تبقى طموحات الحالمين بصعود قوة الأمة العربية لتحتل موقع قدم على الساحة العالمية أثرًا باقيًا على استحياء، فى زمن العولمة الذى طغت فيه سيطرة قوة أحادية تقريبا، هى الأمة الأمريكية، رغم كونها حديثة التكوين تقريبًا لا تتوفر لديها المقومات الأساسية لبناء أمة موحدة على هذا النحو الذى صارت إليه.
صحيح أيضا، أن قوى أخرى بقيت محلقة فى عالم الأمم الكبيرة الحاكمة فى بلاط صاحبة الجلالة، وأعنى بها هنا بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية، فالأمة الأوروبية جمعت نفسها تحت راية الاتحاد الأوروبى، ولم تعقها أو تعرقل تقدمها عوائق أو عقبات، بالرغم من احتفاظ الإنجليز ببعض خصوصياتهم، واختلاف اللغة بين بعض البلدان المكونة للاتحاد، فقد استمر الأوروبيون فى بناء أمتهم، وأصبحت رقمًا فى الواقع السياسى والاقتصادى العولمى.
نجحت التحولات التى وقعت فى الصين إلى اقترابها من ملعب الكبار، ولم تقتصر التحولات على التحرر من القوالب الجامدة اللينينية، بل تجاوزت حتى الإصلاحات التى أرساها ماوتسى تونج لتصبح قوة عالمية مستقلة.
يتكلم بعض علماء الاجتماع عن فلسفة الإحلال والتبديل التى تحكم ميزان القوى أيضًا، فموازين القوى تتبدل دائما عبر مختلف العصور، وفقا لاقتفاء هذه الأمة أو تلك، لأسباب النهضة، وتلمس عناصر الحضارة التى تجمع بين دفتيها مختلف العلوم والفنون والآداب، ويمكن بحسبة بسيطة مراجعة تاريخ صعود وأفول القوى العالمية وأسبابها، فمنها من صعد وارتقى سلم ريادة البشرية وأضاء سماءها وانتفعت منها كل الأمم الأخرى، حتى تلك التى قهرت منها أو اختلفت معها فى العقيدة، ومنها من صعد كومضة ضوء سرعان ما اختفت وتلاشت، ولم تترك فى ذاكرة التاريخ الإنسانى غير الدمار والدماء وأشلاء.. تركت ذكرى الرعب والخو ف من تسلط الإنسان البربرى على أخيه الإنسان، وهنا يقفز إلى الذاكرة ما فعله المغول الذين داسوا حضارة الأمم التى غزوها، كانت الوحدة العربية حلمًا كبيرًا عاشته أمتنا فى زمن ناصر، الذى أضاء سماء العالم العربى بمعزوفة ثرية عن أحلام الوحدة وصعود العرب كأمة كبيرة قادرة على صنع أمجاد سبق لأسلافنا العظام أن حققوها من المحيط إلى الخليج، شدا العرب مع عبدالناصر «أمجاد يا عرب أمجاد» وتعلقت قلوب العرب بهذا الحلم وخرجت الشعوب تهتف خلف زعيمها الشاب تحيا الأمة العربية.
فشلت التجربة وانفصلت سوريا عن مصر، وتكسرت أحلام الوحدة بين مصر والسودان وبين تونس وليبيا وبين مصر وليبيا على صخرة العناد والزعامة، صحيح أيضا أن أسبابًا مختلفة تسببت فى سقوط المشروع الوحدوى أهمها المؤامرات التى حاكها العدو الاستراتيجى لأمة مسلمة.
منذ سقطت الخلافة الإسلامية عام 24 على يد كمال أتاتورك وتقسم العالم العربى فى سيكس بيكو نشأت مدرستان للتخلص من الاستعمار الأجنبى واستعادة الوحدة الأولى إسلامية، وكان أبرز رموزها حسن البنا ورشيد رضا وجمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، والأخرى قومية برزت فى الشام بشكل خاص، وحمل مشعلها نصارى الشام، وأبرزهم بطرس البستانى، ومن بعده ميشيل عفلق، لكن المنظر الحقيقى لفكرة القومية العربية كان ساطع الحصرى، لكن المدرسة القومية لم تعرف الذيوع والانتشار إلا مع جمال عبدالناصر.
كانت هناك قسمات مشتركة بين المدرستين، أهمها اللغة والتاريخ المشترك ومحاربة الاستعمار وقضية فلسطين، لكنهم اختلفوا حول الدين، بينما ينطلق الإسلاميون من وحى حضارتهم ويعملون على استعادتها، يرى القوميون أن الدين سبب للفرقة بين الشعوب العربية، لا شك أن القوميين القدامى تأثروا بالدعوة القومية التى ظهرت فى أوروبا والتى كان روادها من غير المسلمين، لم يكن الصراع بين جمال عبدالناصر والإخوان صراعا دينيا، وإنما كان سياسيًا.
ولقد قام القوميون العرب، سيما الناصريين منهم فى مصر، بعد غياب عبد الناصر بمراجعة التجربة الناصرية، وخلصوا إلى تنقيتها من الشوائب التى علقت بها، واستنكروا التجاوزات المشينة التى تعرض لها المواطن المصرى فى السجون والمعتقلات، وأكدوا ثبات الهوية الإسلامية، لكن بقيت الفروقات تحول دون إتمام مشروع وحدوى واحد ينهض بالأمة العربية والإسلامية إلى مصاف القوى الكبرى، هل يمكن أن نقيم أمة كبيرة والبعض يقصى البعض الآخر؟
المشكلة، أننا نملك أسباب قيام وبناء أمة كبيرة، لكن أيضًا أسباب الضعف داخلية أكثر من كونها خارجية، تصادم المدرستين أكبر عائق لبناء قوة عربية إسلامية يكون لها آثارها الإيجابية دوليا وإقليميا.
اللافت أننا نفشل فى تحقيق هذه الوحدة بالرغم من أن الإسلام هو دين الوحدة «وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً» «المؤمنون: 52»، وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ «الأنفال: 46»، لا ينبغى أن نستسلم لخريطة التآمر الغربى علينا، البعض منا يعطى لإسرائيل وأمريكا أكبر من حجمهما فيوزع لهما كل ما يحدث بأمتنا من هزائم وتقهقر، وأنهما يملكان خيوط العالم ونسج المؤامرات وفق خطة زمنية معينة ومحددة سلفًا.
الإسلام مكون رئيسى يجتهد البعض لإفشاله، ويجتهد البعض لجعله «فزاعة» تمنع تحقيق التنمية والرخاء فى مجتمعاتنا، وتمنع تحقيق الديمقراطية.
لا شك أيضا أن طرح بعض «الإسلاميين» للمشروع طرحًا باهتًا جامدًا تؤثر فيه شرنقة الاختلاف فى فهم النصوص، بعض هؤلاء يتعامل مع الدولة الإسلامية فى إطار وتصور لا يتزحزح عن فكرة الخلافة والإمام والوالى، لا يفهمون أن الخلافة ليست قالبا جامدا قديمًا، وأن أميز مزايا الإسلام أنه دين صالح لكل عصر ومصر، لديه مرونة كبيرة فى التفاصيل مع ثبات الكليات والعموميات، فتتحقق الوحدة فى إطار أممى اتحادى دون حاجة لاستعادة الشكل التقليدى للخلافة والخليفة، تتحقق الوحدة الكبيرة مع بقاء الدول محافظة على خصوصياتها وأنظمتها.
نحن فى حاجة ملحة إلى تكريس أطر السياسة الشرعية لتتماشى مع الواقع المعاصر، فهل شمر مجتهدونا عن سواعدهم وهجروا التقليد والمحاكاة.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
أ / أحمد العقدة
مائدة التواضع
عدد الردود 0
بواسطة:
خععغغ
ممننتن