أدعوك معى أن تفكر بهدوء، وتتساءل.. هل للسيدة مريم عليها السلام، إن ظهرت فوق كنيسة الوراق أو لم تظهر، شأن بتراجع دور مصر الإقليمى؟ أو كانت ضالعة من قريب أو من بعيد فى مخطط التوريث؟ وهل هى خطر يداهمنا على الحدود، أو سلعة استهلاكية مهددة بالزوال، ويكوينا ارتفاع أسعارها من آن لآخر؟ وهل لها شأن بما لحق بأبنائنا فى الجزائر وغير ذلك من المصائب التى تداهمنا.. إذا كانت إجابتك "لا" فكلانا متفق أن ظهورها ليس مما يمكن تسميته بـ"قضية رأى عام"، ولا يتطلب أن نجرح حناجرنا بنفيه، أو نجرح آخرين بأقلامنا، ونتهمهم بإثارة الفتن وتبنى مخطط تبشيرى.
قلم إسلامى فى اليوم السابع تعرض لمسألة ظهور العدرا، كما لو أن الأمر فتنة العصر التى يراد بها هدم كل ما هو إسلامى، معتبراً الحدث حلقة ضمن مسلسل التبشير على أرض مصر، حيث انطلق الأستاذ هانى صلاح الدين، على مدار ثلاثة مقالات يدافع عن معسكر الإسلام الذى رأه مهدداً، ناسياً أن الله عز وجل قالها فى كتابه الكريم "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، فلا كتابات الإسلاميين ستؤمن الإسلام، ولا ظهور العدرا يهدد أمة محمد.. وما يشغلنى هنا، هو ذلك الكم الهائل من القلق الذى انتاب أقلاماً إسلامية كثيرة بشكل بدا مسيئاً للإسلام أكثر مما يخدمه.
ذلك الربط ـ المضحك ـ بين الكنيسة المصرية، التى جميعنا يعرف أهدافها ومشروعها، وبين أقباط المهجر، واعتبار أن للجماعة الأخيرة يدا فى الحادث الذى اعتبره الأخ هانى مدبراً، غير قابل للتصديق، فرأس الكنيسة المصرية ممثلاً فى قداسة البابا شنودة له موقف واضح من أقباط المهجر، ولا يسعنا هنا سرد الوقائع التى تزيد من شأن الرجل.. فلا هذا مكانها، ومهما قلنا لن نؤتيه حق قدره.
من المهجر إلى صعيد مصر.. كان انتقال الأخ هانى بالقلم سلساً، معتبراً أن ظهور البتول مؤامرة ليست فقط من صنيعة أقباط المهجر، بل جاءت للرد على حوادث الفتن التى تقع فى الصعيد ومختلف أقطار مصر.. وهذا الربط لا يدفعنى سوى للتساؤل: إذا كان الظهور مدبراً، لما لم يحدث فى أماكن الفتن الطائفية، ولماذا وقع اختيار فئة المدبرين، على القاهرة فى أحياء الوراق وشبرا.. بل أيضاً لماذا اكتفى هؤلاء المدبرون بإظهار الحمامات فى حى شبرا دون إظهار العدرا، مع العلم أن تعداد الأقباط فى شبرا يفوق كثيراً تعدادهم فى الوراق!
مطالبة الكنيسة الأرثوذوكسية بالرد رسمياً على الواقعة أمر يضعها فى حرج هى فى غنى عنه، والإسلاميون يعلمون ذلك قبل الأقباط، وفى تقديرى يظل عدم التعليق أعلى درجات الحكمة، لأنه سيفتح سيلاً من الهجوم لا يستحقه الأقباط على أرض مصر، فى حال تأكيد الواقعة.. وفى حال النفى سيصدم قطاع عريض منهم، من أولئك الذين كفروا بكل ما هو على الأرض وعلقوا آمالهم على الحل السماوى، وهم كثر.
الدفاع عن الحق فى التعبير، والاستناد إلى أن ظهور العدرا قضية "رأى عام"، أمر يدعو للإحباط.. فالأخ هانى قيادة صحفية ننتظر منها صناعة الرأى العام قبل أن تتفاعل معه، لكن هذا لم يحدث.. ومع التسليم بأن الأمر يمس الرأى العام فإن التعامل معه لابد وأن يراعى حدود اللياقة، فألفاظ مثل "السذج"، و"ألاعيب"، و"صبية الليزر" تجرح أكثر مما تناقش، وتهدم أكثر منها تبنى.. وهنا اختلف السعى عن القصد، وسبحانه وحده يعلم ما تضمره القلوب.
كذلك فإن اعتبار أن الظهور له ارتباط وثيق بمخطط التبشير، أمر يضع المسلمين فى حرج ويدينهم أكثر مما يدين الأقباط، فإذا كان التبشير داخلياً أى من الأرثوذوكس إلى غيرهم من المذاهب الأخرى.. فهذا شأن لا يعنينا، ويتعلق بأقلية وأقلية متناهية.. ومثل هذه الأمور لا يمكن وصفها بـ"قضايا الرأى العام". أما إذا كان التبشير متعلقاً بالفعل بالمسلمين، ويسعى إلى التنصير، فتحريمه إن كان صحيحاً، يقتضى أيضاً التحفظ على الدعوة، والله عز وجل جنبنا كل هذا اللغط فى قوله الكريم "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".. ومن دفعه ظهور العدرا إلى اعتناق المسيحية فالمسيحية أولى به، ولا يعنينا من أمره شيئاً، ومثل هذا لا يعد سوى خانة ديانة ـ محل اختلاف ويطالب البعض بإلغائها ـ فى بطاقة رقم قومى.
ختاماً أود أن أؤكد أن تعامل الأقباط مع ظهور العدرا ـ الذى لم أره ـ كان حضارياً، ولم يقترب من محظورات قانون الطوارئ فى مصر، فلم تقع أى مصادمات طائفية، ولم يكن لأعمال التخريب أو المساس بالممتلكات العامة أو الخاصة أى وجود. كما لم يجرح أحد مشاعر ملسمى هذا البلد، ولم يبادر أى منهم بدعوة أى مسلم إلى اعتناق المسيحية بحجة أن مريم ظهرت فوق كنيسة، ومن هنا فلا داعى لجرح أناس يشاركونا مياه النيل الذى نشربه ـ بزبالته ـ وكان أولى بالأخ هانى بدلاً من أن يدعو قداسة البابا شنودة إلى سؤال الشفاء من العدرا التى ظهرت أو لم تظهر بدلاً من السفر إلى أمريكا.. أن يدعو له بالشفاء، ويتذكر أنه منع فريضة مسيحية حفاظاً على مشاعر مسلمين هذا البلد قبل أقباطه.
إذا كنت مسلماً ويؤرقك كثيراً ظهور العذراء على رأس كنيسة، فأنت قطعاً تعانى شكاً يراودك من آن لآخر فى معتقداتك وثوابتك، وتخشى أن ينتهى بك الأمر عند تصديق الواقعة.. حينها ربما تكون حقاً فى أزمة أمام نفسك. أما إذا كانت تلك الشكوك جزءا من مكوناتك وتلازمك كظلك.. فلا تتردد فمثلك ـ كما قلت ـ ليس أكثر من خانة ديانة، ووجودك تحت راية الإسلام لا يضيف، وخروجك من تحتها لا يخل والله ينظر إلى القلوب وليس تحقيق الشخصية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة