قبل سقوط العراق بعدة أشهر كنت فى العراق، وقابلت فيها ناشط سياسى تونسى شاب، كان مدعوّا لنفس المؤتمر الذى أحضره، فوجئت به يسأل عنى على خلفية حوار كنت أجريته مع الدكتور خالد جمال عبدالناصر، ونقلته صحيفة تونسية، ولما علم بوجودى أراد التعرف علىّ، وأتذكر اسمه لطفى وقانى (كاتب عام جمعية النهوض بالطالب).
على مدى أيام المؤتمر حدثنى لطفى وقانى كثيرا عن الأوضاع السياسية فى بلاده، منبها ألا أصدق ما يصدره نظام زين العابدين بن على من إنجازات إلى الخارج، مؤكدا الديكتاتورية المفرطة للحكم فى تونس، وانعدام كل أنواع حرية التعبير، ومؤكدا زيف الانتخابات الرئاسية والتشريعية، بالإضافة إلى أن زين العابدين لن يترك السلطة أبدا، وسيبقى متمسكا بها حتى آخر عمره، وضرب مثلا بأن تواجده فى العراق لم يأت بوصفه معارضا، وإنما على أساس رسمى من الجمعية التى هو عضو فيها.
وتحدث لطفى وقانى عن عائلة زوجة الرئيس ونفوذها الاقتصادى، واحتكارها كل شىء فى البلاد، ولما سألته عن طبيعة الشارع التونسى ومثقفيه ومفكريه وسياسييه ومعارضيه، أشار إلى أن هناك قدرا من النشاط لقوى سياسية مختلفة فى الجامعات، لكن كل ذلك يتم بسرية، وقال كلمة أتذكرها جيدا وهى: «معروف عن المثقفين والمعارضين التونسيين أنهم يظلون يتناقشون إلى ما لا نهاية، ثم يذهب كل واحد إلى منزله دون أن يفعل شيئا» وأضاف: «التغيير لو جاء سيكون بعيدا عن هؤلاء المثقفين والسياسيين».
مضت السنوات دون أن يحدث تواصل مع لطفى وقانى بالرغم من تبادل أرقام الهاتف، إلا أننى كنت أتصور أن ما ذكره مثلا عن المثقفين والسياسيين التونسيين يتشابه إلى حد ما مع ما هو موجود عندنا فى مصر، وفور أن انطلقت شرارة الثورة فى تونس تذكرت رأيه بأن شرارة التغيير لو جاءت فستكون من غير المثقفين والسياسيين، فالثورة التونسية أطلقها المنسيون، والتحم معها المثقفون والسياسيون، ليتأكد الرأى بأن الخطر الحقيقى فى مجتمعاتنا العربية على أى نظام سياسى يحكم بلاده بالحديد والنار، يأتى من هؤلاء المنسيين الذين يتصور الحكام أن الفتات الذى يمنحونه لهم يكفى ويزيد.
بدأت الشرارة فى تونس من شاب منسى هو الشاب الجامعى محمد بوعزيزى الذى أشعل النار فى نفسه، بعد أن حرمه حاكمه من فرصة عمل كريمة، فى الوقت الذى كانت عائلة زوجته تحتكر المال والعباد، وأقدم بوعزيزى على بيع الخضروات حتى يكسب قوت يومه، لكن الشرطة طاردته، فأشعل النار فى نفسه، وسرت النار فى رئيس بلاده ليفر هاربا غير مأسوف عليه.
أطلق بوعزيزى (المنسى) شرارة الثورة، وانضم إليها كل فئات المجتمع من مثقفين ومفكرين وسياسيين، ورددوا جميعا بيت شاعرها العظيم أبى القاسم الشابى: «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر»، ليؤكد هذا المقطع الخالد فى الشعر العربى أن الثورة قد يفجرها «منسيون»، لكن روحها وعقلها ينظمهما مبدعون ومثقفون وسياسيون مؤمنون بها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة