج عادل بعد ماجاوبت على سؤالك، ممكن تعمل لى تخفيض على علبة لبن جهينة .. أنت قلت لى بقت بكام؟!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة