محمود عوض

حال الدنيا..

أحـلام فوق عجــلات.. وتحتها

الخميس، 08 يناير 2009 10:12 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى بحر عشرة أيام من ديسمبر 2008 ،كنت أتنقل بين خبرين، لكل منهما دلالته البالغة فى بلده. الخبر الأول من أمريكا، حيث نجح الرئيس الأمريكى فى تمرير خطة إنقاذ عاجلة لأكبر ثلاث شركات أمريكية لإنتاج السيارات.

والدفعة الأولى فى الخطة تتكلف 17.4 مليار دولار، ستحصل عليها شركتا «جنرال موتورز» و«كرايسلر». وفى خطابه الأسبوعى يوم 19/12 دافع الرئيس الأمريكى عن قراره، بإعلانه أن منح تلك القروض المشروطة لشركات صناعة السيارات، هو من أجل إنقاذها من الانهيار.

فى المقابل خرجت صحف مصرية فى 29/12/2008 بخبر خلاصته أن عمال شركة النصر لصناعة السيارات، قطاع عام، تجمهروا أمام مقر الشركة فى غمرة والورش بحلوان، احتجاجا على «إجبارهم على توقيع استمارات المعاش المبكر، حيث خرج أكثر من 2000 عامل من الخدمة فى أقل من أسبوع واحد، بهدف تصفية الشركة تمهيدا لبيعها».. والوسيط فى ذلك «، أحد رجال الأعمال المشهورين الذى يلعب دور الوسيط لشركة ماليزية كبرى». وقد طوقت قوات الأمن المركزى العمال المتظاهرين، ومنع أمن الشركة دخول العمال بحجة أن الإدارة اعتبرت اليوم عطلة.

وفى محاولة بعض الصحف متابعة ما يجرى وجدت أن المسألة محاطة بتعتيم كامل، وبعلامات استفهام متدافعة. ففى 21 /6 /2008 نفى المهندس أحمد عبد الغفار رئيس شركة النصر للسيارات وجود أى صلة له بمسألة طرح الشركة للبيع إلى مستثمر استراتيجى قائلاً: «ليس لى دخل بالموضوع، وكل شىء متروك للشركة القابضة ووزير الاستثمار».. مضيفا « إن دوره يقتصر فقط على إدارة العمل اليومى بالشركة، وتنفيذ السياسات فقط»، وكشف أن الشركة قامت بعمل إعلانين للمعاش المبكر لعمالها، ولم يتقدم أحد.

ثم فى 6 /7 / 2008 قرأنا خبرا بعنوان «تأجيل بيع النصر للسيارات إلى أجل غير مسمى». فى الخبر أكد زكى بسيونى، رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية، أنه «لن تتم تصفية شركة النصر للسيارات أو تغيير نشاطها حفاظا على عمالها». مع ذلك فما جرى بعدها بخمسة أشهر كان العكس تماما، حيث جرى إجبار ألفين من عمال الشركة على الخروج إلى المعاش المبكر، وتوقف الإنتاج بالشركة تماما، بما يعنى أن الحكومة سواء تنكرت فى شكل شركة قابضة أو وزارة استثمار، قد حكمت على أقدم وأكبر وأهم شركة فى مصر لصناعة السيارات بالموت، استعدادا لتصفيتها أو بيعها، كالعادة بسعر التراب. وهناك حتى من يتلمظ من الآن لوضع اليد على أراضى الشركة واستثمارها عقاريا، فيكسب المليارات، بمثل ما جرى لشركات قطاع عام أخرى سبق خصخصتها.

الفارق بين الخبر الأمريكى والخبر المصرى فى حالتنا هذه، هو فارق بين السماء والأرض. فى الحالة الأمريكية كسرت الحكومة كل المحرمات السياسية والإقتصادية لتنقذ صناعة السيارات الوطنية من الانهيار. أما فى الحالة المصرية، فالحكومة عندنا هى التى تدفع صناعة السيارات الوطنية إلى الانهيار. لكل من الخبرين دلالته العميقة فى إطار بلده ومجتمعه. فإذا اقتصرنا هنا على فتح الملف المصرى، فلأنه يجعلنا نفهم ما يجرى بنا وفينا بشكل عملى. وإذا كانت صناعة الغزل والنسيج مثلا قد توطنت فى مصر منذ إنشاء شركة المحلة الكبرى للغزل والنسيج، فإن صناعة السيارات فى مصر عندما نشأت كان هذا يعنى إدخال صناعة جديدة تماما إلى مصر، وبتكنولوجيا عصرية لا بد أولا من استيرادها. أقصد استيراد التكنولوجيا وليس استيراد السيارات.

وهكذا تضمنت الخطة الأولى لتصنيع مصر، ضمن مشروعات أخرى عديدة، إنشاء شركة النصر لصناعة السيارات، بعد أن تم الاتفاق مع شركة فيات الإيطالية فى سنة 1960 على المشاركة بالتكنواوجيا وبالتدريب فى المرحلة الأولى. وتم تخصيص صحراء وادى حوف جنوب القاهرة، كمنطقة تقام فيها مصانع الشركة الجديدة. والمصانع لا تقتصر فقط على إنتاج سيارات الركوب، وإنما بالأساس إنتاج اللوارى والأوتوبيسات والجرارات الزراعية، باتفاق مع شركات ألمانية وإيطالية فى كل حالة.

فى ذلك الوقت كانت الدولة تحتكر حيازة واستخدام العملات الأجنبية. ولأن مواردنا كلها محدودة، فقد أصبح لازما وضع أولويات لأوجه إنفاقها بما يجمع بين احتياجات الحاضر والاستثمار فى المستقبل. صناعة السيارات فى مصر كانت استثمارا فى هذا المستقبل. لقد توسعت مصانعها فى وادى حوف سنة بعد سنة، لكى تمتد على مساحة 320 فدانا مجهزة بشبكة متكاملة من المرافق. وتضاعفت أعداد العاملين فيها ليصبحوا 13 ألفا من بينهم خمسمائة مهندس، كلهم أصبحوا خبراء فى هذه الصناعة المستجدة، التى تقتحمها مصر. صناعة تمضى على أساس برنامج محدد سلفا لزيادة نسبة التصنيع المحلى سنة بعد سنة.

ففى لوريات النقل والأوتوبيسات مثلا، أصبحت نسبة التصنيع المحلى 98 % حسب المهندس سعيد النجار، رئيس الشركة (1992 ـ1997). وفى سيارات الركوب، أصبحت نسبة التصنيع المحلى 65 %. وبرغم أن الشركة أنتجت حسب تعاقدها مع شركة فيات الإيطالية عدة موديلات من سيارات الركوب (نصر 1100 ونصر 2300 ونصر 125 ونصر 131 و133 ونصر شاهين ونصر دوجان)، إلا أن السيارة نصر 128، أصبحت هى الأكثر شعبية حتى الآن لكفاءتها ورخص سعرها. فحتى سنة 1990 مثلا كان سعرها 5500 جنيه مصرى.

وطوال السنوات الخمس والعشرين الأولى من عمر الشركة، كان يتم بيع إنتاجها من سيارات الركوب بأسبقية الحجز.. مع وضع حصص تخصص لأعضاء النقابات المهنية، من مهندسين ومحامين وأطباء ومعلمين، وهم العمود الفقرى للطبقة المتوسطة فى مصر، الذين ليس بمقدورهم استيراد سيارات فارهة أو فاخرة، لوجود قيود على الاستيراد من جهة، ولارتفاع الرسوم الجمركية من جهة أخرى. وذات مرة وسطنى نجم الغناء عبد الحليم حافظ لدى وزير الصناعة، لعله يعطيه استثناء من قائمة الانتظار، حيث هو يريد أن يهدى لابنة أخيه سيارة مكافأة على تفوقها الدراسى. يومها قال لنا الوزير، إن الحل الوحيد للاستثناء من الدور هو أن يسدد عبد الحليم ثمن السيارة بالدولارات. وفعلا، استعان عبد الحليم بصديق له فى بيروت، ليبعث من هناك بحوالة دولارية إلى شركة النصر للسيارات لشراء سيارة لابنة أخيه.

توطنت إذن صناعة السيارات فى مصر لأول مرة، وازدهرت بحسن التخطيط والإدارة، وزاد من أهميتها أنها تؤدى بالضرورة إلى خلق عشرات وعشرات من الصناعات المنفصلة المغذية، كالبطاريات والإطارات وزجاج السيارات.. إلخ. وكل صناعة مغذية من هذه، تخلق بدورها فرص عمل جديدة وازدهارا إضافيا. أما لو اقتصرنا فقط على شركة النصر للسيارات، فسنجد أنها خلقت فى مصانعها 13 ألف فرصة عمل مرتفعة الأجور، بما يتيح دخلا مناسبا لـ 13 ألف أسرة، بما يعنى 65 ألف مواطن إذا حسبنا متوسط أفراد الأسرة خمسة.

وقد ردت أنديرا غاندى رئيسة وزراء الهند الراحلة ذات مرة على بعض ناقديها القادمين من لندن قائلة: المشكلة التى لاتدركونها، هى أننا كدول نامية لا نستطيع تعويض تخلفنا، ودخول عصر الصناعة بالثمن الفادح الذى فرضتموه أنتم على شعوبكم. فبامتداد جيلين فى بريطانيا، اعتمد دخول عصر الصناعة على عمال بأجورمتدنية وساعات عمل يومية ممتدة كما السخرة وبغير أى قدر من الرعاية الصحية أو التأمينات الاجتماعية وبالطبع بغير إجازات سنوية مدفوعة.. إلخ. نحن فى الدول النامية لا بد مع كل صناعة جديدة نقيمها، أن نوفر ظروفا إنسانية لعمالنا وندبر لرعايتهم اعتمادات تصبح بدورها جزءا من تكاليف الإنتاج، التى تتحملها صناعاتنا الناشئة.

هذا هو بالضبط ما جرى فى مصر فى كل الصناعات المستجدة، وبالعودة إلى صناعة السيارات، كحالة تطبيقية هنا، كان طبيعيا أن تتحمل ميزانية التصنيع اعتمادات لتوفير الرعاية الصحية بما فى ذلك التأمين الطبى الشامل للعاملين وأسرهم. وحسب المهندس عادل جزارين، الذى رأس الشركة لمدة 16 سنة (1968-1984) فإن «الشركة كانت تقدم العديد من المزايا للعاملين بها.... بل وبتشجيع الجمعية التعاونية الإسكانية للعاملين بالشركة، أقامت الشركة مدينة سكنية كاملة للعمال، بعد أن حصلت على الأرض اللازمة فى منطقة وادى حوف. وقد تحولت المدينة إلى حى كامل به جميع الخدمات والمدارس وجامع خاص بها. كما قامت الشركة بإعداد المصايف للعاملين وأسرهم بأسعار فى متناولهم. وباختصار كانت الشركة مجتمعا كاملا» لآلاف العاملين بها المتاحة لهم كل الخدمات التى تضمن لهم حياة آمنة.

كسبت مصر إذن صناعة جديدة، هى هنا مجرد نموذج، فتشكل من مواطنيها عاملون ومهندسون خبراء، بدأوا بتجميع المكونات المستوردة ليصلوا إلى مرحلة التصنيع المحلى بنسبة 65 %، وكسب المستهلك المصرى من الطبقة المتوسطة، سيارة ركوب اقتصادية بسعر يناسب دخله، وقطع غيار مضمون توافرها وخدمات للصيانة متاحة فى أى وقت، وهذا تحديدا عصب أى صناعة سيارات حقيقية.

يضاف إلى ذلك أن هذه الصناعة لم تقتصر على سيارات الركوب، وإنما امتدت بنسبة أكبر إلى الجرارات الزراعية ولوريات النقل والأوتوبيسات، وكل هذا الإنتاج بأسعار تنافسية، حتى على المستوى الإقليمى. هكذا نجحت الشركة فى مرات عديدة فى الفوز بصفقات لتصدير إنتاجها من الأوتوبيسات واللوارى والجرارات إلى العراق وسوريا والكويت وليبيا، بما فى ذلك خمسة آلاف سيارة ركوب إلى العراق، فى وقت كان الإنتاج السنوى للشركة 22 ألف سيارة.

وكان يمكن للإنتاج أن يحقق قفزات أكبر لو أعطتها الدولة فى حينها كل احتياجاتها من العملات الصعبة لاستيراد احتياجاتها من المكونات. من هنا كان تصدير الشركة لجزء من إنتاجها، يتيح لها عملات صعبة تضاف إلى ما تخصصه الدولة، حتى تستمر فى التوسع، وقفزت قيمة إنتاج الشركة من 254 مليون جنيه فى سنة 1982 إلى 364 مليون جنيه فى 2006 من السيارات فقط، وقفزت أرباحها من 16.2 مليون جنيه فى 1969 إلى 43 مليون جنيه فى 1998 بعد سداد عشرة فى المائة منها للعمال حسب المهندس سعيد النجار .

تطرقت إلى تلك التفاصيل لكى أقفز منها إلى الأسئلة المحيرة الآن: كيف تتحول تلك الصناعة الناجحة إلى فاشلة، وأرباحها إلى خسائر وإنتاجها المتزايد إلى التناقص والعمال والمهندسين الخبراء إلى عبء يجب التخلص منه؟ كيف تصبح الشركة التى تعتمد عليها عشرات من الصناعات المغذية الأخرى، محاصرة ومختنقة من الوزارة والحكومة والسياسة، التى بدأت تعتبر أن تصفية كل ما هو قطاع عام هو إنجاز تسعى إليه بكل همة؟

وكما فى القصة الكبرى فى الاقتصاد المصرى، فإن البروفة هنا بدأت مبكرا، ومن صناعة فرعية. ففى سنة 1980 جرى السماح لشركة كلورايد البريطانية بشراء الشركة المصرية لصناعة بطاريات النسر، بحجة الإضافة والتطوير. فى التطبيق اختفت بطاريات النسر، وحلت محلها بطاريات كلورايد بأضعاف أضعاف سعر البطاريات المصرية، مع تحويل الأرباح المستجدة إلى الشركة الأم فى بريطانيا أولا بأول.

والبداية كانت أيضا بتوقف الدولة عن تخصيص اعتماد فى ميزانيتها بالعملات الصعبة، تستخدمه الشركة لشراء الجزء المستورد من المكونات. والبديل الذى فرضته الدولة وقتها، هو أن تقترض الشركة من البنوك التجارية. وحسب المهندس سعيد النجار، رئيس الشركة حتى سنة 1997 فإن «المديونية الحالية للشركة وهى 509 ملايين جنيه، كانت فى الأصل عشرة ملايين دولار، اضطرت الشركة إلى اقتراضها من أحد البنوك فى أوائل الثمانينيات، حين كان سعر الدولار أقل من جنيه ونصف، وعند السداد اشترط البنك السداد بالدولار مع ارتفاع أسعار الفائدة على القروض فى حينها إلى عشرين بالمائة، مما أدى إلى تضاعف المديونية مع قفز سعر الدولار إلى 350 قرشا، حينما بدأ سداد الأقساط، مما دفع بقيمة القرض إلى 200 مليون جنيه».

فلنتذكر هنا أن هذا السيناريو متكرر فى الحالة المصرية، سواء بدأنا بدفع مصر للاستدانة من الخارج، أو انتهينا بدفع شركات القطاع العام الناجحة إلى الاستدانة من البنوك بفوائد تجارية مرتفعة. بهذا وذاك يدخل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، وأمريكا نفسها، على الخط ويبدأ سيناريو دفع الحكومة إلى الخصخصة بمعنى بيع القطاع العام.

وبتعبير مختار خطاب، وزير قطاع الأعمال فى حكومة عاطف عبيد 1999/2004 ، فإنه كان يمضى فى تنفيذ سياسة الخصخصة مطالبا فى نفس الوقت باستخدام حصيلة البيع فى إنشاء شركات جديدة، تضيف إلى التنمية. لكن هذا لم يحدث لوجود تيار فى الحزب الحاكم والحكومة «كان تيارا عنيدا جدا وعنيفا جدا، ضدنا على طول الخط، وللأسف كان هذا التيار هو الأقوى، وكان أفراده يردون علينا بقولهم : هو إحنا نطلع من الباب وندخل من الشباك ؟ وكانوا يريدون أن يختفى القطاع العام وكأنه عدوهم».

وقال الوزير السابق أيضا إن البنك وصندوق النقد الدوليين، هما مع أمريكا، الضاغطون علينا من أجل تحرير التجارة وبيع القطاع العام.وبالنسبة لشركة النصر للسيارات، جاءت الحكومة بشركات استشارية أجنبية، لتضع لها دراسة عن خصخصة الشركة. وكان أول اقتراح من أولئك المستشارين (الأجانب)، هو تقسيم الشركة إلى أربع شركات. وبمجرد أن فعلت الحكومة ذلك، فهم الجميع المغزى، فبدأ الموردون يحجمون عن منح الشركة «تسهيلات مناسبة، وكذلك إحجام البنوك عن فتح الاعتمادات المطلوبة فى التوقيت المناسب، فضلا عن توقف عدد من عملائها عن التعاقد معها».

هكذا بدأ خنق تلك الصناعة الوطنية خطوة خطوة، ودَفع عمالها ومهندسيها إلى المعاش المبكر، فى تفريط مدهش لكنز متراكم من الخبرة، وتخفيض إنتاج الشركة مرة بعد مرة، بحجة أن الأرباح تحولت إلى خسائر، والديون تتزايد سنة بعد سنة.

بموازاة هذا الحصار، والخنق المنهجى للصناعة الوطنية للسيارات، كانت نفس الحكومة الرشيدة، تزداد سخاء مع السيارات الأجنبية الواردة إلى مصر ووكلائها المحليين، الذين أصبحوا أصحاب مصلحة فى توقف الإنتاج المحلى لصالح المستورد. لقد قررت الحكومة مثلا تخفيضا جذريا فى الرسوم الجمركية على السيارات المستوردة، وفى نفس الوقت ضاعفت البنوك الأجنبية فى مصر من إغراءاتها لتشجيع المصريين على الاستيراد، فأصبح البنك الأجنبى يتيح قرضا فوريا حتى مليون جنيه، لمن يرغب فى شراء سيارة مستوردة.

النتيجة قفز عدد السيارات المستوردة إلى مصر من 170 ألف سيارة فى سنة 2006 إلى 230 ألف سيارة فى 2007 ، وربما قفز فى 2008 إلى 300 ألف سيارة. ولو قدرنا فى المتوسط 15 ألف دولار فقط ثمنا للسيارة المستوردة، وهو رقم بالغ التواضع فهذا يعنى أن مصر.. البلد الفقير، المدين، النامى، الذى يعانى شبابه من البطالة المتزايدة.. أصبح يدفع أربعة مليارات ونصف المليار دولار سنويا، لاستيراد السيارات من الخارج، فى نفس اللحظة التى تصفى فيها الصناعة الوطنية للسيارات.

ولكى يتضخم اللغز أكثر وأكثر، فإن التعديلات الجديدة فى قانون المرور، قررت عدم تجديد الترخيص لسيارات التاكسى، التى مضى على إنتاجها عشرون سنة، حتى لو كانت حالتها صالحة. الحجة التى قيلت هى أن استبدال سيارات التاكسى القديمة بأخرى حديثة وجديدة، يضفى على الشوارع المصرية مظهرا حضاريا. لكن التعديلات نفسها سمحت لأول مرة بالترخيص لمركبات التوك توك لنقل الركاب، وهى المظهر الأكثر تخلفا من أى شىء آخر على عجلات.

بل إنه فى نفس اليوم الذى كانت وزارة الاستثمار والشركة القابضة تجبران ألفى عامل ومهندس فى شركة النصر للسيارات على الخروج إلى المعاش المبكر، كخطوة أخيرة لوقف الإنتاج الوطنى، كانت وزارة المالية تدعو 3 بنوك مصرية و4 بنوك أجنبية، لتمويل تغيير 35 ألف تاكسى بسيارات مستوردة جديدة، وبشروط ميسرة وضعتها وزارة المالية، لمن سيتم وقف الترخيص لسياراتهم التاكسى القديمة.

هذا السخاء المفاجىء، لم تقدم وزارة المالية نصفه أو عشره فى أى وقت لتشجيع الصناعة الوطنية. وبدلا منه يتم تبرير إجبار 35 ألفا على استيراد سيارات فورا، باعتباره يضيف مظهرا حضاريا لشوارعنا، وراء الكلمات الفخمة هنا، توجد مصالح ضخمة، مصالح للمستوردين، خدمة لتلك المصالح جرى خنق الصناعة الوطنية للسيارات، ودفع عمالها ومهندسيها إلى البطالة. واستمرارا لتلك السياسة، قرأنا فى جريدة الأهرام( 2 / 1 / 2009) عن تخفيض جديد فى الرسوم الجمركية على السيارات الأوروبية، لتصبح صفرا بحلول سنة 2019. هذا يعنى أنه لم تعد هناك لأى صناعة سيارات أوروبية مصلحة فى توفير وتوطين التكنولوجيا الخاصة بها فى مصر، بمثل ما فعلته شركة فيات الإيطالية مع شركة النصر لصناعة السيارات طوال 48 سنة. تلك الشراكة أدت إلى إنتاج نصف مليون سيارة على الأقل بمصانع النصر للسيارات، وعشرات الآلاف من السيارة فيات 128، التى تسير حاليا فى شوارعنا، هى الدليل الباقى على ماض قريب، استخدمنا فيه عقولنا ومواردنا المحدودة لتنمية بلدنا.

الآن ، وبعيدا عن العقل، أصبحنا نقرأ لوزير المالية عندنا فى زيارة له إلى واشنطون، أنه يؤكد للأمريكيين «أن عملية إصلاح الاقتصاد المصرى غير قابلة للارتداد، والحكومة مستمرة فى تفكيك القدر الأكبر من القطاع العام، الذى يمثل مصدر سياسة الحماية وانعدام الكفاءة».

وأصبحنا نقرأ تصريحا لوزير الزراعة يقول فيه: «الاستثمار فى ملاعب الجولف أفضل من الاستثمار فى الزراعة».وأصبحنا نقرأ لوزير الاتصالات تصريحا ثالثا، يقول فيه: «نعم نسمح لأجهزة الأمن بالتنصت على مكالمات المواطنين».. لأنه «إذا لم نسمح بالتنصت، فلن يأتى إلينا المستثمرون».

هل نستغرب بعد كل هذا، من تزايد الفقر والعنف والبطالة والجريمة فى مصر سنة بعد سنة؟، وأن ترتفع ديوننا الخارجية إلى 35 مليار دولار؟، وأن حكومتنا الرشيدة أصبحت تخصص 52 % من قيمة دخلنا القومى لمجرد خدمة الديون؟.. وكانت لنا أحلام تسير فوق عجلات، فأصبحت العجلات هى التى تسير فوق أحلامنا.






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة