عصام عبدالعزيز

هذا الشاعر علمنى الحزن..

أمل دنقل .. شاعر ظلمته القصيدة

السبت، 16 مايو 2009 09:10 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كلما ضاقت بى الدنيا وخاننى القلم ورفض مشاركتى البكاء، أهرب إلى هذا الرجل أشاركه أوجاعه ويشاركنى حزنى، أغلق الباب علىّ وأدفن عينى بين دفتى كتابه وأخلع عنى كل الأسماء التى تحفظنى ولا أحفظها، أنزل من على كاهلى كل الوجوه التى أعرفها ولا تعرفنى، وأغوص فى بحر هذا الرجل.

عرفته صدفة كنت مراهقاً وأحب حتى الموت، وكنت أقرأ لنزار وجويدة، وأكتب رسائل عشق ساذجة، لمعشوقة أكثر سذاجة، إلى أن وجدت هذا الرجل أو بمعنى أدق هو من وجدنى، قرأت له "خمس أغنيات إلى حبيبتى" كانت فى ورقة كشكول التحضير لمدرس الفلسفة، واكتشفت عالماً آخر من اللغة والتصوير، هالنى عالم هذا الشاعر الذى يتحدث عن موته كأنه عشق وعن عشقه وكأنه موت.

فقررت معرفته، وكلما سألت عنه قيل "لا تصالح وإن منحوك الذهب، ترى حين أفقأ عينيك وأثبت جوهرتين مكانهما، هل ترى؟ هى أشياء لا تشترى"..

وصدمت وسقطت كل الأقنعة أمامى، وتقافزت أمام عينى مجموعة المسلمات التى ظلوا يلقنوننا إياها، وسألت فى سذاجة بالغة أين الصورة الجمالية فى هذا المقطع، أين الاستعارات والتشبيهات إنها مجرد جملة عادية يمكن أن يقولها أى شخص، ولكنها مع كل هذا أرجفتنى كصفعة مفاجئة.

ولكن ما صدمنى حقاً هو أننى اكتشفت أن مجموعة القصائد التى تلتصق بأمل دنقل كظله، لا تعبر فعلياً عن عبقرية هذا الشاعر ومدى قدرته الإبداعية، بل إن هذه القصائد مثل "لا تصالح" و"كلمات سبارتاكوس"، وغيرها من القصائد ذات الصوت العالى، قد ظلمت شاعرها وتجنت عليه، وظلمت بجانبها مجموعة أخرى من أعماله، ومنها مثلا ً"تعليق على ما حدث فى مخيم الوحدات"، والتى كلما قرأتها رأيت ما يحدث الآن على الساحة العربية، وفى أحداث غزة الأخيرة رأيت أمل دنقل يصرخ فينا جميعا قائلاً:
قلت لكم مراراً
إن الطوابير التي تمر..
فى استعراض عيد الفطر والجلاء
(فتهتف النساء في النوافذ انبهاراً)
لا تصنع انتصاراً.
إن المدافع التي تصطف على الحدود، في الصحارى
لا تطلق النيران.. إلا حين تستدير للوراء.
إن الرصاصة التي ندفع فيها.. ثمن الكسرة والدواء:
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا.. إذا رفعنا صوتنا جهارا
تقتلنا، وتقتل الصغار"

ثم يعلنها صريحة مدوية كقنبلة تنفجر فى صمت القبور:
"قلت لكم..
لكنكم..
لم تسمعوا هذا العبث
ففاضت النار على المخيمات
وفاضت.. الجثث!
وفاضت الخوذات والمدرعات".

ثم يعلمنى هذا الشاعر درساً آخر، ألا وهو أن الشعر كلما كان بسيطا كلما كان أروع،
وأن أجمل الشعر أصدقه، فيصل فى "الجنوبى" إلى أقصى ما يبغيه الشاعر، وهو أن يصل بالمتلقى إلى تلبس حال الشاعر والنظر بعينيه، فيقوم أمل بإعادة اكتشاف ما هو موجود أصلاً ونراه بشكل دائم ولكن من وجهة نظرنا نحن، وهنا تأتى عبقرية أمل دنقل حين يقوم بتفكيك المشهد المعاد والمكرر ليعيد تركيبه بوجهة نظر جديدة ليصدمك من جديد وتصرخ متسائلاً، أليس هذا ما نعرفه ونراه، ما بالنا كما لو أننا نراه لأول مرة، فاللون الأبيض عند أمل يهرب من عالمنا الضيق الثابت ليدخل إلى عالم الشاعر معبراً عن معانٍ أخرى لا نراها.

إنه أمل دنقل الجنوبى الأسمر الذى حول المرض إلى لآلئ، وحول الموت إلى صورة تتلاعب برأسك ومخيلتك، ويعيد ترتيب تراثك وثقافتك فالطوفان عنده مختلف، والبطل هو ابن نوح، ذلك الذى رفض ترك وطنه ومات وهو ينزح الماء ويسد الطوفان ومن يهرب ويركب الفلك هم المدعون الذين يتربحون من مصائبنا ثم يتوجهون إلى الله شاكرين، لاعنين ابن نوح وأصدقاءه من شباب المدينة.

إنه أمل دنقل الذى علمنى كيف أحزن وكيف أحول حزنى لمشهد شعرى.
ففى ذكرى وفاته كان واجباً علىّ أن أشكره وأحيه على ما منحه لى ولغيرى من متعة ودهشة.









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة