جدنا الأكبر فى عائلتى هزم ديلسيبس، القصة ليست خيالاً بل حقيقة، ولم تدونها كتب التاريخ، وإليكم تفاصيلها بمناسبة الذكرى 53 لقرار جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس والذى اتخذه فى يوم 26 يوليو عام 1956.
كان جدنا الأكبر يشغل وظيفة شيخ البلد، وللوظيفة متطلبات عليه أن يلبيها للسلطة، وكان هو يتمتع بذكاء فطرى، ودهاء فى التعامل مع السلطة لو طلبت منه أشياء يراها معيبة طبقا للعرف والتقاليد فى قريته، وكان هذا بالضبط سر هزيمته لديلسيبس ومعه الخديو سعيد فى حفر قناة السويس التى تمت بالسخرة وبدماء آلاف المصريين المقهورين.
يحكى كبار عائلتى بفخر أن جدنا الشيخ محمد السيد طالبته السلطة بأن يوفر عدداً من رجال القرية الأشداء للعمل فى حفر القناة، ومن لديه «جمل» لا يتخلف عن المهمة لأن لـ«الجمل» وظيفة هامة وحيوية تتمثل فى تحميله بردم الحفر، وذهب العشرات والعشرات من قريتنا بالقليوبية وضاعت أسماؤهم مع مرور السنين وافتقاد القرية رواة تاريخها المجهول، المهم أنه ذهب من ذهب وعاد من عاد ومات من مات، لكن بقيت قصة الجد فى جانب خاص فى مهمته، فذات صباح أبلغته السلطة بأن «الجمال» مات منها الكثير ولم يعد هناك وسيلة للتغلب على هذه المشكلة إلا بالاستعانة بالبنات غير المتزوجات لحمل الردم فى المقاطف وذلك حتى يتم توفير «جمال» بديلة، وجد الجد نفسه مطالبا بما لا يستطيع تحمله، وحمل الأمر على نفسه هماً ودهراً، فكيف لأب أن يترك ابنته الصغيرة بعيداً عنه للعمل مع رجال؟ وكيف له أن يحافظ على سمعة شرف بنات القرية؟ ومع تزاحم الأسئلة والهموم استدعى عدداً من كبار القرية وأهل ثقته لإبلاغهم قرارا اتخذه، وعليهم مساعدته فيه، قال لهم ليس أمامنا غير تزويج بنات القرية لكى نبلغ السلطة أنه ليس عندنا إلا الأطفال، فعلق شيخ من الحاضرين: «طيب افرض يا شيخ طلبوا الأطفال كمان»، رد الجد: «نحل مشكلة البنات الأول وبعدين يحلها حلال»، وانتهت الجلسة بقرار تاريخى وهو تزويج كل البنات، وتم التنفيذ فى أيام قليلة، ومعه تم تفريغ مطلب السلطة من مضمونه، ولم تخرج بنت واحدة من القرية إلى الحفر.
لم يخش الجد من عواقب ما فعله فقد كانت له تصاريف أخرى مع السلطة الممثلة فى رجال الأمن لإخفاء سر ما فعله، وكانت له شبكة علاقات تسند ظهره فى أوقات الشدة.
القصة تدوالتها قريتنا جيلا وراء جيل حتى على سبيل الفخر، وحين اتخذ جمال عبدالناصر قراره التاريخى بتأميم قناة السويس أعاد كبار قريتنا رواية القصة وكأنها حدثت بالأمس القريب رغم أن عشرات السنين كانت مرت عليها، نظر إليها الناس بوصفها حيلة فلاح استطاع مواجهة ديلسيبس والسلطة والسخرة بطريقته الخاصة، ونظروا إلى ما فعله جمال عبدالناصر بوصفه ثأراً لهذا الجد الداهية، ولكل الرجال الذين حفروا واستشهدوا تحت التراب أثناء الحفر، ولأننا ندمن النسيان، ونكتفى بروايات ناقصة من التاريخ ضاعت قصة الجد، وضاعت قيمتها مع استفحال دعاة التزوير الذين يتحدثون الآن على أن القناة لم يتم حفرها بالسخرة، كانت القناة مرتعا للإنجليز والفرنسيين ودولة داخل الدولة، حتى أعلن عبدالناصر قراره بتأميمها ليحول بوصلة العالم إلى مصر التى قررت أن تستعيد حقوقها المسلوبة، لم يكن القرار للبحث عن مجد شخصى كما يردد الحاقدون، وإنما كان تعبيراً عن البحث عن استعادة للكرامة الضائعة، وتعبيراً عن أن ما فعله أجدادنا لم يضع سدى.
جدى ساهم فى الحفاظ على شرف بنات قريته، ولهذا له دين دائم فى رقبة حكوماتنا بضرورة الاحتفال بهذا الحدث التاريخى وليس نسيانه كما يحدث الآن ومنذ سنوات، حتى يطمئن أحفاده أن لهم تاريخا كريما يجب الحفاظ عليه وعلى أمجاده.. رحم الله الجد ورحم الله جمال عبدالناصر، ورحمنا الله من حكومتنا التى تتمتع بآفة النسيان التى لا تقتصر على التاريخ وفقط، وإنما إهمال القرى التى أصابها التيفود.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة