سمعت كثيرا وقرأت كثيرا عما أثير فى شأن إغلاق الفضائيات وتقييد الحريات والأزمة التى يمر بها الإعلام مؤخرا، ناهيك عن جريمة اغتيال جريدة الدستور المروّعة، أوصافا وتعبيرات متنوعة، مؤامرة لتكميم الأفواه، ردّة فى الحريات وتراجع فى الديمقراطية، تمهيد الأرض من أجل انتخابات مجلس الشعب القادمة.. إلخ.
تعجبت كثيرا، ولم أفهم، عن أى تراجع يتحدثون، وعن أى ديمقراطية؟! لا توجد ديمقراطية أصلا! لقد تولى الرئيس حكم البلاد وأنا طالب فى السنة الأولى من كلية الحقوق فى الثامنة عشرة من عمرى، وأنا الآن فى أواخر الأربعينيات! أعلنت حالة الطوارئ فى مصر فى مساء يوم السادس من أكتوبر 1981 ولاتزال معلنة حتى كتابة هذه السطور، وتعطلت كل الضمانات الجنائية المقررة لكرامة الناس وأمنهم داخل بيوتهم وفى الشوارع منذ عشرات السنين، تعتقل الدولة من تشاء وقتما تشاء، حتى لو خالفت أحكام القضاء وقرارات النيابة الصادرة بإخلاء السبيل، لجان الرعب تملأ الشوارع والكبارى فقط لكى تقول الحكومة للناس نحن هنا، المجالس النيابية خاضعة تماما لسيطرة الدولة، ويتم تزوير انتخاباتها بانتظام، وكان من حسن حظى أن رأيت ذلك بنفسى! والأنكى والأشد أن مصر تواجه مصيرا مجهولا، فلا توجد مؤسسة فى الدولة تريد أن تقول لنا أو تشرح ما هو نظام انتقال السلطة فى مصر. مياهنا ملوثة، طعامنا مغشوش ومسرطن ومروى بماء المجارى، قطاراتنا فوضى، أعلى نسبة حوادث طرق فى العالم، تعليمنا كارثة، التطرف ينتشر ومعه العنف، والفتنة الطائفية قائمة على قدم وساق، والشعب المصرى لايزال كالعادة فى انتظار المنحة الآتية من السماء، ولا يريد أن يفهم أن التنمية والتقدم والحرية كلها لا تأتى إلا عن طريق النضال، وليس عن طريق المنحة والتفضل والصدقة، هذه هى سنة الكون، الشعب يبحث عن زعيم وهو لا يدرك أنه هو ذاته الزعيم صاحب الكلمة المسموعة، وأنه هو مصدر السلطات وصاحب الأرض وصاحب الحق وليس مجرد ضيف ينتظر قطعة خبز.
إن هامش الديمقراطية الذى نترحم عليه لم يكن موجودا أصلا، لأننا لم نكن نمارسه كحق من حقوقنا، ولكن فقط فى حدود المنحة التى يسمح لنا بها الآخرون، ومن يملك المنح يملك المنع، ولا شأن لهذا بأى حرية حقيقية تراجعت أو ديمقراطية ارتدت، هى منحة شاء صاحبها أن يستردها وانتهى الأمر، ولو عنّ لأصحاب الشأن أن يعودوا بنا إلى زمن القناتين الأولى والثانية ودمتم لفعلوا، هو هامش حرية عرفى لم يكن مدعوما أو محميا بأى قانون أو مؤسسة ما.
استعدادات معركة مجلس الشعب تدور على قدم وساق، ولأن الانتخابات هى جوهر الديمقراطية، فإن الدولة تستعد لها بالتوسع فى الاعتقالات!! لقد نسينا إنسانيتنا ونسينا كيف نعيش، وكيف يجب أن نعيش، وإلى أن نسترد ذاكرتنا ونتعلم كيف نقف دفاعا عن حقوقنا فى بلادنا وعن كرامتنا فيها كبشر فإن هذا البلد لن يتحرك بأولادنا وأحفادنا إلا إلى الوراء.
نقلاً عن ملف إن للديمقراطية أنياباً المنشور فى العدد الأسبوعى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة