هى قصة لم تكتمل فصولها إلا بعد خمسة عشر عاما.. فقد بدأت وأنا طالب فى كلية الطب فى جامعة الزقازيق.. وقتها لم أكن مقتنعا بالطب كمهنة أعيش لها سنين العمر وأحلامه وكنت أحاول وأحلم وأسعى وراء الكتابة والصحافة.. وحين فوجئت بكل زملائى وأساتذتى فى الطب يسخرون منى ومما أكتبه.. جمعت كل كتاباتى وأرسلتها للأساتذة الكبار فى القاهرة.. وكانت أولى المفاجآت هى صفحة كاملة فى مجلة صباح الخير كتبها عنى وعن كتاباتى الأستاذ مفيد فوزى تحت عنوان حالة عشق مجنون.. ودعانى الأستاذ أنيس منصور لأن ألتقيه فى مكتبه كرئيس لتحرير مجلة أكتوبر.. ورسالة تشجيع رقيقة ونبيلة من العملاق الراحل مصطفى أمين.. أما أهم المفاجآت فكانت خطابا تسلمته داخل ظرف يحمل شعار مؤسسة أخبار اليوم.. الخطاب كان مكتوبا بخط اليد.. جميلا ومميزا.. وطويلا أيضا.. ولم يكن مجرد تحية مجاملة أو تشجيع أو تضامن مع شاب صاحب حلم يبدو صعبا أو مستحيلا.. وإنما كان الخطاب أشبه بالدعوة إلى التمرد والثورة.. وكل كلمات ذلك الخطاب كانت تأكيدا على أننى لن أكون طبيبا ولن أمارس الطب وأن مكانى هو الصحافة وأوراقها والكتب وصفحاتها وأننى لابد ألا أستسلم لأى واقع مهما كانت سخريته أو أى سخرية مهما بلغت مرارتها.. وفى نهاية الخطاب قال صاحبه أنه على استعداد للوقوف إلى جانبى حتى آخر مدى وإلى أن يتحقق الحلم ويكتمل.. وفى نهاية الخطاب كان التوقيع.. محمود عوض.
أنهيت دراستى وأصبحت صحفيا وكاتبا فى مؤسسة الأهرام.. وبعد سنين طويلة جاء أوان الفصل الثانى من الحكاية.. فقد التقيت أخيرا بمحمود عوض.. وكعادته كان رقيقا ومجاملا وأبدى أراء كثيرة طيبة ورائعة فيما أكتبه.. لكننى قلت له أننى لم أجئ إليه لهذا وإنما لأشكره على هذا الخطاب.. وأخرجت الخطاب من جيبى وأعطيته له.. ولم أخجل وقتها من الاعتراف بأننى أحد الذين صنعهم محمود عوض.
وكانت المفاجأة أن هذا الخطاب هو واحد من ثلاثة خطابات فقط كتبها محمود عوض طوال حياته.. لكنه لا يذكر لمن كتبها ولا يعرف الذين أرسلها لهم.. وعلى وجهه ارتسمت سعادة حقيقية بأننى أجلس أمامه وقد تحقق بفضله الحلم الذى كان صعبا أو مستحيلا.. وإذا كنت واحدا من ثلاثة كتب لهم محمود عوض عارضا أنه سيقف معهم دون أن يعرفهم وسيساندهم اقتناعا منه بأن هذا هو بعض من أدواره وواجباته طوال حياته.. فأنا بالتأكيد واحد من مئات وقف معهم دون أن ينتظر أى مقابل.. وكان يضحك معى كثيرا فيما بعد وهو يقول لى أن أجمل إحساس فى العالم ألا تنتظر أى شىء من أى أحد.. لا حب ولا شكر ولا امتنان ولا عرفان بالفضل أو الجميل.. وكنت أختلف معه وأحيانا أشعر بالغيظ من محمود عوض ولمحمود عوض لأنه على سبيل المثال حارب وحده كثيرا وطويلا ليؤسس لنقابة الصحفيين جوائزها التى تمنحها كل عام للمتميزين من أبنائها دون أن يتوقف أحد من هؤلاء ليلتفت إليه باعتباره صاحب الفكرة وفارسها الأول والأوحد.. ولأنه الوحيد.. واقعيا وتاريخيا وحياتيا.. الذى كان صاحب حق الحديث عن كل أسرار وخفايا النجوم الكبار من أم كلثوم إلى عبد الوهاب وعبد الحليم وبليغ حمدى.. ورغم ذلك لم يتحدث ولم يتاجر بما يعرفه وسمح للآخرين بالتربح مما لا يعرفونه ولم يعيشوه مطلقا.. وتناقشت معه كثيرا فى ذلك.. واختلفت معه.. وكان يقول لى دائما أنه لن يتكلم لأن أصحاب الحكايات لم يأذنوا له بالكلام قبل رحيلهم.. وهو الصحفى العربى الوحيد الذى كتب عن الأزمة المالية العالمية مقالا رأت فيه مجلة نيوزويك الأمريكية الشهيرة أنه يستحق أن يقرأه العالم كله.. فترجمته ونشرته.. وفى إحدى مؤتمرات ديفوس وقف مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزى السابق يتكلم مستشهدا بما كتبه محمود عوض.. وتلاه رئيس الوزراء الكندى.. ولم يحفل محمود عوض بكل ذلك.. وآه لو كانت النيوزويك نشرت مقالا لصحفى مصرى آخر أو وقف زعماء العالم وحكماؤه يستشهدون ويعيدون كلماته وأفكاره.. لكانت دنيانا قد امتلأت صخبا وضجيجا واستعراضا للموهبة والنبوغ والتأثير والمكانة.. ولكنه محمود عوض.. إمام المحترمين وكبير المعتزلين فى زمن مجنون مسكون بالزيف والمطامع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة