لا أتفق مع الإخوان، بقدر اختلافى مع الخطب التحريضية المحسوبة على السلفيين، ولا أتمنى وجود الجماعة فى السلطة بقدر ما أرى دورها فى المعارضة "مقدس"، ووجودها فى الشارع حال دون انفراد منابر الفتن بصدارة الوجه الإسلامى لمصر.
لا أتفق مع الإخوان، لكنى أعلم جيداً قدرتهم التنظيمة على ضبط الإيقاع.. يحسب لهم النظام ـ أى نظام ـ كثيراً من الحسابات، ويدرك جيداً أنه ليس وحيداً على الساحة، كما تقيم لها الأحزاب عدة اعتبارات.. فهى الكيان السياسى الأكثر نزاهة على مدار تاريخه الذى تجاور 83 عاماً، لم يكن لها مرشد يكتب تقارير أمنية فى المنتمين تحت لوائها، وصفقاتها مع النظام السابق تظل الأقل فساداً، واستطاعت العمل تحت اسم "المحظورة" عقوداً أثبتت خلالها أن الشرعية تستمد من الشارع وليس من لجنة شئون الأحزاب، وأن العمل العام لا يدار من داخل الغرف المكيفة.
على مدار الشهر الماضى، تحديداً منذ سقوط نظام مبارك، يلاحقك الشيخ محمد حسان أينما كنت بآراء وخطب، نتفق مع بعضها، ونختلف مع كثير منها.. وكان من بين ما تعرض له "المادة الثانية" من الدستور، معتبراً "أنه لو تم المساس بها، لابد أن نضحى بأنفسنا".. أدرك جيداً ما لـ"الشيخ" من شعبية، فصوته الهادئ الذى يبعث السكينة ـ على عكس غالبية ما يدعو له ـ تجده فى أى مكان، وكل مكان.. يلاحقك من "كاست" متواضع فى "توك توك" أو يخرج من سيارة "هامر" تقف بجوارك فى إحدى إشارات أرقى شوارع العاصمة.. لكنى لا أستطيع اختزال مصير الغالبية المسلمة على أرض مصرـ كما فعل الشيخ ـ ببضعة سطور وكلمات، وأعتبر زوالها خطراً على أمة الإسلام، ولا يمكننى إغفال أن "إسلامية" هذا البلد لم تكن تنظر الرئيس الراحل أنور السادات ليقرها دستورياً، وإنما هى واقع ديموغرافى لا يمكن إنكاره.. لذلك فالمساس بالمادة الثانية أو حذفها أو تعديلها لا يتطلب أن "نضحى بأنفسنا" وإنما يتطلب الحوار أياً ما كانت نتائجه.
كلام الشيخ ذكرنى بموقف الإمام حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، من دستور 1923، الذى نصت المادة الثالثة فيه على أن "المصريين لدى القانون سواء.. وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة ولا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين.. وإليهم وحدهم يعهد بالوظائف العامة مدنية كانت أو عسكرية ولا يولى الأجانب هذه الوظائف إلا فى أحوال استثنائية يعينها القانون".. وكان موقف البنا وفق ما ورد فى رسالته "مشكلاتنا الداخلية فى ضوء النظام الإسلامى" أنه ليس فى قواعد هذا النظام النيابى ما يتنافى مع القواعد التى وضعها الإسلام لنظام الحكم، و"يمكن أن نقول فى اطمئنان إن القواعد الأساسية التى قام عليها الدستور المصرى لا تتنافى مع قواعد الإسلام وليست بعيدة عن النظام الإسلامى ولا غريبة عنه".
لست من أنصار "الجماعة"، وأؤمن أن الدولة الإسلامية لا مكان لها فى الوجود إلا القلب، لكنى أرى أن الإخوان لعبت دوراً اجتماعياً ـ لا ينكره منصف ـ استطاعت من خلاله أن تقدم الإسلام فى صورة أقرب ما تكون إلى الاعتدال، وأستطيع القول إن الإخوان ـ رغم اختلافنا معها فكراً ونهجاً ـ قدمت على مدار تاريخها نموذجاً مستنيراً للإسلام السياسى.
وتظل جماعة الإخوان فى تقديرى أقرب التيارات الإسلامية للمدنية.. وآراء قياداتها فى المسائل المتعلقة بـغير المسلمين، وبمصادر التشريع وغير ذلك خير دليل، حتى رأيهم فى المادة الثانية كان أقرب ما يكون إلى الاتزان، وظهر جيداً فى تصريحات للمرشد الأسبق للجماعة عمر التلمسانى فى حوار مع مجلة "المصور" بتاريخ 22 يناير 1982، أكد فيه "أنه لا ينبغى أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للقانون، وأن الدستور كان كيساً حينما نادى بأن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع ولم يقل (المصدر الوحيد)".
آراء الشيخ حسان لا أجدها تختلف عن آراء د.أيمن الظواهرى ـ الرجل الثانى فى تنظيم القاعدة ـ الذى اعتبر فى كتابه "الحصاد المر" أن الديمقراطية "دين وضعى كافر، حق التشريع فيه للبشر". كما اعتبر أن أعضاء مجلس الشعب "أرباباً من دون الله والذين ينتخبونهم ينصبونهم طواغيت معبودة وهذا كاف فى تحريم المشاركة فى انتخابات هذه المجالس".. ربما أغفل الظواهرى قول ربه: "وشاورهم فى الأمر"، أو قوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم"، أو "فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المستشار مؤتمن"، و"إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم كم بطنها"، أو قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه "من بايع أمراً من غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له ولا للذى بايعه".
فى مقابل الرؤية السلفية، كانت آراء الإخوان فى الديمقراطية والحياة البرلمانية، وآليات التغيير السلمى واضحة منذ بداية عهدها على يد الإمام البنا، وظهر ذلك جلياً فى مرافعة المحامى أحمد حسين، رئيس حزب "مصر الفتاة"، دفاعاً عن الجماعة يوم 20 سبتمبر 1949 فى قضية مقتل النقراشى باشا، حيث قال: الإسلام جعل حق تغيير المنكر للإمام، ولم يعط هذا الحق لكل فرد من أفراد الأمة (وإلا أصبح الأمر فوضى)، والحكومة هى التى تقوم فى عصرنا مقام الإمام وهى المسئولة عن تحريم المنكرات وإن لم تفعل وجب على نواب الأمة سحب الثقة منها وإذا لم يؤد النواب واجبهم أصبح على الأمة ألا تمنحهم ثقتها وتنتخب غيرهم". وهذا دليل قاطع على إيمان الإخوان بالعملية الانتخابية وتبنى نهج التغيير السلمى منذ بدايتها.
أدرك جيداً بأن الجماعة، مقارنة بالتيارات الأخرى، الأكثر قدرة على تقديم صورة مستنيرة للإسلام السياسى، لكنى مؤمن بأن تلك الصورة لا يزال ينقصها كثير من التفاصيل، ولنا على الجماعة مآخذ عديدة أبرزها تجاهل آراء إصلاحيين بقيمة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، أمين عام اتحاد الأطباء العرب.. والتجاهل غير المبرر لشباب الجماعة والذى كان واضحاً فى تعامل المرشد السابق مهدى عاكف وكافة قيادات مكتب الإرشاد مع عبد المنعم محمود ومن مثلهم من شباب الجماعة.. فهل تثبت الإخوان قريباً أن لديها القدرة على الثقة فى شبابها، وتخوض بهم معركة فكرية فى مواجهة السلف، أم أن عدوى 25 يناير ستضرب الجماعة من الداخل، وينتزع شبابها شرعيتهم من أى جهة أخرى خارج مكتب الإرشاد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة