فى كتابه المدهش "يوميات جمال عبد الناصر فى حرب فلسطين.. النصوص الكاملة بخط يده"، والصادر عن "دار مكتبة جزيرة الورد "، يحكى الكاتب الكبير الصديق الأستاذ عبد الله السناوى فى مقدمة الكتاب، قصة كتابة عبد الناصر هذه اليوميات، مشيراً إلى أن الصاغ جمال عبد الناصر والذى كان رئيس أركان الكتيبة المصرية السادسة فى حرب فلسطين، ورقى خلالها إلى رتبة بكباشى، كان يجلس على مكتب متواضع فوقه "لمبة جاز" فى غرفة صغيرة لا يوجد باب عليها، ويكتب يومياته فى دفترين، أولهما: دفتر رسمى، يكتب على أساسه تقاريره إلى رئاسة الحملة، سجل عليه "ملخص الحوادث والمعلومات"، وتشمل تعليمات القيادة وحركة القوات وعمليات القتال، وتضمن هذا الدفتر ملاحظات وشهادات، يقول عنها السناوى إن لها قيمة تاريخية تكتسبها من أن صاحبها رجل قدر له بعد أربع سنوات أن يمسك بمقاليد الأمور فى مصر، ويقود أوسع عملية تغيير اجتماعى وإستراتيجى قلبت معادلات المنطقة وحسابات القوة فيها.
أما الدفتر الثانى فكان شخصياً أودع فيه جمال عبد الناصر مكنونات صدره عن ذات الأحداث والوقائع بتفاصيل أكثر تعبيراً عن آرائه وأفكاره، ودواعى الغضب الذى اعتراه من تخبط القادة وغياب التخطيط، وهو غضب لخصه فى عبارة قاطعة كتبها بخط يده: "فقدنا الإيمان فى قيادة الجيش وفى قيادة البلاد"، ويقول السناوى، إن تلك العبارة بخلفياتها فى ميادين القتال والفوضى الضاربة فيها نقطة تحول جوهرية فى حياة جمال عبد الناصر حكمت مصيره ومصير مصر والعرب معه بعد سنوات قليلة، وهذه العبارة بالذات تلخص الموقف كله، ففيها تبدو فكرة الثورة عند لحظة ولادتها فى قلب رجل يواجه الموت فى ميادين القتال.
ويعتبر السناوى، أن اليوميات الشخصية والرسمية معاً تمثل كنزاً تاريخياً لا مثيل لأهميته فى قراءة "جمال عبد الناصر" ومقدمات ثورة يوليو، ويقول أنه عند العودة من فلسطين صحب عبد الناصر معه دفترى اليوميات الشخصية والرسمية، واحتفظ بهما سنوات طويلة قبل أن يودعهما لدى محمد حسنين هيكل فى مطلع عام 1953، ويقول السناوى أن هيكل استند إلى ذات اليوميات فى كتابة "مذكرات الرئيس عن حرب فلسطين" بعد ذلك بنحو سنتين التى نشرت على حلقات فى مجلة آخر ساعة خلال شهرى مارس وإبريل من عام 1955، ولم تكن هذه المذكرات المنشورة يوميات بالمعنى الحرفى، ولكنها تصريحات أدلى بها عبد الناصر إلى هيكل، الذى صاغها مستندا لدواعى التدقيق فى التواريخ على دفترى اليوميات الشخصية والرسمية، الذى لم يتسن لأحد غير هيكل الاطلاع عليهما على مدى ستين عاما من كتابتها.
على مدى 55 عاماً احتفظ هيكل بدفتر مذكرات "جمال عبد الناصر" الشخصية، غير أنه أشار إليها فى إحدى حلقاته على قناة الجزيرة، ويروى السناوى أنه بعد انتهاء حلقة الجزيرة بخمس دقائق، اتصل به مستغرباً أن يحتفظ بوثيقة خطيرة عمرها ستون عاماً دون أن ينشرها، وكانت إجابة هيكل: "لها وقت تنشر فيه، فى حياتى أو بعدها"، فقال السناوى لهيكل: "ما وصلت إليه لم يكن من فراغ، فلا أحد بوسعه أن يصبر كل تلك العقود على وثائق بمثل هذه الخطورة"، فرد هيكل على الفور: "هو الذى لم يولد من فراغ (يقصد جمال عبد الناصر)، سجل ما لديه، لأنه يعتقد أن ما يكتبه له قيمة، أنت أمام ضابط شاب يعرف دوره وقضيته وهدفه، ويعرف لماذا هو غاضب، وكيف يمضى بغضبه إلى مسارح جديدة وعوالم مختلفة"، ثم أردف هيكل: "بعد كل هذا العمر، وكل هذه التجارب فإنه الرجل الوحيد الذى أنا مستعد للانحناء أمامه".
ثم تكرم هيكل بأن أودع عند السناوى نصوص المذكرات لنشرها بعد 60 سنة، ووفاء لقيمة "الأستاذ" عند السناوى أهدى الكتاب إليه قائلاً: "إلى محمد حسنين هيكل.. أستاذاً ومعلماً وأباً".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة