قد يتساءل البعض كيف قامت الحضارة الحديثة وتفوقت وسادت مع وجود الانحرافات الخُلُقِية مثل تلك المتصلة بالجنس وتناول الخمر والقمار.. لكن إذا تأملنا الأخلاق وجدناها عبارة عن مجموعة متكاملة من القيم تغطى جوانب الحياة كلها فكرية سلوكية شخصية اجتماعية، الذى يحدث عادة فى الأمم أن يبرز بعض القيم وتسود وتضعف قيم أخرى، والأمم تنهض وتتقدم سواء كانت مؤمنة أو غير مؤمنة بغلبة تأثير مجموعة معينة من القيم مثل: الثقة بالنفس والطموح والإرادة والهمة والشدة والإحساس بالمسؤولية والأمانة والصدق والاتقان واليقظة والنظام والمقاصدية فى الحركة والبسالة والاستهانة بالموت، فإذا برزت مثل هذه الصفات وسادت امتد دورها إلى التخفيف من ظهور أثر بعض الانحرافات الخُلُقِية كالزنا والخمر والقمار.
إن أخلاق القوة كالعزم والشجاعة والمغامرة والطموح والنظام والصبر والغيرية يقابلها أخلاق الضعف كالسلبية والجبن والخوف والتواكل والرضى بالدون والأنانية، وإن أخلاق الحق والخير مثل الإخلاص لله والتعفف عن المحرمات من زنا وخمر و.. والتوبة والتواضع والحياء والعدل مع الصديق والعدو يقابلها أخلاق الباطل والشر كالرياء والنفاق والوقوع فى المحرمات والظلم للغير، وفى مجال نهوض الأمم وتقدمها المادى أو ضعفها لا يضير مع أخلاق القوة وجود بعض أخلاق الباطل والشر، كما أنه فى مجال انحلال وتأخّر الأمم وسقوطها لا يفيد مع أخلاق الضعف وجود أخلاق الحق والخير، إن أخلاق الحق والخير تضاف إلى القوة فتزينها كما أن أخلاق الباطل والشر تضاف إلى القوة فتقبحها، ولكن أخلاق الحق والخير إذا أضيفت إلى الضعف تميع ويضيع أثرها وتصبح باهتة أى أنها تفشل فى جبر الضعف، بينما ينجح الضعف فى تمييع الحق والخير بل ومحقهما أحياناً، ولذلك قال النبى فيما رواه عنه مسلم وغيره: «المؤمن القوى خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كلٍ خير» فماذا يفيد أن توجه قوة هزيلة ضعيفة وجهة الخير؟
كذلك قد نعجب من صدور نوعين من السلوك من شخصين نراهما متماثلين فى خلق من الأخلاق، ولكن هذا العجب يزول إذا أدركنا أن بعض أنماط السلوك تشكل من خلقين أو أكثر، ولكى يصدر سلوك واحد من شخصين يستلزم تماثلهما فى جميع الأخلاق المكونة لهذا السلوك فمثلاً: التقوى + إيجابية = توكّل والجد عمل، التقوى + السلبية = تواكل والكسل، الورع + تحرر فكرى = انفتاح على الفكر لاكتشاف النافع، الورع + تقديس للسلف = تقليد وجمود، الإخلاص لله + تسامح = تعاون، الإخلاص لله + تعصب = طائفية.. . وهكذا. إن نهضة العالم الإسلامى هى: فى أن يجمع بين العلم والضمير، بين العناصر المادية والوجود الروحى، بين الخلق والفن، بين الطبيعة وما وراء الطبيعة.
وإن من أخطر الأخلاق الموروثة عن عصور الانحطاط هى شيوع خلق السلبية والفردية، الذى أنشأ نوعاً من التدين المنحرف «ونعنى به الإغراق فى جانب العبادة الطقوسية تصوراً وكيفاً وكماً بعيداً عن النهج الإسلامى الأصيل الذى كان عليه رسول الله وأصحابه»، وقد نشأ وترعرع بتأثير رد الفعل لمجتمع مترف كثرت فيه صور الفساد من ناحية، وبتأثير الاحتكاك بفلسفات متطرفة غريبة عن الإسلام من ناحية ثانية، هذا النوع من التدين المنحرف كون مدرسة متميزة بخصائص شتى، وقد أسرفت هذه المدرسة فى الحض على الالتفات إلى النفس والعبادة والذكر والزهد فى الدنيا، كما أسرفت فى تصوير الاستبداد والظلم والاستغلال والفقر والمرض على أنه مجرد بلاء من الله جزاء فساد الجماهير وبعدها عن الدين، وأن العلاج الناجح هو تزكية النفس والعودة إلى الله، وقد أفرزت هذه المدرسة ثلاث فئات فى المجتمع المسلم:
«أ» فئة قليلة طلقت الدنيا كلها وهربت من الدنيا كلها ودخلت جحوراً ضيقة، وكان وراء هذا الهروب إما زهد أخرق زينة التصور الخاطئ والوهم الباطل، وإما زهد كاذب فرضه العجز لا العزم، وإما زهد منافق طامع فى الباطن وزاهد فى الظاهر، وهذه الفئة حملت خصائص التدين منحرف الخلقية والعقلية فى أوضح صورها وأشدها حدة، سواء فى تحكيم الهوى أو الوجد أو الذوق مع أقل قدر من العقل أو بدون عقل أو فى هوس كشف حجب الغيب والإتيان بالكرامات الخارقة أو فى الانصياع والاستسلام الكامل للمرشد والشيخ.
«ب» فئة كبيرة من الناس اعتقدت أن الزهد هو الكمال وهو المثل الأعلى، ولكنها عجزت عن ممارسته، فظلت تشعر بالنقيصة لعجزها عن بلوغ الكمال، لم تطلق الدنيا ولم تهرب منها ولكنها مارست الحياة وهى تحمل شعوريا احتقاراً للحياة، أى أنها لم تمارس الحياة كأكمل ما تكون الحياة، ممارسة تعمير شامل وابداع كامل كما أراد الله، حيث قال فى منتصف سورة هود: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» فهى مارست الحياة على استحياء، وهذا الاستحياء لم ينف الطمع، وإنما نفى الإبداع فى جميع المجالات، ثم هربت هذه الفئة من دائرة إصلاح المجتمع إلى شىء قليل من جهاد النفس، وشىء كبير من الانكفاء على الحياة الخاصة من أهل وأولاد ومال، وتعايشت أوضاع المجتمع بما فيه من استبداد واستغلال وفساد، دونما كلمة اعتراض أو انكار, ودونما جهد جاد فى الاصلاح، وهذه الفئة الثانية حملت من خصائص التدين المنحرف الرفع من شأن القلب مقابل التهوين من شأن العقل والسلبية تجاه الشأن العام الاستعداد العام لتقبل الخرافات عن دور الجن والعفاريت والخضوع للمشعوذين والدجالين.
«ج» فئة قليلة مجرمة استغلت أفكار ومعتقدات التدين المنحرف التى أنشأتها هى وروّجتها بين المسلمين لهدم الأمة ذاتياً، وهذه الفئة ادّعت أنها المسؤولة عن الدين، وأنشأت جماعة تحت شعار زائف خادع يسمى الإسلام هو الحل، وقالت: نريد تطبيق الشريعة، وهم فى الحقيقة يسعون إلى هدم الشريعة واستغلالها فقط للوصول إلى السلطة والثروة. وهكذا غلبت السلبية على الإنسان المسلم المعاصر مشفوعة بأقدار من النفاق تزيد وتنقص، فإذا كان محيط المسلم المعاصر متزمتاً متشدداً مغلقاً سايره دونما اقتناع أحيانا،ً وربما لم يكتف بالمسيارة بل دافع ونافق، وإذا كان محيط المسلم المعاصر قد قطع شوطاً فى التقليد الأعمى للغرب سايره أيضاً دونما اقتناع أحياناً وربما لم يكتف بالمسايرة بل دافع ونافق، يغلب على المسلم المسايرة وعدم الاعتراض حتى لو رأى ما يستحق الاعتراض، وذلك نتيجة للتحذير الموروث للإيجابية النشطة، وليست السلبية قاصرة على مجال السلوك بل تمتد إلى التفكير والنظر والبحث، فقليلاً ما يعمل الفرد عقله ويكد ذهنه فى دراسة مشكلة ما وتتبع قضية من القضايا حتى يصل لليقين. إن المسلم المعاصر يتبع الظن ويقنع به، وإن الظن كما قال تعالى لا يغنى من الحق شيئاً، فهذا الإرث طويل المدى فى مجال الزهد فى الدنيا والاحتقار الخفى للحياة وفى مجال ضعف اليقظة العقلية وفى مجال ضعف المروءة والشجاعة الأدبية، إرث يحمل المسحة الدينية «ظلماً وبغياً على الدين» هو من أسباب تخلف المسلمين وانهيار حضارتهم.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
ahmed
كلامك صحيح