كشفت الانتخابات الرئاسية أن المصريين يحملون جيناً غريباً من نوعه على مستوى العالم، فقد ظلت مصر على مدار تاريخها يحكمها أشخاص غرباء ليسوا من فلذات أكبادها، ولا من عصارة طينها ورمالها ونيلها، منذ حكم الأسرات مروراً بالهكسوس والرومانيين والفاطميين والأيوبين والمماليك والفرنسين والعثمانين والإنجليز وغيرهم ممن تعاقبوا على حكم البلاد والعباد، وعندما انتقل الحكم إلى المصريين فى منتصف القرن الماضى، ظل قاصرا على العسكر، واعتبروه حقاً حصرياً لهم، ووصل بهم الأمر فى عهد الرئيس المخلوع إلى الادعاء بأن الشعب المصرى قاصر وغير قادر على ممارسة الديمقراطية، وعندما قرر الشعب المصرى أن يتحرر من أغلال النظام البائد الذى كان فى كثير من الأوقات أشد قمعاً وبطشاً من الحكام الأجانب، قام الشعب بثورة 25 يناير المجيدة، بعدما طفح به الكيل من الظلم والطغيان والاستبداد.
وبالرغم من سلمية الثورة وحضارتها التى أبهرت العالم فإن نتائج انتخابات الرئاسة كانت أشد حيرة، بعدما سمحت للنظام الذى ثار الشعب فى وجهه بالعودة من جديد، وأظهرت أن الذل والاستبداد ما زال يسكن فى أذهان الكثيرين، وأن الصوت الانتخابى ما زال أسير المال، وأن الفلول ما زالوا يديرون عقول الكثير من الناس بالريموت كنترول، لدرجة أن أحد أئمة المساجد قال فى خطبة الجمعة التى أعقبت الجولة الأولى للانتخابات "حاكم ظلوم خير من فتنة تدوم"، وكأنه يدعو الناس إلى القبول بالمرشح أحمد شفيق حتى لو كان ظلما، بنفس الطريقة التى كان يتسلل بها الحكام الأجانب إلى قلوب المصريين، فقد كان نابليون بونابرت يشارك المصريين شعائرهم الدينية ليتودد إليهم ويستعطف قلوبهم لفرض الوصاية عليهم بالرضا مستغلا جين "الطيبة" عند المصريين.
هذا الإمام وأمثاله ما زالوا يغرسون الاستبداد فى النفوس، ويدعون الناس للهروب من التغير نحو الإصلاح إلى الرضا بالاستبداد والطغيان، والقناعة بأن العيش فى جلباب النظام البائد خير من مغامرة التغير.
يبدو أن من عاش فى الاستبداد وشرب منه حتى ارتوى يصعب عليه التحرر بسهولة، فقد زرع النظام البائد الاستبداد فى النفوس من خلال أئمة السلطان الذين يفصلون الفتاوى والأحكام، ووسائل الإعلام التى ظلت ترسخ للسلبية، وتحث على عدم المشاركة الفاعلة فى الحياة السياسية، والعملية التعليمية التى تُخرج متعلمين لا يعلمون شيئاً. أما صناع الاستبداد الحقيقيون فكانوا رجال الشرطة الذين كان يخشى الجميع بطشهم، ويحاول الشعب أن يأمن شرهم، هؤلاء وغيرهم من جعلوا الرشوة فهلوة، والسرقة خفة إيد، وظلم الآخرين والاستيلاء على حقوقهم شطارة وجدعنه، والخامل المسكين صالحاً أمينا، بالرغم من أنه مقهور لا يقوى على شىء، وكأنهم كانوا ينفذون ما قاله عبد الرحمن الكواكبى قبل مائة عام فى طبائع الاستبداد ومصارع العباد.
هذه الممارسات ما زال البعض يروج لها، وخاصة فلول النظام الذين فعلوا كل شىء من أجل تشويه الثورة، حتى يكره الناس التغيير، ويتمنون العودة إلى الماضى الأليم، كما حاولوا أن يضعوا الشعب بين ثنائيات مريرة، وكأنها قدر لابد منه مثل الفوضى أو العودة لنظام الاستبداد، والدولة المدنية فى مواجهة طغيان الدولة الدينية، وكأن البلاد لم تقم بها ثورة تدعو إلى التغير والقضاء على الظلم والتحرر من الاستبداد.
للأسف سقط الكثير من الشعب فى فخ الاستبداد، واستغل الفلول جين "الطيبة" لتحقيق مآربهم، فقد اتحد الفلول، ونجحوا فى اصطفاف أكثر من خمسة ملايين صوت، بحجة البحث عن الأمان دون إدراك أن الأمان لا يأتى على أيدى رجال الفساد والاستبداد، فهولاء لا يعرفون سوى القوة والتعذيب لإجبار الشعب على ما يريدون.
ولكن المشكلة الأكبر تكمن فى أكثر من 25 مليون ناخب الذين ظلوا جالسين فى بيوتهم، وتركوا الآخرين يقررون لهم مصيرهم، نخشى أن يبقوا جالسين فى جولة الإعادة، ويتركوا أعداء الثورة يقررون مصير البلاد، ونصبح ممن قال عنهم الفيلسوف زكى نجيب محمود: إن المتأخرين فى مصر لا يقتدون بالمتقدمين، والمتقاعسون لا يهيمون وراء المجتهدين، إنما يبذلون كل جهدهم ليشدوهم إلى الوراء، فيسيروا مع القطيع، ويتساوى الجميع فى الفشل والكسل والإحباط، ولكننا لن نصاب بالفشل والإحباط وضياع حقوق الشهداء فقط، بل سيعود أنصار مبارك يحكمون الوطن، ويعود عصر الذل والاستبداد من جديد، وكأنه قدر مكتوب على المصريين.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
وائل شفيق
مصر في حاجة إلى اتفاق سياسي لتقاسم السلطة بين المجلس العسكري وقوى الثورة ..
عدد الردود 0
بواسطة:
محمود علام
مقالك ...بيان تنويري للأمة