كالعادة، تبدأ ردود الأفعال وتحركات الحكومات فى الوطن العربى بعد وقوع الأزمات، وإسالة الدماء ووصول الشعوب إلى مرحلة يصبح الجميع فيها جاهزا للانفجار، وكأن الحكومات تتحرك نتيجة ردود الأفعال وليس وفق خطط خمسية وعشرية انطلاقاً من علوم الإدارة التى أصبحت تركز على ضرورة وضع خطط بعيدة المدى تصل إلى خمسين عاماً، يعمل الجميع على تنفيذها وتحقيقها مهما تغيرت الحكومات، واختلفت الأحزاب التى تصل إلى سدة الحكم، بالرغم من أن الوطن العربى لا يعرف التغيير، فالرئيس لايمكن تبديله إلا عن طريق ملك الموت.
فلم تفلح عملية تحديد فترات الرئاسة فى اليمن فى إزاحة الرئيس بعد أن وافق البرلمان اليمنى الأسبوع الماضى على إجراء تعديلات دستورية تمهد الطريق لإعادة انتخاب الرئيس مدى الحياة وكأن 33 عاماً فى الحكم لم تعد تكفى لإشباع الرغبات وتحقيق الطموحات، حيث تولى الرئيس اليمنى الحكم فى عام 1978.
ما حدث فى العالم العربى على مدار الاسبوع الماضى يؤكد أن الأمة العربية لم تعد أمة رد الفعل فقط، بل أصبحت أمة المفعول به أيضاً، فبمجرد وقوع حادث كنيسة القديسين فى الإسكندرية تقمص الجميع دور الفيلسوف الفرنسى الوجودى جان بول سارتر واعتبروا أن مصر أمام منعطف تاريخى، إما أن تؤدى هذه الحادثة إلى إشراقة شمس المودة وتشع نور المحبة والألفة والتعاضد بين المصرين، وإما أن يضحى الآخر وهو الجحيم، جحيم الفتنة والصراعات الداخلية، دون إدراك أن طبيعة تكوين هذا الشعب يصعب معها التفتيت بحكم عبقرية المكان الذى ألهم الشعب المصرى الكثير من الطباع الاجتماعية التى تميل إلى الوحدة والتعاضد سواء على مستوى الأسرة أو المجتمع.
إن البحث عن تاريخ التوتر والصراع الدينى فى مصر يجعلنا نقول باطمئنان إن مصر، بتاريخها الطويل، لم تعرف أى حالة من التوتر الدينى أو بذور العنف الطائفى، باستثناء الخلاف الذى وقع فى مطلع السبعينات والذى يعد أقرب للسياسة منه إلى الدين، لذا فإن الحديث عن الفتنة لا يوجد سوى فى أذهان المنافقين الذين لايريدون لمصر خيراً، والسياسات الحكومية العقيمة التى تؤدى إلى ترحيل وتراكم المشكلات حتى تصبح قابلة للانفجار.
هذا التكوين الجغرافى للشعب المصرى هو الذى جعل المسيحيين بالرغم من أنهم الأقلية بالمقارنة بعدد سكان المسلمين يعيشون معاً فى نسيج واحد دون تفرقه فى الحقوق والواجبات، بل تعتبر بعض كتب التاريخ أن الأقلية المصرية هى الأكثر حظاً والأفضل تعايشاً على مستوى العالم بدليل أن الكثير من أبنائها قادوا البلاد فى بعض الأوقات، والتف الشعب كله حولهم، فقد تولى مسيحيان هما بطرس غالى باشا، ويوسف وهبة باشا رئاسة الوزارة، كما كان مكرم عبيد باشا نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للمالية وغيرهم الكثير.
بعد الحادث بدأت سياسات رد الفعل واضحة وظهرت البرامج التليفزيونية والكلمات المعسولة المنتقاه من هنا وهناك، وبدا كل طرف يجامل الآخر دون التفكير فى صياغة لشكل المستقبل، والبحث فى جوهر الأزمة، إن الحل فى القضية لا يحتاج سوى أن يصبح الجميع فى الوطن مواطنون بنفس الدرجة بعيداً عن الثنائيات، فالثنائية وحدها هى من يشعل نار الفتنة ويجعل الانسان يشعر بالظلم ويفقد إحساسه تجاه الوطن.
المشكلة أن بعض المسيحيين يظنون أنهم مظلومون ومطالبهم يتم تجاهلها، ولكن الحقيقة أن الكثير من المسلمين أيضاً أشد ظلماً وتجاهلا من الحكومة، لذا فإن الجميع مشتركون فى المعاناة ولا يمكن رفعها إلا باعتبار الجميع فى الوطن سواسية، ومن هنا يجب البحث عن آلية لمعالجة قضايا المصريين ككل وليس تقديم كلام معسول لفئة ما من أجل كسب ودها على حساب فئة أخرى، والحديث عن ذكريات جميلة للتعايش بين المسلمين والمسيحيين، فهذا التعايش واقع وسيظل ولا يمكن تغييره إلا إذا شعر أحد الطرفين أنه مواطن من الدرجة الأولى والآخر مواطن من الدرجة الثانية.
اتحاد علماء المسلمين لم يكن أفضل من الحكومات العربية فقد سلك سياسة رد الفعل أيضاً، وأصدر بيانا يحرم فيه عملية انفصال جنوب السودان عن شماله، والمشاركة فى الاستفتاء، ويدعو إلى الوحدة ومواجهة الخطط الإسرائيلية التى تسعى لتفتيت الوطن العربى ومواجهة الحملات التبشيرية التى يمارسها الكثير من الجماعات الغربية فى أفريقيا، فهل تذكر الاتحاد الآن هذا الانفصال؟ وأين كان من سنوات طويلة؟ ألم يدرك أن دور العالم الرشيد أشد تأثيراً من دور الجيوش فى كثير من الأوقات؟ ولماذا غاب العلماء عن تنظيم برامج لدعم ومساعدة الناس فى جنوب السودان وغيرها من البلدان؟
إن مواقف اتحاد علماء المسلمين جاء متاخراً جداً على غرار مواقف الحكومات التى لا تفطن إلى المشكلة إلا بعد وقوع الكارثة، فقد خرجت الجماهير فى الجزائر تشعل الحرائق احتجاجاً على ارتفاع الأسعار وكأن الحكومة لا تعلم حالة الشعب وتردى الوضع الاقتصادى، أما فى تونس فإن بعض الشباب فقد الأمل فى الحياة بعد أن أغلقت فى وجهه كل أبواب العمل، وأصبح محروما من ممارسة كل حقوقه، فلجأ إلى الانتحار فى الشوارع علناً أمام أعين المسئولين على اعتبار أن الانتحار هو الشىء الوحيد المتاح أمامه، ولكن الحكومة التونسية بدلاً من حل الأزمة ووضع الخطط لمعالجتها قامت بقطع الكهرباء عن بعض المناطق بعد أن علمت أن البعض يفكرون فى الانتحار بالصعود إلى أعمدة الكهرباء لتقطع عليهم أيضاً طريق الخلاص من الحياة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة