كشفت جمعة الغضب الثانية التى حملت العديد من المسميات والأهداف أن مصر لازالت تسير بنفس الطريقة التى كانت تسير بها فى عهد النظام السابق، وبدأ البعض يمارس نفس السياسة ويتحدث بنفس اللهجة التى كان يتحدث بها مبارك وزمرته، وكأن الثورة والدماء التى سالت والأطراف التى قُطعت والأمهات اللاتى ثكلت، والأطفال الذين يتموا ذهبوا جميعاً من أجل تغيير عدة أشخاص فقط، وليس من أجل تغيير نظام كامل وتبديل سياسات وتطهير البلاد من الفساد ومحاكمة الفاسدين وعودة البلاد إلى مجدها وإعطاء كل ذى حق حقه، والتأكيد على أن الجميع سواسية فى الحقوق والواجبات مهما تباينت أرائهم واختلفت وجهة نظرهم.
فقد أصبح رجال النظام السابق وأصحاب المصالح الخاصة يقولون بشكل علنى دون حياء بأن الشعب حقق كل ما يريد وعليه أن يتوقف عن أى مطالبات جديدة أو يفرض رأيه على المجلس العسكرى والحكومة، وأن ما تحقق أكثر مما كان يحلم به الشعب، بل عاد بعض الشخصيات الذين إرتدوا ثوب الثورة لبعض الوقت لضمان استمرارهم فى مواقعهم إلى أسلوبهم القديم وبدأوا يواجهون الشباب عندما يطالبون بحقوقهم بقولهم "ملعونة الثورة إلا عملت فيكم كده انتو هتصدقوا نفسكم ولا أية أنتو شوية عيال"، بنفس الطريقة التى تحدث بها جمال مبارك عندما استقبله أحمد عز فى السجن قائلاً "لقد سمحت لشوية عيال يهزمونا" حتى وهو فى محبسه لازال يصًر جمال مبارك على أن الشعب المصرى شوية عيال كانوا يشتغلون فى عزبته التى تسمى مصر.
لقد كشفت جمعة الغضب الثانية أن بعض التيارات بدأت تمارس الديكتاتورية تجاه كل من يخالفها الرأى أو يعترض سياسيتها أو يحول دون تحقيق طموحاتها، لذا حاولت بعض التيارات مثل جماعة الإخوان المسلمون وغيرها إرهاب الشعب من الخروج فى جمعة الغضب الثانية حتى تبدو الجماعة أمام الرأى العام أنها صاحبة اليد الطولى فى حشد الجماهير وكل المظاهرات التى تخرج بدونها فاشلة.
كما حاول أصحاب المصالح الخاصة إقناع الناس بالاكتفاء بما تحقق وأن ما حدث كاف جداً، وأى مطالبات بأكثر من ذلك تخريب وتدمير، فقد ذكر أحد رجال الأمن السابقين على قناة النيل الإخبارية قبل المظاهرة بيوم واحد أن المشاركين فى ثورة الغضب الثانية سوف يطالبون بتغيير القضاء والأمن والنيابة والجيش متسائلاً هل هذا منطق؟، نقول له ولأمثاله أن كلامك وتحليلك هو الأبعد عن المنطق وأنه نابع من المدرسة الأمنية التى إعتادت فى عهد النظام البائد أن تُكيل التهم للشعب دون سبب، وأن مثل هذا الحديث هو الذى يشعل النار ويعبث بالمجتمع، مثلما تصًر قوات الأمن على معاقبة الشعب على ثورته بعدم العمل بفاعلية.
كما يجب أن نعلم أن هناك فرقا بين الجيش المصرى والمجلس العسكرى لأن الأخير مكون من عدة أشخاص يديرون البلد ويحلون محل الرئيس فيجب انتقادهم عندما يخطئون وتشجيعهم عندما ينجحون ولكن بعض المحللين يريدون أن يصفق لهم الشعب على طول الخط كما كان يحدث مع النظام السابق.
إن مطالبة بعض الثوار بتغيير القضاء والنيابة وحل المحليات لا يعنى هدم المعبد على مافيه، فقد اعترف العديد من رجال القضاء بأن هناك فساد ورجال محسوبين على النظام السابق، ولكن الجميع يعلم أن هؤلاء قلة قليلة لأن القضاء كان ولايزال وسيظل الحصن المنيع الذى يلجأ إليه المصريين عند الأزمات ولكن المطالبة بتطهيره من بعض الشخصيات الفاسدة لا يعنى الإساءة إلى الشرفاء فيه.
إن جمعة الغضب الثانية أكدت أننا لم نتعلم ثقافة الاختلاف بل لازالنا نعيش فى جلباب العهد البائد الذى كان يقصى كل من يختلف معه، فقد شهدت الجمعة الماضية تباينا بين عدة تيارات بعضها شارك فى ثورة الغضب والبعض الأخر شارك فى مظاهرات دعم الجيش، وتولت تيارات أخرى عملية إفشال ثورة الغضب الثانية، وبالرغم من أن الجميع كانوا يهتفون باسم مصر إلا أن ثقافة الإختلاف فشلت فى أن تجمع بينهم جميعاً فى ميدان واحد كما جمعتهم مصر من قبل، وبدا كل منهم يحاول أن يحصل على الجزء الأكبر من الكعكة المصرية.
إن ثورة الغضب قد تكون محقة فى الكثير من مطالبها، بل هناك إجماع من الشعب عليها باستثناء المجلس الرئاسى وتوقيت كتابة الدستور، إلا أن الحكومة والمجلس العسكرى يجب أن يعلموا أن التغيير الفعلى لم يعرف طريقه للكثير من المواقع والمناصب، وأن التغيير الذى حدث كان تغيير فى الثياب الخارجية وليس فى الجوهر، حيث نجد بعض رجال الأمن المتهمين بقتل المتظاهرين على رأس عملهم حتى الآن، ويذهبوا للمحكمة للتحقيق معهم ويعودن إلى مكاتبهم لممارسة مهامهم، ثم ننتظر منهم أن يقضوا على الفوضى فى الشارع وضبط الأمور وإعادة الأمان. إن المنطق يقول أن هؤلاء لن يقوموا بدورهم، بل سيعملون على الانتقام ممن نزع عنهم سطوتهم وكشف عوراتهم وقادهم إلى المحكمة وسيصبحون عبئا على الأمن وجزء من المشكلة وليس الحل.
كما أن إصرار الحكومة والمجلس العسكرى على اختيار المحافظين ورؤساء التحرير والمسؤولين عن الاعلام وعمداء الكليات بنفس الآلية المعمول بها فى العهد البائد، والاعتماد على الجلسات العرفية فى فض المنازعات على حساب القانون وبقاء بعض الشخصيات المثيرة للجدل على رأس عملها وسير الأمور والأحداث بنفس الوتيرة والآلية التى كانت تسير بها مصر فى السابق يضمن بقاء الفوضى ويفتح الباب لاستمرار مسلسل المليونيات. كما أن عدم محاسبة رجال الصف الثانى والثالث فى النظام السابق وخاصة العاملين فى المحليات يؤكد أن الثورة لم تصل إلى الكثير من الأماكن، وبالتالى لازال الفساد مستمر وإن اختلف شكله وطريقته، وخاصة أن النظام السابق كان يعترف بأن الفساد فى المحليات وصل إلى الركب.
كذلك يؤدى التـأخير فى إصدار القرارات إلى إثارة الربية فى قلوب المصرين ، مثلما حدث مع رجال النظام السابق الذين تأخر القبض عليهم مما منحهم الفرصة لترتيب أوراقهم والتخلص من بعض جرائمهم، وبدلاً من الإسراع فى محاكمة مبارك وأسرته ونظامه حتى يسدل الستار على هذه القصة، نجد أن المحاكمة أصبحت ورقة تعتمد عليها الحكومة والمجلس العسكرى فى مواجهة الشارع فمع الإعلان عن مليونية يتم اتخاذ قرار ضدهم لكسب تعاطف الشعب ومحاولة لتعطيل المظاهرات أو الحد من فاعليتها.
إن الواقع يؤكد أن كل الخطوات التى اتخذت حتى الآن من أجل بناء مستقبل مصر خطوات خجولة ودون طموحات الشعب وتطلعاته وأن عملية إعادة الأمن تسير ببطىء شديد، فلم يتم استغلال أكاديمية الشرطة فى تأهيل شباب الجامعات للعمل الشرطي، ولم يتم تطهير جهاز الشرطة، والمحليات وتسريع وتيرة المحاكمات مع عدم الاخلال بقانويتها ونزاهتها، ولم يتم الإفراج عن شرم الشيخ التى أصبحت أسيرة للرئيس السابق ليضيع على مصر أحد أهم معاقلها السياحية ومواردها الاقتصادية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة