وصلتنى تعليقات كثيرة على المقال الفائت، الذى تناول بعض أحداث ولاية محمد على باشا، والشكر فى البداية موصول لكل من شرفنى بتعليقه، وقد توقفت أمام ما طرحه الصديق الأستاذ محمد حماد وآخرون، حول ضرورة إعادة كتابة تاريخ العرب والمسلمين ومصر منذ الفتنة الكبرى، وهى دعوة قديمة متجددة أذكر أنها طرحت غير مرة وما زلت أتذكر مناقشات كنت طرفا فيها عند مطلع السبعينيات، ودارت من حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامى الذى يرى البعض أنه كتب من وجهة نظر السلطة الحاكمة سنية المذهب، ومن ثم جاء منحازا للسلطة ومسلكها ومذهبها، وكانت «الموضة» وقت تلك المناقشات هى علو صوت من زعموا لأنفسهم احتكار «المادية التاريخية» والمنهج الديالكتيكى المادى فى تفسير التاريخ، وكان عبد العظيم رمضان فى مجال التاريخ الحديث والمعاصر يزعم ذلك، ومعه عن نفس الحقبة عبد الخالق لاشين، رغم الهوة الشاسعة التى فصلت وتفصل بين الاثنين، لدرجة العداء الشديد، والترصد المتبادل، وكان آخرون فى الاتجاه نفسه ولكن بدون زعيق!
وما زلت أذكر حالة «الإرهاب العلمى» إذا جاز استخدام مصطلحات فترتنا هذه، عندما كان بعضهم يبدأ كلامه فى «سيمنار» الدراسات العليا أو فى أى مناقشة بعبارة صارمة تقول: «إن المنهج العلمى فى دراسة التاريخ يقتضى أن ننظر إلى التراكمات الكمية وعلاقتها بالتغيرات الكيفية...» ثم ينطلق فى أى كلام بعد ذلك!
وفى تلك الفترة، ومثلما حدث فى مجال تاريخ مصر الحديث والمعاصر، حدث فى مجال التاريخ الإسلامى، وقرأنا لأحمد عباس صالح محاولة فى هذا الاتجاه، ثم ظهر محمود إسماعيل الذى أفصح عن اعتماده المنهج المادى الجدلى، وكتب عن الحركات السرية فى الإسلام.. ولا أريد أن أستطرد فى حكاية صراع المناهج والنزعات الاستعراضية غير المبنية على أسس جادة فى بنية الباحثين أنفسهم، لأن مربط الفرس الذى أريد الاقتراب منه، هو إعادة كتابة التاريخ، أى القضية التى طرحها السادة الزملاء والقراء، لأننا نلاحظ أن محاولة بدأت كما أسلفت، ولأن دعاتها كانوا من أنصار المادية التاريخية فقد اتجه الأمر للحديث عن النزعات والحركات الثورية المعارضة لسلطة الحكم الإسلامى، أى الخلافة السنية. ولا بأس عندى فى ذلك، لأن لكل رأيه وحريته فى أن يطرح ما يشاء، إنما البأس هو أنها محاولة لم تثمر ما كان مرجوًا منها، لأن الذى حدث هو لى «من الالتواء» ذراع المادة التاريخية لكى يتم إثبات صحة المنهج المادى الجدلى من جانب، ومن جانب آخر تم التركيز على الحركات الثورية السرية كالقرامطة وغيرهم، ولم يتم الالتفات إلى ما كان يحدث داخل الحكم نفسه منذ اجتماع سقيفة بنى ساعدة، فيما جسد الرسول- صلى الله عليه وآله وسلم- مسجى ينتظر التجهيز للدفن.. وهنا أستأذن فى أن أذهب مع الذاهبين إلى أن اجتماع «السقيفة» - وليس «الفتنة الكبرى» - كان المفصل الأول والأبرز فى مسيرة الحكم وعلاقات النخبة المؤسسة أو الحاكمة ببعضها البعض ثم علاقتها بالمحكومين، وقبل الاستطراد فى وقائع ما جرى منذ ذلك الاجتماع قد تتعين الإشارة إلى ضوابط أظنها تحكم أى محاولة لصياغة تاريخية جديدة.. وجادة.
ومن تلك الضوابط عدم إسقاط المعايير المعاصرة على وقائع حدثت منذ حوالى خمسة عشر قرنا.. أى أن علينا أن نقرأ الوقائع والظواهر كما هى فى ظرفها الزمانى والمكانى والثقافى والاجتماعى، ثم عدم التعسف مع ما جرى، بأن نبرز أو نهمل ما نريد أو نجرى عملية «قص ولزق» لكى يأتى السياق وما ينتج عنه من نتائج متسقين مع ما نعتقد أنه المنهج الصحيح لا غيره فى التحليل التاريخى.. مثلما أسلفت عن بعض الذين كانوا يباهون بماركسيتهم فاتجهوا إلى التعامل مع المادة التاريخية، بحيث تثبت أن العوامل المادية «البنية التحتية» هى الحاسمة فى تشكيل الظاهرة ككل.. مع أن الأصل هو أن يخضع الباحث لما بين يديه من وقائع وحقائق، فإذا أشارت إلى دور بارز للأفكار والعلاقات الاجتماعية «البنية الفوقية» فى توجيه الحركة التاريخية فلا بأس من ذلك.. بل إن الناضجين علميا يرون أن المادية التاريخية ليست حالة ميكانيكية صماء، وأن العلاقة بين «الفوقى» وبين «التحتى» فى صنع وتوجيه الأحداث مثلما هى العلاقة بين شقى المقص لا تدرى أيهما يقص الورق، وإنما حركتهما معا هى التى تؤدى الفعل وتقود إلى النتيجة.
ثم إننا نصادف مشكلة أظنها لا تزال عويصة إلى الآن وإلى مدى لا أعرفه يختص بها التاريخ العربى الإسلامى منذ البعثة النبوية إلى نهاية وجود الصحابة والتابعين، وهى فترة قد تقدر بقرن من الزمن أو أقل قليلا، هى مشكلة «القداسة»، فكما أن فى الأعمال الفنية والأدبية عشرات المحظورات تتصل بشخصيات الأنبياء والرسل والصحابة وربما التابعين، فإنها هى نفسها المحظورات التى تواجه المؤرخ الذى يحاول أن يدرس تلك الحقب دراسة منهجية يُعمل فيها عقله وأدواته البحثية ويصل إلى خلاصات ونتائج ودروس، ولكنه يواجه إما برادع داخلى يتصل بعقيدته الإيمانية وموقفه من الرسول وصحابته والتابعين، أو رادع خارجى يمثله رأى عام أو هيئات بعينها واتجاهات بذاتها ترى كلها أن لا أحد الآن يملك الحق ولا القدرة على القراءة التاريخية الموضوعية والنقدية - لا الانتقادية - للوقائع التاريخية التى كان الرسول- صلى الله عليه وآله وصحابته - طرفا مباشرا فيها!
وتتصل بتلك المشكلة مشكلة أخرى تواجه كثيرا من الباحثين عندما يتعاملون مع مسألة المصادر التاريخية وهل الكتب المقدسة- وعلى رأسها القرآن الكريم - تعامل كمصدر تاريخى أم لا؟ وكذلك السنة النبوية أعمالا وأقوالا، لأن المصادر لا بد أن تعامل معاملة محددة بالضوابط المنهجية، فتنقد ليتضح مدى صحة ما تحتويه، ويتم ذلك بأدوات منهجية عديدة يعرفها دارسو مناهج البحث، فهل من الوارد اتخاذ النص القرآنى أو النبوى مصدرا فى كتابة التاريخ وإخضاعه للقواعد المنهجية أم لا؟!
ولا أريد أن أستطرد فى الكلام النظرى عن الضوابط المنهجية التى تتصل بأى محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ العربى، خاصة فى حقبه الإسلامية، وأنتهى إلى مثال عملى هو: كيف يستطيع الباحث الجاد أن يقرأ تاريخيا مشهدا فيه عمر بن الخطاب وحباب بن الأرت وسعد بن عبادة وصحابة آخرون وهم يتصايحون حول الإمارة والوزارة وتقسيم مواقع الحكم بين المهاجرين والأنصار، وأن يحدد ذلك الباحث رؤيته كمؤرخ لمواقع الخلل فى ذلك السياق، وكيف تم استبعاد بنى هاشم، وكيف استأثر المهاجرون والقرشيون تحديدا بإمارة المؤمنين التى صارت خلافة بعد ذلك؟!
أرأيت يا صديقى وزميلى محمد حماد ويا كل من اهتم بالقضية كيف أنه حقل ألغام ما أن تدخله بدون أن تحمل أجهزة الاستشعار عن بعد ومعها أجهزة تعطيل كبسولات التفجير، إلا وتفقد حياتك أو على أقل القليل تفقد أطرافك والعياذ بالله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
حقول الالغام لا يمكن ازالتها طالما استمر الكذب والنفاق والتزوير
تاريخنا للاسف مدون بالاهواء وليس الحقائق