قطب العربى

الخيار التركى لتحرير فلسطين

الثلاثاء، 08 يونيو 2010 10:05 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الغضب التركى الساطع تجاه مجزرة أسطول الحرية لايعكس مجرد موقف عاطفى طارئ، نتيجة العدوان على الأسطول وقتل بعض المتطوعين الأتراك، ولكنه يعكس تغيرا استراتيجيا فى تعامل تركيا مع القضية الفلسطينية بدأت بوادره مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم فى 2002 وكانت محطته الكبرى الأولى خلال العدوان الإسرائيلى على غزة أواخر ديسمبر 2008 حين دانت تركيا العدوان بقوة أكبر من الدول العربية، ولايمكن أن ننسى فى هذه الإطار مشهد الرد القاسى لأردوغان على الرئيس الإسرائيلى شيمون بيريز فى مؤتمر دافوس وانسحابه من المؤتمر بينما ظلت الوفود العربية فى أماكنها.

لم يتوقف الغضب التركى عند حدود الشجب والإدانة والتهديد بالملاحقة الدولية للمعتدين، ولكنه تجاوز ذلك إلى التحرك الرسمى لكسر الحصار عن غزة وهو موقف لم تجرؤ على القيام به أى حكومة عربية أو إسلامية أخرى بمن فيهم المحسوبون على خط الممانعة، واشترطت تركيا إنهاء الحصار الإسرائيلى على غزة ثمنا لوقف تصعيدها ضد إسرائيل والذى قد ينتهى بقطع العلاقات معها أو تجميدها عند حدودها الدنيا.

الموقف التركى من القضية الفلسطينية والقضايا العربية والإسلامية الأخرى يمثل تغيرا استراتيجيا وانقلابا فى خط السياسة الخارجية التركية التى ظلت لسنوات طويلة ومنذ تأسيس الجمهورية على يد أتاتورك عام 1924 تدور فى فلك السياسة الأمريكية الأطلسية بحكم عضويتها فى حلف شمال الأطلسى وبحكم توجهات قيادتها العلمانية الراغبة فى الانسلاخ من هويتها الإسلامية طمعا فى اللحاق بالقطار الأوروبى، هذا التغير الاستراتيجى أسس له الدكتور أحمد داوود أوغلو أستاذ العلوم السياسية وزير الخارجية الحالى حين كان مستشارا سياسيا لرئيس الوزراء، حيث وضع ملامح السياسة الجديدة القائمة على أن تركيا دولة مركزية وليست دولة طرفية، أى لا تكون مجرد حائط صد ضد التمدد الشيوعى إبان الحرب الباردة، أو مجرد جسر للتواصل بين أوربا والعالم الإسلامى بعد الحادى عشر من سبتمبر 2001، وأن تركيا لا ينبغى أن تلعب فقط مجرد أدوار تطلب منها فى إطار حلف الأطلسى أو غيره من التكتلات الدولية ولكن تلعب أدوار مركزية تتناسب مع وزنها السياسى والاقتصادى والجيوبوليتيكى والتاريخى، وتؤهلها لتصبح قطبا دوليا معاصرا باعتبارها وريثة دولة الخلافة العثمانية مترامية الأطراف.

من الواضح أن تركيا وفى إطار هذه السياسة الجديدة تمكنت من بلورة رؤية متميزة للتعامل مع القضية الفلسطينية، تقوم بالأساس على النضال أو الهجوم المدنى بمعناه الواسع مستخدما وسائل وآليات القوة الناعمة، وهى بذلك تختلف مع فكرة المقاومة المسلحة التى تتبناها فصائل المقاومة الفلسطينية وإن تفهمت الظروف الدافعة لهذه المقاومة، كما أنها تتقاطع جزئيا مع خط الإعتدال العربى والفلسطينى القائم على المفاوضات دون التماهى معه، ومن الواضح أنها تستند أساسا على ما تمتلكه تركيا من أوراق ضغط على اسرائيل ومن ذلك الإتفاقيات العسكرية المشتركة والتبادلات التجارية، وأوراق قوة دولية أخرى مثل عضويتها فى حلف الأطلسى، وامتلاكها لثانى أكبر جيوشه وارتباطها بالثقافة الأوروبية وفهمها لأدوات الصراع الدولى وقواعد اللعبة السياسية الدولية، وكذا تأثريها القوى فى منطقة وسط آسيا التى ترتبط معها بروابط ثقافية ودينية (كون العديد من دول تلك المنطقة تتحدث اللغة التركية) إضافة إلى قوتها الاقتصادية التى تطورت كثيرا فى عهد حزب العدالة.

كان انطلاق أسطول الحرية بقيادة تركية هو نموذج لهذا الهجوم المدنى الذى استطاع حشد الدعم الدولى لقضية عادلة، واستطاع أن يسبب حرجا بالغا لإسرائيل والولايات المتحدة دون أن يطلق رصاصة وحتى دون أن تصل سفنه إلى سواحل غزة، وكانت تباشير نجاحه هو هذا الحديث المتصاعد فى أمريكا وأوروبا حول قرب إنهاء الحصار بما فى ذلك أحاديث إسرائيلية تخرج علنا للمرة الأولى تبحث عن مخرج آمن لفك الحصار عن سواحل غزة برعاية ومشاركة دولية.

الرؤية التركية الأردوغانية لحل الصراع العربى الإسرائيلى لم تبق حبيسة الكتب والنظريات السياسية التى لا يطالعها إلا المتخصصون بالشأن السياسى والدبلوماسى، بل تم الترويج لها شعبيا عبروسائل الإعلام، وعبر أعمال فنية دخلت كل بيت فى تركيا وتفاعل معها الأتراك بصورة كبيرة كان أبرزها مسلسل صرخة حجر الذى جسد بشاعة العدوان الإسرائيلى على غزة نهاية ديسمبر 2008 والذى أثار غضب إسرائيل، وتسبب فى توتر العلاقات التركية الإسرائيلية وسحب السفراء، كان المسلسل والذى أعادت بثه قناة الإم بى سى مدبلجا باللغة العربية من أعلى المسلسلات مشاهدة على القنوات التركية، كما على الإم بى سى، وحمل المسلسل فى العديد من حلقاته تمثيلا قويا لهذه الرؤية التركية الجديدة، فحين وقع العدوان على غزة فى أحداث المسلسل، وكما فى الواقع أيضا، نددت تركيا بقوة بهذا العدوان وخرجت المظاهرات المليونية فى شوارعها تندد بالعدوان وتطالب بفك الحصار، وبدأت الجمعيات الخيرية التركية فى جمع التبرعات الإغاثية لأهالى غزة، وساعدت بعض المنظمات الأهلية التركية فى توثيق بشاعة العدوان ونشر ذلك عالميا مستخدمة علاقاتها الواسعة أوروبيا وأمريكيا، كما ساعدت التحركات لنقل القضية إلى المحاكم الدولية، ووقفت المنظمات الأهلية التركية الداعمة للقضية الفلسطينية بالمرصاد للمنظمات الداعمة للعدو الإسرائيلى ولتحركات جهاز الموساد فى الأراضى التركية، وفى المقابل حين كانت بعض فصائل المقاومة الفلسطينية تقوم بعملية ضد إسرائيل كان التعاطى معها يبدو متفهما لدوافعها ولكنه فى الوقت نفسه يرى أن النضال السلمى هو البديل الأفضل لها.

هذه الرؤية وإن كانت تتقاطع جزئيا مع خط المقاومة وكذا خط الإعتدال فى آن، إلا أنها تكاد تتطابق مع رؤية فريق فلسطينى ناشئ يمثل الطريق الثالث بين المقاومة المسلحة والمفاوضات العبثية وهو الذى يقوده المناضل مصطفى البرغوثى، لكنه لا يكتسب شعبية كبيرة بين الفلسطينيين حتى الآن، وربما يقوى عود هذا التيار- حال نجاح الرؤية التركية- فى تحقيق بعض المكاسب.

يبدو الخيار التركى الجديد صالحا للتطبيق فيما يخص العدوان على غزة وفك حصارها عبر هذه المقاومة والهجوم المدنى الدولى، لكنه لا يبدو مقنعا بالقدر الكافى لتحرير فلسطين، التى لا تزال بحاجة إلى مقاومة مسلحة رشيدة تقض مضاجع العدو بجانب استخدام أدوات الضغط المدنى العالمي، حيث إن اعتماد صيغة المقاومة المدنية مع استبعاد المقاومة المسلحة سيوفر للإسرائيليين قدرا أكبر من الأمان الذى يصبحون معه بغير حاجة إلى حل حقيقى وإلى قبول ضغوط المجتمع الدولى.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة