نادت قوى المعارضة المصرية خلال الفترة الأخيرة بإنشاء كيانات تشريعية وشعبية موازية اعتراضا منها على نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بداية الاعتراض كانت بالدعوة إلى إنشاء برلمان موازى، ثم تطورت الفكرة إلى إنشاء حكومة موازية، ومجلس محليات موزاى، ثم مجلس شورى موازى، ولم يبق إلا أن ينادى المعارضون بإنشاء شرطة موازية ومؤسسات وهيئات ومصالح حكومية موازية، ولا مانع من أن نرى فى الأيام المقبلة نقابات مهنية موازية على غرار نقابة الضرائب العقارية المستقلة التى أنشأها المناضل العمالى كمال أبو عيطة، وكذلك ليس بمستبعد أن نقوم بإنشاء مجتمع مواز على غرار مجتمع الفيس بوك، فهل سيأتى اليوم الذى نعلن فيه عن إنشاء مصر الموازية، وهل ستنجح مصر الموازية فى أن تتجنب أخطاء وكوارث مصر الحالية، أم ستكون تكرارا عشوائيا لنفس الآفات والأمراض والمشكلات التى أغرقتنا وآذتنا وأذاقتنا المر؟
المؤشرات تقول إن النتيجة هى "محلك سر" والفساد هو الفساد فقوى المعارضة التى انسحبت من الانتخابات بعد مهازل التزوير كانت على علم تام بأن قاطرة التزوير ستسير، لكنهم رفضوا المقاطعة طمعا فى كرسى هنا أو مكافأة هناك، وهاهو النائب الناصرى السابق سعد عبود يقول بعد الانتخابات فى إحدى الجرائد اليومية أنه لم يكن يتصور أن يصل النظام إلى هذه الدرجة من الإقصاء السياسى لرموز المعارضة، وأنه كان يتخيل أن النظام سيعطى فرصة لبعض رموز المعارضة "المحترمة" لكى تفلت من مقصلة التزوير، والأدهى من ذلك أنه صرح بأنه تلقى تطمينات بألا يتم تزوير الانتخابات فى دائرته، ودوائر جمال زهران وحمدين صباحى وعلاء عبدالمنعم وعدد آخر من "الرموز" وأضاف "ولكن ما حدث فاق كل الحدود، وكنا نعتقد أن النظام يمتلك حدا أدنى من الحس السياسى ولكننا وجدناه فقد رشده وعقله ووصل إلى ما لا يمكن أن نتوقعه" وفى موضع آخر قال: إن الذين أداروا وأشرفوا على سيناريو الإقصاء فعلوا ذلك على غير هوى الرئيس.
كلام عبود الذى فضفض به بعد خسارته للانتخابات وكان فى نيته أن يفضح به من زوروا الانتخابات، فى الحقيقة لم يفضح به إلا نفسه ومن على شاكلته، لأن هذا دليل على أنه لا يعترض على التزوير من حيث المبدأ، بشرط ألا يحدث له أضرار جراء تطبيقه، كما أن جملته الأخيرة التى ادعى فيها أن من أتهمهم بارتكاب التزوير فعلوا هذا على غير هوى الرئيس يحمل مغازلة سياسية واضحة للرئيس مبارك، ويبدوا أن هناك اتفاقا بين المعارضة على تحييد الرئيس كما لو كان شيء متفق عليه، حيث صرح الدكتور السيد البدوى رئيس حزب الوفد صبيحة يوم الانتخابات فى إحدى منشيتات جريدة الوفد بأن الحكومة انحرفت عن توجيهات الرئيس بنزاهة الانتخابات، وبالطبع يحمل هذا التصريح كسابقة مغازلة سياسية للرئيس كما لو أن المعارضين يريدون أن يقولوا له: انظر نحن صدقناك ومازلنا نصدقك ونحبك وهذا ما لا يفعله مساعدوك، وحينما يأسوا من الاستجابة لجأوا إلى ابتكار فكرة البرلمان الموازى الذى لجأوا إلى فكرته رغم أنهم كانوا يعلمون مسبقا أن التزوير سيكون شريعة الانتخابات الأخيرة فهل كانوا يحلمون بأن تزور لهم الحكومة وتلقى لهم ببعض الفتات.
رغبة محتدمة فى نفى الآخر ورغبة أكبر فى الاستبداد وسعى محموم للإمارة ولو حتى على شخص واحد، والفساد هو القاسم المشترك الأعظم بالإضافة طبعا إلى الشقاق والمؤامرات والتربيطات والصفقات التى يحيكونها بليل، صفات مشتركة ستجدها حتما فى معظم الاختيارات المطروحة أمامك، نارين وعليك أن تختار منهما، بلائين وعليك أن تختبر قوتك باحتمال أحدهما، معارضة فاسدة ونظام أفسد، وما بين الحالين يقف المواطن الذى ابتكر هو الآخر كيانات موزاية ليستعين بها على عشوائية ما يعاينه يوميا فى كل تفاصيل حياته، ليصبح الفساد المنظم الذى نعيش فى كنفه، جنة إذا ما قورن بالفساد العشوائى المتوقع، ولنا فى الأمثلة التى لجأ إلى الشعب المصرى خير دليل، ففى ظل غياب دولة القانون وانتشار الفساد ابتكر المصريون كياناتهم الموازية التى يستعينون بها على مواجهة بطش الحكومة وتجبرها أو الهروب من ويلاتها بويلات أكبر.
الفيس بوك على سبيل المثال كان متنفسا للكثير من الشباب ليعبروا عن أنفسهم بحرية، وهذا الموقع العالمى الشهير أصبح بديلا مؤقتا للمجتمع المصرى الذى يعانى من الكثير من الأمراض، لكن اللافت للنظر أن هذا الموقع الاجتماعى الشهير سرعان ما تحول إلى سوق للأمراض الاجتماعية المنتشرة فى الواقع، وفجأة تحول إلى سوق رائج للنصب والسرقة والاحتيال والتحرشات والصراعات، فبدلا من أن نستثمر الفيس بوك ليكون كيانا مجتمعيا بديلا أعدنا إنتاج مشكلاتنا وعقدنا وأمراضنا بشكل جديد أكثر وقاحة وأكثر فجاجة، ويتشابه الفيس بوك إلى حد كبير مع اختراع "التوك توك" الذى أصبح الآن مرضا مستعصيا فى شوارع مصر، فالمصريون تجاوبوا مع هذا الاختراع للتغلب على أزمة المواصلات واعتراضا على "فٌجر" سائقى الميكروباصات" وفى غفلة من الزمن باركت المحليات هذا الاختراع، لأنه يشكل حل موازيا لمشكلة المواصلات، كما أنه لا يكلف الحكومة أعباء إضافية، وفى سرعة مذهلة تنامى هذا الاختراع حتى ظهرت آثاره السلبية التى يصعب حلها، فقد جذب التوك توك آلافا من الشباب الباحثين عن عمل لكنه فى ذات الوقت تحول إلى أكبر عائق للمرور فى الشوارع الجانبية والرئيسية على حد سواء، كما تحول إلى أوكار صغيرة متنقلة لتعاطى المخدرات، وأصبح أداة سهلة لخطف الفتيات الصغيرات، كما قضى هذا الاختراع العجيب على صبيان الورش الفنية فأصبحت الحرف الصغير كالنجارة والسباكة والميكانيكا مهددة بالانقراض لأن "الصبيان" يعزفون عن تعليم الحرف لأن التوكتوك يدر عليهم أموالا أكثر.
أقباط مصر هم الآخرون اخترعوا كيانا كبيرا يلجأون إليه، استعاضوا به عن حكومتهم ونوابهم فى المجالس الشعبية والتشريعية فأصبحت الكنيسة بالنسبة لهم هى مجلس شعبهم وشورتهم ومحلياتهم، فشكاواهم يرسلونها إلى القساوسة، وحاجاتهم يقضونها عن طريق أقاربهم وجيرانهم، ومشكلاتهم الكبيرة يتكفل بها البابا الذى ابتكر الكثير من الطرق ليتمكن من خلالها أن يوصل صوته ويحقق مطالبه سواء عن طريق الاعتكاف أو التفاوض، وكل هذه الممارسات التى وإن كانت تدافع عن بعض الحقوق المشروعة إلا أنها تؤسس لمبدأ القبيلة لا مبدأ الدولة وتجعل السلطة فى مصاف الآلهة التى لا نطلب منها "مطالب" ولكننا نتضرع إليها بالدعوات والاعتكافات، كما أنه يجعل من الكنيسة وطنا ويحول انتماء أبناء مصر الأقباط من الدولة إلى الكنيسة، بالشكل الذى يساهم فى تعميق غربتهم وتأجيج الصراعات والفتن.
من المجتمع الموازى الذى غاص فيه شباب الفيس بوك، إلى وزارة النقل الموازية التى ابتكرها أصحاب التكاتك، إلى الدولة الموزاية التى ابتكرها الأقباط، من كل هذه الابتكارات الموازية نكتشف أن البرلمان الموازى الذى ابتكرته المعارضة لم يكن اختراعا فمصر كلها تعيش "بالتوازى" ونستطيع أن نرى كل يوم كيانا موازيا للكيان الحكومى، فهناك وزارة ثقافة موازية على الأرصفة تروج لكتب الدجل والشعوذة والأبراج والطبخ، وهناك وزارة صحة موازية يقودها الدجالون وأطباء الحجامة وفك المربوط، هناك وزارة تعليم موازية فى الشارع تنسف القليل الجيد الذى يتعلمه الأطفال فى المدارس، وهناك دائما طرق موازية وصرف صحى موازى، ووزارة زراعة موازية، وما بين الكيانات الرسمية التى لا نعترف بها ونعاملها كما لو كانت موازية وفسادها المنظم، وبين الوزارت الموازية التى بينت أصلا على الفساد يقف الشعب المصرى تائها حائرا يبحث عن مصر الحقيقية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة