انكمشت الفتاة فى ملابسها البالية وغاصت أكثر فى الأريكة الخلفية لسيارة الأجرة، وكأنما تحاول الاختباء داخلها. تدور عـيناها الصغيرتان فى محجريهما وهى تتلفت حولها فى رعب حقيقى.
السائق فى المقعد الأمامى لا يختلف شعوره عنها كثيرا رغم فارق السن الكبير بينهما. لا يدرى أين يذهب وقد نقدته المرأة الرحيمة أجر «التوصيلة»، خوفا على الفتاة التى تعمل فى منزلها من تلك الأحداث التى ألمت بالمنصورة، وها هو لا يعرف كيف ينجو بالطفلة أو بسيارته التى هى مصدر أكل عيشه، أصوات التحطيم المختلطة بالسباب والوعيد يقترب رويدا رويدا، لم تمض لحظات حتى بدأ ارتطام الحجارة بجسد التاكسى! صرخة شقت طريقها بين صخب الأحداث المحتدمة! صرخة الطفلة وحجر كبير يكسر زجاج السيارة ليستقر شاجًا رأسها الصغير. تحولت الصرخة إلى أنين مكتوم صدر من بين فكيها الصغيرين المطبقين بعنف ينافس تشنج جسدها الواهن. نوبة صرع هى بلا شك! الجسد النحيل يكاد يتكسر من شدة الارتجاف وعنف التشنجات.
السائق المسكين لا يدرى ماذا يفعل. «يا عالم يا هوووووه عيلة متعورة عدونى أبوس إيديكم أوديها أى مستشفى». ضاعت صيحاته وتلاشت صرخاته بين أصوات التكسير وهتافات الثوار الأحرار اللى هيكملوا المشوار! بعد مفاوضات وأخذ ورد سمح «السلميون» بعبور التاكسى المهشم لينقل الطفلة النازفة المتشنجة لأقرب مستشفى حكومى.
كان هذا أحد مشاهد العصيان «السلمى» «الحضارى» «الراقى» الذى حدث فى بلدتى المنصورة منذ أسابيع، بطلة هذا المشهد طفلة فقيرة تعمل لدى عائلة تربطنى بها صلة قرابة مباشرة، وأثق تماما فى صدق الرواية المأسوية التى لن تُذكر فى المكلمات الفضائية، نظرا لأنها لا تعطى التلميع اللازم لأولئك «المناضلين» الذين يحرص الإعلام على إظهارهم بالمظهر السلمى الملائكى اللائق، بينما يغض الطرف عن أى تجاوزات أخرى تعد هذه القصة واحدة من كثير منها لا يتسع المقال لذكرها. لذا آثرت أن أسلط الضوء على هذه القصة مرة أخرى -وكنت قد كتبت طرفا منها وقتها- نظرا لما علمته هذه الأيام من تردى حالة الفتاة منذ تلك الأحداث، فبعد أن كانت نوبات الصرع التى تنتابها قد تباعدت وصارت لا تتكرر إلا كل بضعة أشهر إذا بالأمر يتفاقم فى الأسابيع الأخيرة منذ أصيبت بالحجر «الثورى» وأصبح المعدل يوميا لدرجة حيرت الأطباء وجعلتهم يطلبون أشعة على المخ تبرع أهل الخير بثمنها ليجدوا نشاط الصرع فى أعلى معدلاته، الأمر الذى فسروه بشدة الضربة أو بسبب الصدمة العصبية التى سببها هجوم من يلقبون بالـ«ثوار» والذى لم تتحمل نفسية الصغيرة هجومهم «السلمى»!
لقد صارت الفتاة أيضا كثيرة النسيان والشرود لدرجة أن تأتى عليها لحظات لا تعرف أهلها! منذ أيام جاءت أمها تشكو مصابها فى ابنتها التى صارت نزيلة شبه يومية فى المستشفيات الحكومية كلما داهمتها نوبة الصرع. ورغم ارتفاع ثمن الدواء الجديد إلا أن الأم رفضت بشمم باكٍ مساعدات أهل الخير قائلة: الفلوس هتعمل لى إيه بس والبنت بتضيع منى. هذه الحالة وغيرها من الحالات المؤلمة التى صارت تتوه فى غمرات الصراع السياسى بين السلطة والمعارضة تمثل جرحا فى أى قلب تبقت فيه بعض ملامح الإنسانية. هذه الحالة ومثيلاتها منسية مغمورة فهى ليست لناشطة لامعة أو مسحول على يد الداخلية ولن توضع فى قوائم الشهداء فهى لم تزل حية تلعق آلامها مع ذويها، لا يشعر بها إلا بعض أهل الخير ممن لا يعنيهم كثيرا الظهور فى الفضائيات والمتاجرة بالدماء والأرواح.
هذه الحالة ومثيلاتها فى رقبة كل أطراف الصراع ممن لم يجدوا إلى الآن حلا يحفظ لمثل هؤلاء الغلابة أمنهم وكرامتهم، هذه الحالة ومثيلاتها هى من تستحق دموعكم يا سيادة الرئيس ويا قادة المعارضة، وإن كنت أعتقد أنها لن تحظى منكم بشىء يذكر لكن يقينى أن لها ربا يعلم ما ألم بها وهو قادر على أن يشفيها ويسخر لها ولأمثالها من يعنى بأمرها وهو قادر أيضا أن ينتقم من كل من كان سببا بغبائه أو طمعه أو عناده أو أنانيته فى جزء من معاناتها.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
eman
هكذا هى اخلاق الرجال