◄الوزراء لا يعرفون شيئاً عن معاناة أسيوط وسوهاج وطنطا والمحلة.. والدولة خذلت شعب السويس الصامد من أجل تنمية سيناء المحررة
◄المواطنون خارج القاهرة ليسوا إلا كومبارس لسكان العاصمة وأصبح المغربى وزيراً لإسكان القاهرة والعادلى وزيراً لداخلية المدينة الأم أولا
أستأذنكم فى الكتابة عن القاهرة.. وأهل القاهرة.. وسبب الاستئذان وحاجتى إليه هو أننى لن أكتب عن القاهرة كواحد من سكانها.. لن أتهم القاهرة بالقبح والفساد والعشوائية ولن أساير الهوى الوطنى الزائف والدائم فأقسم بأن القاهرة هى الأجمل والأحلى فى العالم.. وإنما سأكتب عن القاهرة التى أرادوها ولا يزالون يريدونها اختصارا لمصر كلها.. لا تقوم الدنيا ولا تقعد فى مصر إلا من أجلها.. فكل ما تشكو منه القاهرة يتحول إلى وجع لمصر كلها لابد أن يدفع ثمنه المصريون جميعهم.. أما أوجاع باقى المدن فى مصر.. فكأنها لم توجد أصلا إلا لتملأ الصحف اليومية بعض مساحاتها الفارغة.. وليجد ما يتحدث عنه كثير من الساسة والموظفين والمسئولين الكبار فى الزيارات الرسمية أو المناسبات والأعياد.. وعلى شاشات التليفزيون والفضائيات.
وبالرغم من ذلك.. بالرغم من تلك المزايا الهائلة والخرافية التى تنعم بها وتختص مدينة القاهرة دون سائر مدن مصر كلها.. لم يحدث مرة واحدة أن كانت القاهرة وحدها هى من تدفع ثمن أى خطأ أو خطيئة.. أى هزيمة أو انكسار.. أى فوضى أو فساد أو جنوح ومغامرة.. وإنما تقاسم المصريون كلهم فاتورة الحساب.. كل مدينة.. وكل قرية فى مصر.. وجدت نفسها تدفع حصتها إما راضية أو مرغمة.
واليوم.. يجيئنا المسئولون الكبار.. ويملأون الدنيا حديثا وصخبا وضجيجا حول القاهرة وتطورها وشكلها عام 2050.. المهندس أحمد المغربى وزير الإسكان.. اللواء عبد السلام المحجوب وزير التنمية المحلية.. الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمرانى.. كلهم وكثيرون غيرهم لم يعودوا يتحدثون إلا عن القاهرة عام 2050.. وعن الرفاهية التى ستتوافر فيها.. المواصلات التى ستغدو مريحة والطرق التى ستمتد والخدمات التى ستقدم والعشوائيات التى ستختفى والحياة التى ستتغير.. حتى كأنك تصغى وتتابع كل ذلك فتشعر أن المغربى بات وزيرا لإسكان القاهرة، والمحجوب من الأصل وزير لتنمية القاهرة، والمدبولى مهموم بالتخطيط العمرانى فقط للقاهرة وضواحيها وزواياها.. وأن مصر كلها.. أو مصر الأخرى.. لا تزال فى حاجة لوزير للإسكان ووزير للتنمية الإدارية وهيئة للتخطيط العمرانى.. بل وتحتاج مصر الأخرى فى حقيقة الأمر لحكومة أخرى بكامل الوزارات والسياسات التى لابد منها لأية حكومة فى أى بلد.. وكان نفس هؤلاء المسئولون ومعهم حازم القويضى محافظ حلوان الحالى هم الذين نشطوا واجتهدوا مؤخرا مهمومين بتخفيف بعض أعباء القاهرة فقرروا خلق محافظتين جديدتين هما حلوان والسادس من أكتوبر بدعوى أن ذلك كان ضرورة.. وهو القرار الذى جرى تسويقه للناس تحت زعم أن القاهرة تضخمت إلى أقصى حد ممكن بحيث لم تعد تصلح محافظة واحدة لأن تصبح مسئولة عنها وعن أهلها وما يحتاجونه من خدمات.. وهل بهذا المنطق الساذج يمكن أن يفاجئنا أحد فى الغد بأن مصر التى كان فيها وزارة واحدة للداخلية وعدد سكانها عشرين مليونا.. باتت تحتاج لثلاث وزارات للداخلية بعدما زاد عدد السكان إلى سبعين مليونا.. فيصبح لدينا وزارة داخلية للدلتا ووزارة داخلية للصعيد ووزارة داخلية للقاهرة التى كانت محافظة واحدة فباتت محافظتين ثم ثلاثا ثم فجأة خمس محافظات مرة واحدة.. خمس محافظات ابتكرناها لأن أحدا من المسئولين لم يتوقف مرة ويسأل نفسه قبل أى قرار عن دواعى هذا القرار وعلاقته بالناس.. وكم تمنيت لو استجاب حازم القويضى.. صاحب دراسة تأسيس محافظتى حلوان والسادس من أكتوبر.. لدعوتى ويأتى معى ليشهد بنفسه معاناة الناس وبالتحديد فى ريف الجيزة أو شمال الصعيد.. والذين اكتشفوا فجأة أن حياتهم باتت فوضى إدارية لا أول لها ولا آخر، بينما واقعهم لا يزال مسكونا بنفس الجروح والهموم والمعاناة.. كما أتمنى أيضا أن تتمهل الدكتورة سهير حواس.. نائب رئيس الجهاز القومى للتنسيق الحضارى.. قبل أن تطيل حديثها هى وغيرها عن ضرورة عاصمة جديدة لمصر بدلا من القاهرة التى لم تعد تكفى أو لم تعد تصلح.. أو القاهرة التى بدأت تحتضر على حد تعبير الدكتورة سهير.
فمصر.. التى أبدا لم تكن فى حاجة لتقسيم القاهرة لثلاث أو خمس محافظات.. ليست فى حاجة مطلقا لأى عاصمة جديدة.. وإنما كانت ولا تزال مصر تحتاج لنوع آخر من الفكر.. ولتغيير نمط السلوك السياسى والاجتماعى.. فقد كان المنطق يقتضى أن تكون هناك فى مصر اليوم أكثر من مدينة كبرى.. خاصة أن مصر لم تكن مثل كثير من الدول الأخرى التى اختارت منذ البداية إحدى المدن عاصمة لها.. وإنما كانت مصر طول الوقت حائرة لا تستقر على مدينة واحدة تتخذ منها عاصمة لها وتغلق مثل هذا الملف نهائيا وإلى الأبد.. فعلى مدى خمسة آلاف عام من عمر مصر.. وكما أشار الدكتور فتحى محمد مصيلحى فى دراسته الرائعة عن تطور العاصمة المصرية.. فقد تغيرت العاصمة المصرية خمسا وعشرين مرة.. وكان هذا وحده - وفقا لقواعد الجغرافيا وأحكام التاريخ - كفيلا بأن يخلق أكثر من مدينة مصرية كبرى غير القاهرة.. فإذا كانت القاهرة قد عاشت كعاصمة لمصر ألفا وأربعمائة عام تحت أكثر من شكل وأكثر من اسم.. الفسطاط والقطائع والعسكر.. قبل أن يصبح القاهرة هو اسمها الرسمى منذ العصر الفاطمى وحتى الآن.. فإن الإسكندرية كانت عاصمة لمصر أكثر من تسعمائة عام.. وطيبة - التى هى الأقصر حاليا - كانت عاصمة لمصر ثمانيمائة عام.. ومنف - التى هى البدرشين حاليا - كانت عاصمة لمصر أكثر من خمسمائة عام.. وبوبسطة - التى هى الزقازيق حاليا - كانت عاصمة لمصر مائتى عام.. وكذلك - كما يؤكد الدكتور جمال حمدان - كانت هناك مدن أخرى مثل إهناسيا القريبة من بنى سويف.. وصان الحجر فى محافظة الشرقية.. ومدن أخرى كثيرة فى مصر.
وهو ما يعنى أننا لابد أن نملك الآن فى مصر أكثر من مدينة كبيرة وعريقة كلها كانت فى وقت ما عاصمة لهذا الوطن.. الإسكندرية والأقصر والبدرشين والزقازيق وبنى سويف.. إلا أننا لو خرجنا من كتاب التاريخ إلى أرض الواقع.. فسنكتشف أن معظم هذه المدن.. عواصم مصر القديمة.. قد طواها النسيان والإهمال.. وتخلت عن مكانتها وقيمتها وانضمت فى النهاية إلى طابور طويل من أقاليم ومدن مصر المنسية والمهملة بدون سبب أو مبرر إلا تلك العقدة المصرية المزمنة التى تجعل العاصمة وحدها محطا لكل الأنظار ومثارا لكل الاهتمام ومركزا لكل الأضواء.
أيضا.. فرضت هذه العقدة التاريخية نفسها على كل حكام مصر جيلا بعد جيل وزمنا بعد آخر حيث كانت المدن لا تقام إلا لتقوم بدور الساتر الدفاعى عن العاصمة والبلاد كلها.. فمن أجل ذلك ولدت مدن مثل ميتليس التى تعرف الآن باسم فوه.. وتامياتيس التى تعرف الآن باسم دمياط.. أما فى العصور الحديثة.. فقد تغير مفهوم الدفاع وتبدلت علوم العسكر وقوانينهم.. فلم تعد المدن المصرية تقام فقط لتبقى كسواتر دفاع وحواجز أمان تحمى العاصمة.. وإنما أصبح الدافع اقتصاديا بحتا.. لهذا نجد الحياة تدب فجأة فى أوساط مدينة قديمة كانت مهملة اسمها الإسكندرية.. لمجرد أن محمد على بدأ يفتش عن مدينة تقع على البحر الأبيض المتوسط الذى أصبح هو المسرح الرئيسى لاهتمامات الباشا.. فوقع اختياره على الإسكندرية لتكون مركز تجارته الجديدة وقاعدة تسويق منتجات الاقتصاد المصرى فى ذلك الوقت.
وما حدث مع مدينة الإسكندرية.. تكرر مع مدن أخرى.. فرضت الحاجة والظروف الاقتصادية الاهتمام بها وتنميتها.. مثل مدينتى بورسعيد والإسماعيلية كما أكد ذلك الدكتور حلمى أحمد شلبى صاحب أهم وأعمق دراسة عن تطور المدن فى مصر.. فمدينة بورسعيد تأسست عام 1859.. أما الإسماعيلية فقد بدأ بناؤها فى عام 1863.. وكان الهدف هو استثمار شق قناة السويس ثم الملاحة العالمية فيها.. وكذلك مدينة الزقازيق التى لم تكن فى بدايات القرن التاسع عشر سوى كومة أكواخ متواضعة لا يسكنها إلا العمال الفقراء الذين تم شحنهم من قراهم لحفر بحر مويس.. ولم يكن ليكترث بها أو بهم أحد إلا حين فرض موقعها أن تكون إحدى قلاع حلاجة القطن.. فقرر محمد على إعادة بنائها عام 1837 وكل من يفتح كتاب تاريخ مصر طوال أعوام القرن التاسع عشر.. يشعر أن مشروع محمد على لتحديث مصر.. ومدن مصر.. بقى قاصرا فى معظم تفاصيله على القاهرة والإسكندرية فقط.. وتحولت باقى المدن إلى مجرد كومبارس.. تصارعوا واقتتلوا على ما تبقى من المدينتين الكبيرتين.. حتى لكأن المدينة منهم لن تحيا أو تبقى أو تزدهر إلا بموت واندثار مدينة أخرى.. فطنطا تنمو على حساب المحلة الكبرى التى كانت هى عاصمة الغربية فى زمن محمد على.. ولكى تنمو الزقازيق كان لابد أن تتوارى مدن أخرى كانت هامة ومزدهرة مثل بلبيس وزفتى وميت غمر.. ويتم اغتيال مدينة الصالحية من أجل الإسماعيلية الجديدة.. وكان أشهر قتال بين مدن مصر فى تلك الفترة.. هو ذلك القتال الذى أسفر عن هزيمة رشيد أمام الإسكندرية.. وهزيمة دمياط أمام بورسعيد.. وأود بهذه المناسبة التوقف قليلا عند مدينة بورسعيد.. التى أعتبرها صاحبة واحدة من أكبر فواتير الحساب التى اضطرت أن تدفعها المدن فى مصر من أجل أن تنعم القاهرة.. ولكننى لن أتوقف عند بورسعيد فقط لهذا السبب.. وإنما لألفت نظر الجميع واهتمامهم بضرورة الاحتفال بعيد ميلاد بورسعيد المائة والخمسين.. وذلك حين جاء منتصف نهار يوم الإثنين.. أحد أيام شهر أبريل عام 1859.. وأمسك فيه ديليسبس بأول فأس ينقل به أول حبة رمل معلنا بدء العمل فى حفر قناة السويس.. مائة وخمسة وعشرين ألف شاب ورجل ماتوا على مشارف بورسعيد من أجل أن يجرى الماء فى القناة.. ليصبح هناك فى النهاية لبورسعيد.. المدينة الجديدة.. أهلها الذين تعتز بهم ويفخرون هم بها.. فهى التى أعطتهم الكبرياء وعلمتهم الانتماء وهم الذين خلقوا مدينتهم من جبال الطمى وحبات الرمل وموج البحر ونهر الدم.. لهذا من النادر أن نجد مدينة أخرى فى مصر ينتمى لها أهلها ويتعصبون لاسمها ولكل مافيها - حتى فريقها لكرة القدم - كل هذا التعصب الذى قد يصل إلى درجة الجنون.. مثلما نجده عند أهل بورسعيد.. وهو أيضا انتماء تأصل بعد ثلاث حروب كبرى خاضتها مصر ودفعت بورسعيد الكثير ثمنا للهزيمة فى تلك الحروب أو حتى للانتصار فيها.
وقد كانت بورسعيد ولا تزال تستحق أن تكون اليوم مدينة كبرى تعيش الحياة بكل ما فيها ومثلما تعيشها القاهرة.. وأن تصبح محطة جذب تماما مثل القاهرة.. بدلا من أن نترك بورسعيد تموت من أجل أن تبقى القاهرة.. ثم ننتظر حتى تموت القاهرة لنبدأ التفتيش عن مدينة أخرى جديدة تصبح هى العاصمة وتنتقل القاهرة إلى كتب التاريخ والذكريات.. السويس أيضا كانت تستحق.. وهى التى تبدو الآن مدينة فقدت قدرتها على المقاومة منذ وقت طويل جدا.. ونسينا كلنا فى القاهرة أن السويس هى المدينة التى كانت هناك وحدها يوم شرعنا فى حفر قناتنا.. وإذا كانت القناة قد خلقت بورسعيد والإسماعيلية كمدينتين جديدتين.. فإنها سرقت من السويس - المدينة القديمة - كل ما كانت تستحقه من اهتمام.. صحيح أن القناة ارتبط اسمها بالسويس.. لكن خيرها كله كان للمدينتين الواقعتين فى الشمال.. أما المعاناة كلها فكانت من نصيب السويس التى بقيت تنمو بلا أى تخطيط أو نظام على الإطلاق.. بقيت مدينة نائية عن القلب والوجدان لا يكترث أو يهتم بها وبمعاناتها أحد.. حتى الحروب الثلاثة التى خاضتtها مصر بعد ثورة يوليو.. وكانت السويس فى كل حرب منها هى صاحبة القسط الأكبر من فاتورة الحساب بشهدائها وتضحياتها.. وعلى الرغم من قصة صمود السويس فى حرب أكتوبر - فقد كانت الجائزة من نصيب بورسعيد والإسماعيلية بداية من قوافل التعمير وإعادة البناء مرورا بالتجميل العمرانى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى والرياضى وحتى تأسيس الجامعة والقناة التليفزيونية.. وكان ذلك كله كافيا جدا لأن يخلق تحت جلد السويس إحساسا بالمرارة.
أما الجنوب.. أى الصعيد.. فهو يبدو لنا على الخريطة وعلى أرض الواقع أيضا كطريق طويل ملتو يفيض بكل أنواع الأزمات والهموم والخطايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. طريق مزدحم يختنق بالبشر وفيه كل شرور وآثام الزحام.. فيه أيضا تقل فرص الحياة اللائقة - أو الممكنة على الأقل - من مدارس ليست تكفى كل الصغار.. إلى كهرباء ومياة نقية ليست تدخل كل البيوت.. إلى بيوت ليست تكفى الجميع فتنتثر العشوائيات وحياة العشش والخيام والإسكان المشترك.. فإذا كنا قد نسينا ذلك ثم امتلكنا صفاقة ووقاحة القدرة على الدهشة حين اكتشفنا يوما ما أن اثنين وثمانين بالمائة من شباب المتطرفين والأصوليين ينتمون إلى مدن وقرى الجنوب.. فلا أعتقد أنه يليق بنا أن ننسى مرة أخرى أو نعود إلى صفاقتنا ووقاحتنا مرة أخرى ونندهش إذا ما جاء يوم نكتشف فيه أن الحياة كلها فى الصعيد قد أصبحت قنبلة متوترة مشتعلة منزوعة الفتيل تنتظر انفجارها غدا أو بعد غد.. قنبلة تخاف منها وتخشاها سبعون مدينة هى كل عواصم ومراكز صعيد مصر.. سواء فى الفيوم مثلا.. واحدة من أشد المحافظات المصرية فقرا.. أو فى بنى سويف.. المحافظة التى لا يتعب أى أحد فى محاولة العثور لها على لقب تتميز به عن سائر محافظات مصر.. فهى أحيانا محافظة التجارب.. وفى أحيان أخرى هى المحافظة الطيبة التى اكتسبت طيبتها وتسامحها نتيجة ظروفها وموقعها وبيئتها.. وهى أيضا محافظة الفقراء أو محافظة اليأس العظيم.. المحافظة التى غالبا ما تخصص لها الحكومة فى القاهرة أقل نسبة من موازنة الدولة العامة كل عام.. أو المنيا.. عاصمة العشش فى كل صعيد مصر.. وأسيوط.. وردة الجبل التى روتها - ولا تزال - كثير من الدماء والدموع.. المدينة التى عشنا سنوات طويلة لا يأتينا منها إلا الخوف والرصاص والتطرف والعنف ومعظم وزراء الداخلية.. المدينة التى تقتل أكثر من أية مدينة أخرى فى مصر.. وتخرج على القانون أكثر من أية مدينة أخرى.. ولست أقصد فقط التطرف أو الإرهاب.. وإنما أقصد بالقتل والخروج على القانون المعنى الذى نعرفه جميعا فى مصر.. فأكبر كذبة فى تاريخ أسيوط روجها الإعلام المصرى فى نهايات القرن الماضى كانت أن هذة المدينة هى فقط وكر للتطرف.. مجرد عاصمة شهيرة ومزعجة للأصوليين والإرهابيين.. وقد يكون هذا صحيحا.. أو هو صحيح بالفعل.. لكنه صحيح أيضا أن أسيوط عاصمة للعنف فى كل شىء.. والتطرف فى كل شىء.. فهى مدينة استثنائية جدا.. ومختلفة جدا عن أية مدينة أخرى فى مصر.. ولا يبدو أن أحدا منا يود معرفة السبب أو التفسير.. لا أحد يريد أن يجيب على هذا السؤال.. لماذا أسيوط.. ولماذا كل هذا العنف وكل هذا الدم.. هل هى تراكمات التاريخ.. هل هو الفقر القاسى والإحباط الأشد قسوة.. هل هى البطالة الدائمة والهجرة الدائمة والمعاناة والألم فى كل وقت.. أم هى التناقضات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية.. التى أحالت حياة المدينة وأهلها إلى مسرحية عبثية وهزلية.. تحولت أسيوط إلى قلب يسكنه الخوف وعاصمة للإرهاب والموت.. وبدلا من أن تلتفت الحكومات المصرية المتوالية منذ ثورة يوليو إلى هذة المدينة وحلمها الكبير.. كان التجاهل والإهمال والنسيان.. كانت مجرد جامعة أقمناها فى المدينة ثم استراحت ضمائرنا إلى ذلك ورحنا ندعى أننا غرسنا شعاع النور فى قلب الصعيد المظلم.. ونحن فى الواقع وفى الحقيقة لم نغرس إلا بذور المزيد من التخلف والفقر والعنف والغضب.. فكان أن بدأت المدينة الحزينة تتنازل عن أحلامها حلما بعد حلم.. وبدلا من أن تصبح أسيوط قلبا للصعيد.. اخترقت العشوائيات قلبها هى.. وقضت على كل أحلامها وطموحاتها.
وتبقى سوهاج.. مثل أية مدينة أخرى فى مصر.. تعانى وتشكو وتتوجع.. ومع ذلك تتماسك وتصمد وتقاوم.. ومن المؤكد أنها تود وتحلم بالبقاء هكذا حتى تنتصر فى النهاية على الشيطان الذى تواجهه.. ولكن الواقع لا يعترف أحيانا بالأحلام أو النوايا الطيبة.. ولا الشيطان أيضا.. والمبادئ والقيم ممكن أن يهزمها الفقر.. أو الرغبة.. أو تناقضات اجتماعية واقتصادية صارخة وقاسية كتلك التى تعيشها مدينة سوهاج.. المدينة التى كانت فى عام 1799.. مدينة لا تزال قادرة على الاحتفاظ برجالها على أرضها وفى بيوتها وشوارعها.. رجال تجمعوا وتماسكوا ووقفوا يوم الثالث من يناير فى وجه الفرنسيين يرفضون دخولهم المدينة.. يومها كسرت سوهاج أنف نابليون ورفضت الهزيمة أو الاستسلام.. يومها قدمت سوهاج ثمانيمائة رجل من خيرة رجالها وشبابها ليموتوا تحت أقدام عسكر الفرنسيين حتى لا تموت سوهاج نفسها بتاريخها وكبريائها وشموخها.. ولكننا فى القاهرة نسينا ولم نحفل أو نهتم أو حتى نحترم ونتذكر ذلك.
والآن.. قبل أن تتحدثوا عن أية مدينة جديدة تصلح لأن تكون العاصمة الجديدة لمصر.. افتحوا أولا ملفات كل هذه المدن المنسية والمهملة.. داووا جراحها واكشفوا عن مواجعها.. ولا تجعلوا القاهرة.. وأية عاصمة جديدة سيتم اختيارها.. تعيش على حساب كل هذه المدن.. التى كانت كبيرة وجميلة .. يوما ما فى مصر.
ً
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة